بقلم: الباحث: أحمد سليمان البسيوني( فلسطين _ غزة )
الملخص
يتناول البحث رواية “هذيان نواقيس القيامة للروائي محمد جعفر” للروائي محمد جعفر باعتبارها رواية واقعية تسجيلية, يركز البحث على بنية المفارقة الزمنية والإيقاع الروائي: (الاسترجاع والاستباق, التلخيص والوقفة والمشهد) في محاولة لكشف المكونات الفنية لتقنية الزمن الروائي في الرواية, متخذا من النص ومساءلته مساراً لتحديد بنيتها لكونها وسائل رئيسية للسرد الروائي, إذ تسهم في رسم الشخصيات, وتكشف عن مستواها الثقافي, والاجتماعي, والفكري, وتربطها بالأحداث, وذلك لإضاءة بعضها من خلال التلاعب بتقنية الزمن أو لتقديم ما انغلق منها, بهدف دفع عجلة الأحداث إلى الأمام, ولإضفاء الحيوية والتجدد على النص, وتشويق القارئ وحثه على الاستمرار في القراءة.
وقد وظف الباحث هذه التقنيات لتنويع أسلوب السرد, والإحاطة بتفاصيل الأحداث وربطها بالحدث الرئيسي من خلال التلاعب بالنظام الزمني.
اقتضت طبيعة البحث تقسيمه على مبحثين, يسبقها تمهيد وتتلوها الخاتمة والنتائج, يبدأ التمهيد بالحديث عن مفهوم الزمن الروائي في الدراسات الأدبية, وتسليط الضوء على أهمية الزمن في العمل الروائي.
يتناول البحث تقنية الزمن الروائي, يتحدث عن الزمن وأهميته في السرد الروائي, ويتضمن مبحثين, المبحث الأول (المفارقة الزمنية) يتناول فيه الباحث تقنيتا الاسترجاع والاستباق, والمبحث الثاني (الإيقاع الروائي) ويتناول فيه الباحث تقنيات التلخيص والحذف والوقفة والمشهد.
البناء الزمني:
ورد في لسان العرب لابن منظور الزمن والزمان: اسم لقليل الوقت وكثيره, والجمع أزمن وأزمان وأزمنة, وأزمن الشيء طال عليه الزمان, وأزمن بالمكان: أقام به زمانا, والزمان يقع على الفصل من فصول السنة وعلى مدة ولاية الرجل وما أشبهه([1]).
الزمن اصطلاحاً:
عرف الزمن بأنه “مجموعة من العلاقات الزمنية, السرعة, التتابع, البعد, بين المواقف والمواقع المحكية وعملية الحكي الخاصة بهما وبين الزمن والخطاب والمسرود والعملية السردية([2]).
يتمثل الزمن في كونه: “الزمان أو الأزمنة التي تتحدث في أثنائها المواقف والوقائع المقدمة (زمن القصة وزمن المسرود وزمن الحكي) وتمثيلها( زمن الخطاب وزمن المسرود والزمن الروائي)([3]). هذا يعني أن الزمن يحدث خلاله مجموعة من الأحداث والمواقف تكون مرتبطة به إما ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا.
ترى مها القصراوي أن الزمن “يمثل محور العملية السردية وعمودها الفقري الذي يشد أجزاءها, كما هو محور الحياة ونسيجها, والرواية فن الحياة فالأدب مثل الموسيقى فن زماني, لأن الزمان وسيط الرواية كما هو وسيط الحياة”([4]).
استحوذ العنصر الزمني على الاهتمام الأكبر من قبل النقاد إذا ما قورن ذلك باهتمامهم بالعنصر المكاني, علما بأن العلاقة بين الزمان والمكان بما تحمل من تلازم وترابط هي من أكثر العلاقات وضوحا في النص السردي, وتعتبر تقنية الزمن هي من أدق التقنيات التي تؤثر في بنية الرواية, وهي التي تحكم الأزمنة المتغيرة في نطاق رؤية الراوي.
تعزو سيزا قاسم أسباب اهتمامها بتحليل الزمن إلى أنه عنصر محوري, وعليه تترتب عناصر التشويق والإيقاع والاستمرار, وإلى أنه يمثل إلى حد بعيد طبيعة الرواية وشكلها, وترى الباحثة أنه ليس للزمن وجود مستقل نستطيع أن نستخرجه من النص كالشخصية أو الأشياء الموجودة في المكان, فالزمن يتخلل الرواية كلها, ولا نستطيع أن ندرسه دراسة تجزيئية فهو الهيكل الذي تُشيّد فوقه الرواية([5])
المبحث الأول: المفارقة الزمنية
أولا: تقنية الاسترجاع
وهو الرجوع بالذاكرة إلى الوراء البعيد أو القريب, “وقد سيق هذا المصطلح من معجم المخرجين السينمائيين, حيث بعد إتمام تصوير المشاهد, يقع تركيب المصورات, فيمارس عليها التقديم والتأخير, دون أن يكون بعض ذلك نشازا طالما يظل الإطار الفني لعرض القصة محترما”([6]).
يعرف جيرالد برنس الاسترجاع بأنه “مفارقة زمنية تعيدنا إلى الماضي بالنسبة للحظة الراهنة أو اللحظة التي يتوقف فيها القص الزمني لمساق من الأحداث ليدع النطاق لعملية الاسترجاع والاسترجاع له فسحة معينة وكذلك بعد معين .. وإكمال الاسترجاع أو العودة يملأ الثغرات السابقة التي نتجت من الخوف أو الإغفال في السرد والاسترجاعات المتكررة والعودة تعيد تكرار ذكر وقائع ماضية”.([7])
الاسترجاع في بنية السرد الحديث تقنية زمنية تعني: أن يتوقف الراوي عن متابعة الأحداث الواقعة في حاضر السرد, ليعود إلى الوراء, مسترجعا ذكريات الأحداث والشخصيات الواقعة قبل, أو بعد الرواية يعرفه جيرار جنيت في كتابه “خطاب الحكاية” بأنه ذكر لاحق لحدث سابق للنقطة التي نحن فيها من القصة([8])
تعيد عملية الاسترجاع زمن السرد إلى أحداث حدثت مع الشخصيات في الماضي, ويحقق الاسترجاع عددًا من المقاصد جمالية وفنية منها: ملء الفجوات التي أحدثها السارد وراءه, تقديم شخصية جديدة دخلت عالم الرواية, اختفاء شخصية ثم عودتها للظهور من جديد.
ثانيا: تقنية الاستباق
تقديم الأحداث اللاحقة الواقعة في امتداد بنية السرد الروائي, ويعد الاستباق عملية سردية تتمثل في إيراد حدث آت أو الإشارة إلية مسبقا أو هو “الولوج إلى زمن المستقبل”([9]). ومن أبرز خصائص الاستباق كون المعلومات التي يقدمها لا تتصف باليقينية فيما لم يتم قيام الحدث بالفعل, فليس هناك ما يؤكد حصوله([10]).
وعرفه مراد مبروك بأنه “تداعي الأحداث المستقبلية التي لم تقع بعد واستبقها الراوي في الزمن الحاضر أو في اللحظة الآتية للسرد وغالبًا ما يستخدم فيها الراوي الصيغ الدالة على المستقبل لكونه يسرد أحداثًا لم تقع بعد على أن هذه الصيغة تتغير وفقا لطريقة السارد”([11]).
وللاستباق بعد زمني يمتد من اللحظة الراهنة زمن الحضور في اتجاه المستقبل ويأتي مساهما في عرض الأحداث, فيقدم بعضها أو يشير إليها, كاسرا بذلك وتيرة السرد مشوشًا ترتيب الوقائع كما وردت في الحكاية, كما تتنافى تقنية الاستباق وفكرة التشويق التي تكون العمود الفقري للنصوص السردية الكلاسيكية التي تسعى جادة نحو تفسير اللغز.
وقد يكون الشكل الروائي الوحيد الذي يستطيع الراوي فيه أن يشير إلى أحداث لاحقة هو شكل الترجمة الذاتية أو القصص المكتوب بضمير المتكلم, حيث إن الراوي يحكي قصة حياته حينما تقترب من الانتهاء ويعلم ما وقع قبل لحظة بداية القص وبعدها ,ويستطيع الإشارة إلى الحوادث اللاحقة دون إخلال بمنطقية النص ومنطقية التسلسل الزمني([12]).
المبحث الثاني: الإيقاع الروائي
أولا: التلخيص
يقصد به تسريع السرد, إذ يرى جيرار جنيت “السرد في بضع فقرات أو بعض صفحات لعدة أيام أو شهور أو سنوات من الوجود دون تفاصيل أعمال أو أقوال فمن الواضح أن المجمل (الخلاصة) ظل حتى نهاية القرن التاسع عشر وسيلة الانتقال الأكثر شيوعا بين مشهد وآخر, وعلينا أن نضيف أن معظم المقاطع الاستعادية ولاسيما ما سميناه استرجاعات كاملة تنتمي إلى هذا النمط من السرد”([13]).
يعد التلخيص عملية سرد طويلة من الزمن في بضعة أسطر أو فقرات حيث “تعتمد في الحكي على سرد أحداث ووقائع يفترض أنها جرت في سنوات أو أشهر أو ساعات واختزالها في صفحات أو أسطر أو كلمات قليلة دون التعرض للتفاصيل”([14]).
ثانياً: الوقفة
هي أبطأ سرعات السرد وتتمثل “بوجود خطاب لا يشغل أي جزء من زمن الحكاية”.([15]) وبعض الوقفات تكون “وقفات استطراديه, بل خارج القصة, ولها طابع التعليق والتأمل أكثر مما لها طابع السرد”([16]) وقد تكون الوقفة وصفية, أي يكون الوصف أساسا لها, فهي تتجه إلى التركيز على الوصف من ناحية كونه فعالية سردية زمنية أي تشتغل داخل الزمن السردي, وتتعدد موضوعاتها فقد تكون وصفا للأماكن أو الشخصيات أو الأزمنة أو الأشياء.
والوقفة هي توقف للأحداث واستمرار الخطاب عن طريق الوصف الذي “يقتضي عادة انقطاع السيرورة الزمنية”([17]). تتمثل الوقفة في عملية الوصف دون انقطاع لعملية السرد ووراء كل وقفة في الرواية, هناك وصف إما لشخصية أو طبيعة أو شيء معين, وهذا ما يجعل من الوظيفة مشتركة بين عملية الوصف والوقفة في العمل السردي, وينشأ عنه ما يسمى بالسرد الوصفي, ولا يمكن أن تكون الوقفة دائما وصفا, بل قد تكون عملية خروج السارد عن المسار الحكائي لتقديم بعض التعاليق والآراء.
ثالثاً: المشهد:
يعمل المشهد على إبطاء السرد, “ويكون التناسب بين حيز المغامرة وحيز قصتها في الخطاب وأكثر ما تكون في الحوار, إذ يفترض أن حيز الزمن الذي استغرقته المغامرة مساوٍ للحيز الذي قصها وهذا راجع إلى أن الحوار تمثيل لما حصل في الواقع”.([18]) وبذلك ينقل تدخلات الشخصيات كما هي في النص بالمحافظة على صيغتها الأصلية دون تدخل الراوي, وبالتالي فإن كلامها أو حوارها مطابق للزمن الذي قيلت فيه تماما, هذا من الناحية النظرية على الرغم من أن “الناقد جيرار جنيت ينبه إلى أنه ينبغي دائما أن لا نغفل أن الحوار الواقعي الذي يمكن أن يدور بين أشخاص معينين قد يكون بطيئا أو سريعا حسب طبيعة الظروف المحيطة كما أنه ينبغي مراعاة لحظات الصمت أو التكرار مما يجعل الاحتفاظ بالفرق بين زمن حوار السرد وزمن حوار القصة قائما على الدوام”.([19])
يتوزّع ورود المشهد في الرواية بين الحوار والمونولوج الداخلي وقد يكون الحوار بين شخصين أو بين جماعة, وذلك من أجل توضيح فكرة أو تأكيد شيء, “ويتميز المشهد بتزامن الحدث والنص حيث نرى الشخصيات وهي تتحرك وتمشي وتتكلم وتتصارع وتفكر وتحلم”([20]) ومن خلال المشهد يتم “الكشف عن الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات الروائية التي يعرضها الراوي عرضا مسرحيا مباشرا وتلقائيا”([21])
المبحث الأول: المفارقة الزمنية
أولا: الاسترجاع: ورد الاسترجاع في الرواية بشكل واضح وذلك رغبة من الكاتب لعرض أحداثا تفسر لنا الحاضر, وللعودة إلى الوراء لعرض أيام الطفولة الجميلة وتساقط الأمطار هاربا من سخط الحياة والتعب والهموم التي تحيط به, يقول السارد ص11:
“تذكرت أيام الطفولة المحببة, وأغنية المطر
يا نوّ صبّي صبّي ما تصبيش عليا
حتى يجي حمّو خويا ويغطيني بالزَّربية
بهبل أعدت تهجيتها وغناءها, كذلك استعدت رقصة زويا”
يسترجع السارد ذكريات الطفولة وأغنية المطر هاربا من ضيق الحياة وهموها وما يحيطه من أوجاع ومشاهد باهتة ومضببة وواقع مظلم يحيط به.
يستعيد السارد ما حصل معه في المساء من تقليب للأوراق, فهناك شيئا ما يشغله ويقلقه وهذا ما يتناسب مع حالته الشعورية التي تشعر الأرق والقلق يقول السارد ص12:
“تذكرت كيف بقيت أقلب فيها إلى وقت متأخر من الليل أو هذا ما كنت أفعله كل ليلة حتى أقول أني بصدد فعل شيء ما, مادمت منذ صباي أكره العاطلين”
كثيرا ما يتجنبون الجلوس مع السارد بل ويتحاشون حديثه ومناقشته أفكاره, إلا أن يسترجع أن هناك امرأة أحبته, حتى تلاشى ذلك الحب دون سابق إنذار فتتركه وترحل, يقول السارد ص16:
“كان هناك استثناء لي في هذه الحياة, لقد كانت هناك امرأة أحبتني جميلة تصغرني بسنوات عديدة, حبيبة حالمة تهوى التقبيل بفم مزموم قبلة العصفور, ثم لا أدري كيف تلاشت الأحضان التي طوقتنا وكيف خفتت نارها وتبدلت إلى جليد صاقع, حملت حقائبها ذات موسم ورحلت دون إنذار ودون أن تضطر إلى قول كلمة”
يسترجع السارد أحداثا صعبة جرت في التسعينيات, على لسان رشيد الذي اتخذ من محاربته وهو ورفاقه الجنود وسيلة للفساد وكأنه يعطي لنفسه رخصة بممارسة الفساد فقط لأنه تصدى للارهاب باوامر من رجال السلطة الذين يقبعون خلف مكاتبهم, وأنهم السبب في وقوعه بالفساد يقول السارد: ” فعلناها في التسعينات عندما كان الكبار فينا ينتكصون ويخلون الصفوف الأولى لنا نحن المجندون حديثا, ويستعملوننا كدروع لهم في محاربتهم للإرهاب… تردنا على القانون وضد من يصدر الأوامر”
ثانيا: الاستباق: ظهر الاستباق في رواية الشتات وذلك لتشويق القارئ وحثه على القراءة, وكسر الملل والكشف عن أحداث ستحدث لاحقا, يدرك السارد ويتوقع من الكاتب أن لا يطلب منه أن ينسى الفكرة من ذهنه يقول السارد ص 13: “ثم لا أظن أنك ستجبرني أن أقي هذه الفكرة عن ذهني بعدما سكنتني واقتنعت بها, وأنا لن أقبل أن أطوح بها بعيدا عني ”
يشير السارد إلى الكتاب أصحاب الهالات المصطنعة والمفبركة, وأنه يعلمهم ويستطيع أن يعريهم, كاشفا النقاب عن فضائحهم وأسرارهم يقول السارد ص14:
“وإن كنت أتوقع أنه سيجبن عند مواجهتك ولن تحصل على شيء معه ذي بال, وأنه سيخذلك مادامت الصفقة مستمره بينه وبين مورده من الروايات, ثم لا شيء يهم أو تلك الخلاصة التي انتهيت إليها من خلال هذه الحياة الكريهة”
يتبأ السارد بحال الكاتب الذي يخاطبه طالبا منه أن ينشر مخطوطته ويطبع عليها اسمه, فيختلق له الأعذار لذلك بقوله أنك الآن في هذا الوقت حالك وأنت تقرأ مخطوطتي يشبه حالك وأنت تكتب رواية لك يقول السارد ص 14: “وكمثال على ذلك يمكنني أن أجزم أنك الآن تفترش سريرك وحولك فوضاك من الكتب والأوراق, بينما أنت مستغرق في قراءة رسالتي ومخطوطتي, ثم أليس هذا حالك حقا كلما باشرت أمر ما له علاقة بالكتابة أو القراءة”
يتنبأ السارد بما سينعته الأخرون لطلبه من الكاتب أن ينشر مخطوطة ويوقعها باسمه, وأنه سيفسرون الأمر على أهوائهم, فيمازحه لو كنت أنثى جميلة لأدرك الناس بادرتي في طلبي يقول السارد ص16:
“سيرون أن هناك إسرافا ما.. سرا غامضا.. ولم يهنأ لهم بال, وقد يخوض أخرون في تفسير الأمر على هواهم وينحون به إلى جميع النواحي غير تلك التي قصدت, حتى إني أتصور أن هناك من هو جاهز ليصمني بالشذوذ مثلا”
المبحث الثاني: الإيقاع الزمني
أولا: التلخيص: ورد التلخيص في رواية هذيان نواقيس القيامة, يصور لنا الكاتب مشاهد سريعة تتضمن سرد أحداث وقعت في الماضي, فيذكر لنا مشهداً أو حدثاً مختصراً فلا يطيل في سرده كي يحافظ على لذة التشويق عند القارئ, وقد نوع الكاتب في استخدام التلخيص ووظفه في تسريع الزمن الروائي.
بعد وقوع جريمة القتل للفتاة مريم, تذهب والدتها لمتابعة القضية في مركز الشرطة ويبدو عليها علامات الإرهاق والتعب, ويصورها الكاتب في حالة رثة مجهدة متعبة يلخص كمية الألم والمعاناة التي ترتسم على وجهها يقول السارد 31:
“ملامحها هذه المرة تبدلت المرأة التي تقف أمامي الآن مهترئة ومنهكة وواضح أنها ترزح تحت عبء يثقلها وأنها هرمت وتجازت سنها بكثير”
يجسد السارد الألم والمعاناة التي لحقت بالأم إزاء قتل ابنتها دون معرفة الجاني ومعاقبته, وقد لخص لنا معاناة والدة أصابها الاهتراء والهرم حتى تجاوزت عمرها بسنوات كثيرة.
وفي نموذج آخر يلخص السارد حجم القهر والذل الذي لحق بالكاتب موحد جابر وكيف تعرض للسجن والتعذيب تاركا شامة على ناصيته أثر التعذيب, يقول السارد ص144:
“تلطخ وجهه بالعار وقضي الأمر”
ثانيا: الوقفة
نجد في روايات الكاتب وقفات وصفية متعددة, كأن يقف السارد واصفا شخصية أو مكان معين, كما يقف لتقديم بعض التعاليق والشروحات, يهدف الكاتب من خلالها تقريب صور الشخصيات إلى ذهن القارئ, للوقفة فضل كبير عندما تأخذ بيد القارئ إلى عالم الشخصيات الروائية وما يحيط بها.
يصف السارد صباحه وجسده وما حل به بسبب المشاهد المأساوية المشوهة التي تكمن له وتترصده لتنغص عليه حياته, يجسد ذلم من خلال إشارته إلى عينيه وجسده المتهالك يقول السارد ص12:
“ثم أين راحت تكمن لي وتترصدني تلك الصور والمشاهد المشوهة والمؤسية التي كانت تزورني كل ليلة معربدة مانعة النوم عني, فلا أنام إلا بعينيين مسهدتين مخنوقتين.. ومن حال جسدي المستهلك والهالك, وإن كنت الليلة قد غصت في نوم عميق لم أعتده منذ زمن طويل”
يجتاح السارد الأرق والتعب من الصور والمشاهد التي تختزن في ذاكرته فتؤرقه وتشعره بالأسى, مما يعيق نومه فترات طويلة, ويهلك جسده, وكأنه يمر بوعكة نفسية جراء ما تشكل في ذاكرته أثر على صحته.
يستخدم الكاتب الوقفة في وصف مدينة قادوس المداح وذلك كي يشير إلى حدث ويطلعنا على تفاصيل أخرى تخص الشخصيات ويكشف لنا عن بواطنها وما يتشكل في نفسياتها فيما بعد في الرواية يقول السارد ص66: “قادوس المداح مدينة قديمة الأصل تنضح جوانبها برائحة القذارة بشوارع ضيقة ملتوية ومتداخلة فيما بينها, مساكنها أشبه بالبناء الفوضوي تتكدس فوق بعضها البعض في صور منفردة ممسوخة تثير استهجان الناظر إليها لما فيها من قبح”
يصور الكاتب هذه المدينة وما يعتريها من قذارة وفوضى, هذا المكان الذي يتخبئ فيها الإرهاب والفساد, وعلى الشرطة اقتحامه بأمر من صاحب السلطة الذي لم يعبئ بأرواح عناصر الشرطة, فيتشكل لديهم هاجس الفساد الذي ما يفتئ إلا وأن يسيطر على نفوسهم فيشاركون في الفساد القائم.
يصف الكاتب لنا الغرفة التي يقبع بها الصحفي الذي عمل على التحقيق في قضية مقتل الفتاة, وطرد من عمله في الجريدة واستمر في البحث عن الحقيقة حتى آل وضعه إلى المصحة النفسية بسبب نفوذ أصحاب السلطة, يقول السارد ص171: “المكان الذي ولجته لم يكن غرفة مريض كما تصورت, بل حجرة واسعة ضمت ثمانية أسرة رطبة ليس بها إلا كوَّات في أعلى الجدار ينفذ منها نور شحيح”
ثالثا: المشهد:
عمد الكاتب من خلال تقنية المشهد أن يكشف عن الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات, والافصاح عن الأحداث من خلال حوار بين شخصيتين يتعرف القارئ من خلاله على شخصية ما أو كيفية حدوث الأحداث, وقد ورد المشهد الحواري في رواية هذيان نواقيس القيامة في مواضع عديدة, ويكشف السارد عن الفساد الذي يعتري أصحاب السلطة والتابعين لهم, يسعى الصحفي للبحث في قصة مقتل الفتاة والتي لم تكن قصة عادية فيفاجأ بموقف رئيس التحرير الخائف من الكشف عن أسماء رجال لديهم السلطة, وهنا يشير الكاتب إلى الفساد الإعلامي, يقول السارد ص33:
“- أنت أكيد مجنون هل تسعى إلى توريطنا.
- كيف أورطكم سيدي؟
- أنت تشير إلى أسماء بعينها وتنبش خلف شخصيات لها ثقلها.
- لا تجعل من رأسك صخرة, ولا تكن عنيدا, انس الموضوع واهتم بلقمة الخبز.
يعالج الكاتب النزاهة والشفافية في الإعلام والتي تعد مصدرا مهما في التغيير والوقوف في وجه الفاسدين من أصحاب المناصب الذين يمتلكون السلطة.
يعمد الكاتب إلى استخدام تقنية المشهد لما فيها من فسحة لتبادل الحوار وتقديم الآراء, خاصة في الأمور السياسية التي تتعلق بالبلد, يقول السارد ص52:
“- لا جديد إلا أننا نراقب الوضع عن كثب بعد قرار السلطات رفع الضرائب على المواد الاستهلاكية.
- إننا في بلد مجنون, لا أفهم كيف تقرر السلطات رفع الضرائب في عز الأزمة.
- ما نحن إلا قطع شطرنج يتم تحريكنا وفق أهواء اللاعبين الكبار”.
يجسد الكاتب المعاملة السيئة التي يتعرض لها الناس في السجون على أيدي المحققين, وتوجيه الشتائم لهم ونعتهم بالحثالة دون الإكتراث لأي من مبادئ الاحترام, حيث يضعون والد الفتاة المقتولة في السجن ضمن لوائح الاتهام بمقتل ابنته يقول الساردص59:
“- ما بك يا حسن هل صرت تتعاطف مع الحثالة؟
- لا فقط أقوم باستشارتك يا سيدي.
- بالمطلق لن يهمني أمره.. ضعه مع الآخرين.
يوظف الكاتب تقنية المشهد في كشف الفساد المستفحل في الذين يتمتعون بالسلطة, حيث تظهر الرشوة في السماح بدخول البضاعة الممنوعة والواجب إتلافها, يقول السادر ص153:
- “الأمر بسيط لا تقلق سأعمل كل ما في وسعي لتعود بضاعتك.
- لن تتلف ولن تبقى محجوزة ثق سأهاتف المسؤول في مديرية الأملاك في الدولة.
- أنت تدري لا تسعف في القضية إنها بضاعة ممنوعة وحجزت باسم القانون وتكلفك قليلا.
- آه طبعا متأكد هديتي محفوظة لكن أتحدث عن عمولة المسؤول التي سيعالج المسألة”
يبرز الفساد السياسي حينما اكتشف الشرطي رشيد وما فعله من جرم مشهود بالأدلة, يوليه رئيسه مهام جديدة ويعده بترقيات ويعطيه كافة الصلاحيات مقابل أن يسيطر على المدينة ولا يسمح بخروج الناس في المظاهرات تطالب بالتغيير يقول السادر ص159: “أريد سيطرة كاملة على المدينة لا أريد شغبا هنا تكفل بالوضع وأعدك بترقية جديدة
- وماذا عن صلاحياتي,
- لك كل الصلاحيات اللازمة.
- بما فيها حرية الاعتقال والاستنطاق ومن يثبت تورطه ضاجع أمه إن شئت”.
الخاتمة:
استطاع الكاتب تجسيد معاناة الأسرى وآلامهم والصعوبات التي يمرون بها في سجون الاحتلال الإسرائيلي بغية تحطيم معنوياتهم وعدم العودة إلى متابعة النضال والدفاع عن حقوقهم وعن أرضهم ووطنهم, قص لنا الكاتب من خلال الرواية أخبارا للأسرى وتضحياتهم وآلامهم وبعدهم عن أهاليهم, وانقضاء العمر في عزلتهم في السحن, كشف الكاتب في رواية عن الأساليب الوحشية القذرة التي يتبعها الاحتلال في التحقيق مع الأسرى وبرزت دنيوية هذا المحتل الذي لا يعرف الإنسانية, فيما وفق في استخدامهم لتقنيات الزمن فاستفاد من الاسترجاع والاستباق والتلخيص والوقفة والمشهد في تصوير حال الأسرى داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي, توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج:
- رواية الكاتب رواية واقعية تسجيلية, تؤرخ لقضية الأسرى ولمعاناتهم داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي.
- عمد الكاتب إلى توظيف تقنية الاسترجاع, بالرجوع بالذاكرة إلى الوراء, وذلك لملء فراغ قد يتجاوزه عند السرد كما وظفها لتوضيح ما انغلق على القارئ من الماضي.
- استعمل الكاتب تقنية الاستباق من خلال تقديم مجموعة من التنبؤات التي تعمل على تشويق القارئ ودفعه للقراءة.
- نوّع الكاتب في استخدام تقنية التلخيص, ووظفه في تسريع السرد.
- استخدم الكاتب الوقفة لوصف أحداث, أو عندما يصف شخصية أو مكان, ليخفف من ضغط الأحداث الرئيسية.
- عمد الكاتب من خلال تقنية المشهد أن يكشف عن الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات, والافصاح عن الأحداث من خلال حوار بين شخصيتين روائيتين
قائمة المصادر والمراجع:
- رأفت حمدونة, رواية الشتات, مؤسسة مهجة القدس, فلسطين, ط2, 2015
- ابن منظور, لسان العرب, دار صادر, بيروت, لبنان, 1997, ط1.
- أحمد حمد النعيمي ,إيقاع الزمن في الرواية العربية المعاصرة, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت, ,2004, ط1.
- آمنة يوسف, تقنيات السرد في النظرية والتطبيق, آمنة يوسف, تقنيات السرد في النظرية والتطبيق/دراسات-أدب, ط2, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, اليمن, 2015.
- حسن بحراوي ,بنية الشكل الروائي: الفضاء- الزمن-الشخصية, المركز الثقافي العربي, بيروت, الدار البيضاء, ط1, 1990.
- حميد لحميداني, بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي, ط1, المركز الثقافي العربي, بيروت, الدار البيضاء, 1991.
- سيزا أحمد قاسم, بناء الرواية, دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ, الهيئة المصرية العامة للكتاب, مصر, 1984.
- عبد الملك مرتاض, تحليل الخطاب السردي (معالجة تفكيكية سيميائية مركبة لرواية زقاق المدق لنجيب محفوظ), ديوان المطبوعات الجامعية, الجزائر, 1991.
- قسومة الصادق, طرائق تحليل القصة. دار الجنوب للنشر, تونس, 2000.
- لطفي زيتوني, معجم مصطلحات نقد الرواية, لطيف زيتوني, معجم مصطلحات نقد الرواية, ط1, دار النهار للنشر, بيروت, 2002.
- جيرار جنيت, عودة إلى خطاب الحكاية, ط1, بحث في المنهج, تر محمد المعتصم وعمر حلي وعبد الجليل الأزدي, الهيئة العامة للمطابع, القاهرة, 2000.
- جيرالد برنس, المصطلح السردي (معجم المصطلحات), ط1, تر عابد خزندار, المجلس الأعلى للثقافة, القاهرة, 2003.
- مها القصراوي, الزمن في الرواية العربية, المؤسسة العربية لدراسات والنشر, بيروت, لبنان, ط1, 2006.
- مراد عبد الرحمن مبروك, بناء الزمن في الراوية المعاصرة, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1998, ط1.
[1])) ابن منظور, لسان العرب, دار صادر, بيروت, لبنان, 1997, ط1, ص 97
[2])) جيرالد برنس, المصطلح السردي, (معجم المصطلحات), ط1, تر عابد خزندار, المجلس الأعلى للثقافة, القاهرة, 2003
ص234.
[3])) المرجع السابق, ص 231
[4])) مها القصراوي, الزمن في الرواية العربية, المؤسسة العربية لدراسات والنشر, بيروت, لبنان, ط1, 2006, ص 36
[5])) ينظر: سيزا قاسم, بناء الرواية-مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ, الهيئة المصرية العامة للكتاب, مصر 1984, ص 26
[6])) عبد الملك مرتاض, تحليل الخطاب السردي, معالجة تفكيكية سيمائية مركبة رواية زقاق المدق لنجيب محفوظ, ديوان المطبوعات الجامعية, الجزائر, 1991, ص217
[7])) جيرالد برنس, المصطلح السردي, مرجع سابق, ص25
[8])) جيرار جنيت, خطاب الحكاية بحث في المنهج, مرجع سابق, ص51
[9])) أحمد حمد النعيمي ,إيقاع الزمن في الرواية العربية المعاصرة, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت, ,2004, ط1, ص38
[10])) ينظر: حسن بحراوي ,بنية الشكل الروائي: الفضاء- الزمن-الشخصية, المركز الثقافي العربي, بيروت, الدار البيضاء, ط1, 1990,ص132
[11])) مراد عبد الرحمن مبروك, بناء الزمن في الراوية المعاصرة, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1998, ط1, ص66
([12]) ينظر: سيزا قاسم, بناء الرواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ, ص44
[13])) جيرار جينت, خطاب الحكاية, مرجع سابق, ص109
[14])) حميد الحميداني, بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي, المركز الثقافي العربي, بيروت, الدار البيضاء, ط1, 1991, ص76
[15])) لطفي زيتوني, معجم مصطلحات نقد الرواية, دار النها للنشر, بيروت, ط1, 2002, ص175
[16])) جيرار جينت, عودة إلى خطاب الحكاية, مرجع سابق
[17])) حميد لحميداني, بنية النص السردي, ص76
[18])) قسومة الصادق, طرائق تحليل القصة, ص127
[19])) جيرار جينت, نقلا عن حميد لحميداني, بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي, المركز الثقافي العربي, بيروت, الدار البيضاء, ط3, 2000, ص78
[20])) سيزا قاسم, بناء الرواية, ص95
[21])) آمنة يوسف, تقنيات السرد في النظرية والتطبيق, دراسات/أدب, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, اليمن, ط2, 2015 ص133