رفيقة السفر/بقلم:عبد السلام كشتير (المغرب)

صعدت إلى الحافلة قبل موعد إقلاعها بدقائق معدودة. سارت نحو الأمام بخطوات مهيلة وهي تمسحها بعينيها بحثا عن مقعد شاغر. انتصبت واقفة أمامه وهي ترسل إليه ابتسامة ماكرة وتنظر بغنج بين. ثم سألته بصوت أنثوي جذاب.
– “خاوية هاد البلاصة؟”
رنا إليها ورد عليها بكلام متقطع دون أن يبرح عينيها.
– نعم فارغة. تفضلي.
زادت من حدة الابتسامة لتحقق انتصارا ٱخر، وأضافت.
– ممكن أجلس في مقعدك فأنا أعاني من “دوار السفر” وأحب أن أكون قريبة من النافذة.
– مرحبا، تفضلي و”خدي راحتك”. لن يطول السفر، ساعات معدودة وسنصل إلى وجهاتنا إن شاء الله.
ثم انسحب إلى الممر ليفسح لها المجال لتخلفه في المقعد. شكرته ووضعت حقيبتها في رف الأمتعة، ثم استرخت قليلا وهي تثني على طيبوبته وتضامنه وتضحيته. سألته وهي تلقي نظرة خاطفة على الفضاءات الخارجية.
– على ذكر السفر، ماهي وجهتك؟
– فاس إن شاء الله. وأنت؟
– مكناس.
أجابته وهي تنقل نظرها إليه محافظة على نفس رسم الملامح التي حصلت بها على المقعد المريح.
لم يمر على زمن الرحلة إلا وقتا قصيرا، مسافة الستين كلمتر الأولى، حتى كانا قد قطعا أشواطا كبيرة في التعارف بينهما، وانطلقا يتجاذبان أطراف الحديث حول انشغالات كل واحد منهما وظروفهما وٱمالهما وأحلامهما المستقبلية. أخبرها أنه يتابع دراسته بكلية الٱداب سلك الماستر وحدة النقد. بينما تتابع هي دراستها بكلية الحقوق بالعاصمة سلك الإجازة. أكدت على ذكر كلمة العاصمة كما فعل هو أثناء حديثه عن دراسته، لتثير مخيلته وتشعلها بأمور افتراضية، مؤكدة على أنها تهوى مهنة المحاماة وأنها تجتهد أكثر من اللازم لولوج هذا الميدان، بالرغم من أنه صار حكرا على أسر بعينها وعلى أبناء ذوي الحظوة والنفوذ.
جالا في كل المواضيع ذات الصلة باهتمامهما، فناقشا قضايا أدبية وتحدثا عن المدارس الرائدة في فنون السرد والشعر .. ثم استعرض كل واحد ما قرأه من إبداع محليا ودوليا. تحدثت هي عن القانون ورواده ومصادره ومدى تطبيقه،.. تحدثا في كل شيء وتبادلا أرقام هواتفهما ليستمر تعارفهما مستقبلا.
توقفت الحافلة لسبب طارئ، فهب الركاب نازلين لقضاء مٱربهم، والسائق يؤكد لهم بعدم التأخر لأننا سنتوقف في محطتنا المعلومة.
اعتذرت منه وهي تتأهب للنزول أيضا حتى يفسح لها الطريق. وبصوت خفيف ذكرته بأنها ستقتني أشياء خاصة بها، وفي نفس الوقت استفسرته ما إن كان يريد أن تجلب له معها شيئا ما من المتجر. شكرها مبديا تحفظه ثم استدرك،
– لو كانت قنينة ماء لكان أفضل.
ثم أثنى على كرمها وهو يتابع حركتها نحو الباب الأمامي، مذكرا إياها بالإسراع في الرجوع. التفتت إليه وبملامح مرحة ردت على تذكيره بنبرة سريعة.
– حاضرة، وسنتابع حديثنا، لا تقلق.
بقي هادئا في مقعده يسترجع كل ماحدث منذ الانطلاقة من العاصمة حتى لحظته هاته. لكن هدوءه لم يطل، فقد أخرجه السائق مما هو فيه، حينما سمع صوت محرك المركبة وهي تتحرك.
أسرع إليه مذكرا إياه بأن رفيقته في السفر نزلت لتوها لتقتني بعض أغراضها من المتجر ولم تلتحق بعد بمقعدها.. أجابه بهدوء السائقين المعهود وهو يحرك مقود الحافلة ليعيدها إلى وجهتها.
– “رجع أخويا لبلاصتك”. لقد أقلت السيدة سيارة أجرة صغيرة اختفت بها في دروب المدينة..
أعاد سؤاله مرة أخرى وهو يقدم للسائق أوصاف جارته في الحافلة لعله يكون قد أخطأ في الشخص المعني. لكن السائق أكد أقواله وعززها بما رأى من نافذته لما أوقفت السيدة المعنية سيارة الأجرة الصغيرة.
رجع إلى مقعده منكسر الخاطر وهو يفكر في ما جرى دون أن يجد تفسيرا للأمر. همس في نفسه وهو متدمر من الواقعة.
– لماذا فعلت كل ما فعلته وهي تؤكد على أنها مسافرة إلى مدينة مكناس!
جالت في عقله أشياء كثيرة مزعجة، وصوت حديثها وضحكتها لا زالا يرنان في أذنه.
جلب حقيبتها من الرف ووضعها على المقعد بجانبه. تردد كثيرا وذهنه يشتغل بكل قوته. ثم مد يده إليها. فتحها فإذا به يندهش مما فيها. مجلتين قديمتين وقبعة بالية وفوطتين صحيتين..
جحظت عيناه وفغر فاه وزادت سرعة دقات قلبه لما لمح جيب الجاكيط، التي خلعها حينما كانا في أوج نشوتهما بالحديث عن الحياة والأمل والأحلام والمستقبل، وهو فارغ من حافظة الأوراق الشخصية والنقود…

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!