لآفاق حرة
قومرت
(قصة قصيرة”
بقلم. محمد الحفري. سوريا
ـ خرجت الأمور عن سيطرتي.
قالها وكأننا مجموعة من الجماهير التي يجب أن تتلقى البلاغ الأخير من خطابه، بينما سرعة السيارة تزداد وتزداد في ذلك المنحدر الرهيب، وصارت تلك المرسيدس مجنحة بالفعل كما هي ماركتها.
ربما خانتني الكلمات، ولم أعرف ماذا أريد منها بالضبط، فالسيارة التي كنا نركبها تشبه كل شيء إلا السيارات.
نسينا في تلك اللحظات عبارة : ” اطمئن ودع القلق مع أبو مصعب” المكتوبة على مؤخرتها، وأغمضنا أعيننا انتظاراً لمصيرنا المحتوم لا محالة.
هتف أحدهم : ” قومرت”1
عندها غدا وجه السائق متجهماً وهو مقطبٌ جبينه العريض مثل جبلة إسمنتية تركت لتجف من دون سبب عند حائط قديم ، وربما خطر ببالنا أنه سيفتح الباب ويفلت نفسه مع الريح آملاً النجاة من تلك المصيبة، ولعل ذلك ما راود خواطرنا نحن الركاب، ولكن أنى لنا بتلك الأمنية، وقد كان يربط أبواب السيارة من الخارج بمرس طويل منذ انطلاقنا من بلدتنا حتى وصولنا إلى كراج المدينة.
قال أحدهم من دون أن يفتح عينيه: هذه سفرتنا الأخيرة يا شباب.
رد السائق وكأنه يعتذر للمرة الأولى في حياته : سامحوني، خرجت الأمور عن سيطرتي.
صرخ راكب جديد بعلو صوته : نذراً عليّ سأوزع خمسة آلاف ليرة على الفقراء والمساكين لو نجونا من الهلاك.
كنا سنضحك ملء أشداقنا ونقهقه بأصوات صاخبة لو أن الظروف مواتية لذلك، لأن صاحب النذر لم يكن يملك سوى تلك الليرات الخمس التي دفعها للسائق وهو لابد سيتوسل لعمه صاحب بسطة الألعاب في ساحة المدينة من أجل الحصول على أجرة العودة، وقد ينهره أو يطرده حين يتذكر خلافه مع والده.
تمنى كل واحد منا أن يقول لصاحب النذر: حارتنا ضيقة ونعرف بعضنا.
نذره في حد ذاته جعلنا في حالة من القنوط واليأس الذي لا يوصف، لأنه لو كان يعرف أن أمامنا ولو بصيصاً من الأمل ما أطلق كلماته تلك.
لم ننبس بما يدور في خلدنا، وأحدهم كان يحاول فتح زجاج النافذة عله يصل من خلالها إلى المرس المربوط على الباب، ويفتحه وينقذنا جميعاً حين يهرب إلى المجهول، ونحن من خلفه.
القطار يزعق بصوته الممطوط محذراً من الاقتراب من فتحة الطريق التي يقطعها بطوله، الطويل من دون نهاية، ولا فائدة من تحذيره لنا بعد أن انفلتت مكابح السيارة، ولم يعد السائق يملك سوى تحريك مقودها وكأنه مجرد لعبة ولا مجال للحد من سرعتها في ذلك المنحدر الخطير.
الخطر يلوح على مرمى أعيننا ويعدنا بنهاية قريبة، والسائق يردد باستمرار جملته المعهودة وكأنه يهذي بها: خرجت الأمور عن سيطرتي.
ذلك السائق الجلف بدا أمامنا ضعيفاً وهشاً ، لكنه يستحق الشتم واللعن وأن نضربه على صلعته من الخلف انتقاماً من عناده ويباسة رأسه، وهو كثيراً ما كان يوقف سيارته وسط الطريق حين يطالبه أحد الركاب بإصلاح أبوابها أو تبديل دواليبها المتهرئة أو زجاجها المستعصي على الفتح.
كان يفك بابها المربوط ويطلب من الراكب الذي وجه الانتقاد لسيارته النزول ومتابعة طريقه سيراً على الأقدام، ولا يتنازل عن ذلك إلا بعد أن يتوسط لديه أغلب الركاب طالبين منه السماح ومغفرة خطيئة من تفوه بمثل تلك الكلمات وانتقد المرسيدس المجنحة الوحيدة التي تدب على الطريق بين بلدتنا والمدينة، وها قد تعطلت الفرامل نتيجة إهماله وعدم تفقد زيتها.
لقد غدا جلفاً وقاسياً أكثر من اللازم منذ أن طرد من عمله في التنظيم الذي كان في بلدتنا واقتنائه لتلك الحافلة التي تقلنا الآن نحو الهاوية وأمتار عديدة تفصلنا عن ذلك القطار الطويل والذي نحسبه يمتد ويمتد من دون نهاية، وفجأة ضربت رؤوسنا سقف السيارة من شدة فرحتنا، ونحن نصفق مرددين: ” هيه” بعد أن تجاوز القطار فتحة الطريق وأصبحت سالكة أمام السيارة التي تباطأت سرعتها، وحسبنا أن السائق يشاركنا الفرحة حين قال: أبو مصعب لا يصعب عليه شيء.
نظر في المرآة يتفحصنا وأردف: أنتم جبناء ولا أريد أي واحد منكم أن يركب سيارتي بعد اليوم. أما صاحب النذر، فقد حدق في وجوهنا المصفرة ملياً وقال : لا شيء يستحق أن أنفق من أجله خمسة آلاف ليرة.