عطر القوافي الذي فاجأني به الشاعر فاروق الجعيدي هو فعلا جاء عطرا ينثر أريجه في القلب والروح – قلوبَ الأعزاء الذين خصّهم الشاعر بالاهداء من والده رحمه الله الى زوجته واهله والاصدقاء..
العنوان ما قبل القصائد هو في حد ذاته إجابة بيّن من خلالها ولادة الكلمة الحرّة الراقصة على اوتار المشاعر تلك المشاعر التي قُدّت من معاناة ما ومن فرح ومن ضياع ومن أوجاع ومن عشق ومن جنون…
أوليست الكلمات هي أوجاع شاعر ؟؟
أوليست الحروف ما علق في أعماق الشاعر من أفراح واتراح ورقاصته الطويلة على دروبٍ أحيانا غامضة واحيانا واضحة وبين تلك المسافات الفاصلة ندخل مع فاروق الجعيدي كهف العبارة لنخرج مسكونين بالأبديّة…
فلنغص قليلا في جنونه الجميل علّنا ندرك ما يكتنف النصّ من بلاغة تصويرية وانزياحيّة فيها صور رائعة حسيّة فاضت من حشاشة شاعرعاشق حدّ الإمتلاء ..
عازف على أوتار الهيام والوطن والصمود والإنتماء ففاضت قصائده شاعرية تقطر وردا وياسمين..
في قصائده الاولى أراد أن يبيّن لنا اوجاع الأرض ، اوجاع الموت اوجاع الظلم والعدوان الغاشم على كلّ الأشياء الجميلة وقتل الانسان هذا الكائن البشريّ خليفة الله على الأرض كيف يُداس تحت نعالٍ وقلوب لا تتحرّك فيها الانسانية..
كم جميل أن يعتز الكاتب فاروق الجعيدي بالمبادئ والقيم ويكتب بحرّية قلم سامق ذكيّ وشامخٍ معتزّا بعروبته ضدّ كلّ جلاّد آثمٍ رافع سيف حرفه بكلّ شجاعة تحديّا واضحا في وجه من يحاول ان يسرق منّا قداسة الوطن
يقول الجعيدي في قصيدته :
حشودٌ من التتار والماغول حلُّوا .. توافدُوا
صُبحا أناخُوا بقريتي.. طردوا بقايا عشيرتي
ركضوا حفاة في زوايا حجرتي
كسروا المرايا وأطفأوا كلّ الشّموع
أحرقوا النوافذ
كدّسوا أكوام صخر بالمنافذ
إذن أني لا اتساءل كيف لا تتحرّك فينا صرخة القهر والشاعر يفجّر في داخلنا صمتنا الراكد وكيف لا ننحت بدورنا هويتنا العربية على حجارة الزمن – حجارة تئنّ حينا واحيانا تبكي.. ودماء زكيّة تسيل …..
قائلا وكانّه ينوح ما اقترفت الأيادي الغاشمة في نفس القصيدة :
سكبوا على أرضي دمي
نشروا على شجر الكروم أضلعي
وبمرْآى منّي
ومرْآى من كلّ الدّموع ومسمع
شنقوا الطّيور .. ورمّلوا كلّ الزّهور بتُربتي
فقد تعلّمنا من خلال هذه القصيدة وعدة قصائد أخرى لا تقلّ عمقا، كيف تنبّتُ شفاهنا الكرامة والعزّة..
فاروق الجعيدي الذي تنوء به أوجاع الوطن الكبير ، هو شاعر قلبه بعرض الأفق يتّسع الألم ، الإرهاق، والجراح..
تحت قدميه براكين لا تجرؤ على تحدّيه…
هو هنا شامخ شموخ الأقلام الحرّة …رافعا راية الوطن مثل ملايين التونسيين الذين يفدون أرضهم بأرواحهم وبكلّ عزيز…
فلو تمعنّا قليلا في قصيدة المحكمة لتاكّدنا هذه الثورة العارمة التي تتخبط في داخله والتي تكاد تنفجر من بين السطور والكلمات والصرخات العالية المشحونة والمخضّبة بالوجع
وجع مواطن شريف يسأل :
ألمْ تقولوا إنّها .. ثورة وطن عربي و… ربيعْ ؟
مُدُّوا أيَاديكمْ أرى .. تَـبّـَــــــــــــــــــتْ !
ما لي أراها تلطختْ بـِدَمِ الرّضيـعْ ؟
من شنَّق الأقلامَ والأعلامَ
من زيّف الأرقامَ
من ذبَّح الأحلامَ .. من طيّر سِربَ الحمامْ ؟
قولوا إذن : مــن يا تـرى زرع الـدّمـارْ ؟
جميل هذا الاحساس بالكرامة وهذه الشجاعة والمنهجية وحلم البلاد لا يحتويه المكان فحَلُمْنَا كما حَلُمَ الشاعر فاروق الجعيدي بوطن أكبر وأعمق وانبل من ان يُداس ويهمّش وكأنّ بالشاعر يقول :
إنّنا غرباء في أوطاننا لكننا هنا لباقون رغم كلّ الذين نهبوا ثروات البلاد.
يتنقّل بنا الكاتب الجعيدي بحرفيّة
من مواسمِ الكذب “إلى ” شهيداتِ الرّغيف “
والمعناة التي عرف الشاعر كيف يصوغها في قصائد موجعة
قصائد تبكي وجعَ الرصيف ووجع البطالة والرغيف
فنسمع بين الفينة والفينة أنينا خافتا وسط السطور ينبعث كعزف ناي حزين…
يقول وقد سما بنا عاليا جدا في كلمات شديدة الوقع على المتلقّي :
أمّي لا تعرف أسعار مساحيقِ الشّفاهِ كما النساءِ
لا يؤرّقُ أمّي سوى سعرِ الرّغيفْ
غابت الشمسُ ولكنْ ما أتتْ أمّي فَوَيْلي ، قالوا ماتْتْ
تحملُ يُمناها فأسا.. تنزفُ عيناها حلما
يذرف خدّاها دمعا من دماء
عطرها مسْكُ الرغيفْ
ويستمرّ التحليق عاليا ليخلق الشاعر مملكة خاصة محتفلا بهذيانه الجميل
لنحطّ معه الرحال عند المواعيد المخضّبة بالعشق والغرام ونقتفي آثار نفائسه في بساتين من فواكه كلّ الفصول…
في قصيدة هذيان، يدخل بنا فاروق الجعيدي كهوفا ومغارات الأسطورة والخيال ونلمح الأنثى تلتحفُ المستحيل على ربوتها العالية تمشّط شعرها المسترسل عبر العصور –
هناك، تطلّ الخطيئة راقصة عاشقة تغري الحبيب بالموت الجميل
والشيطان يشحذ أسنانه في شكل ذئب متمرّس يغوي العذراء بالخطيئة والموت في آنٍ …
وجدتُ في قصيدة هذيان اشارة إلى قصص الأنبياء بأسلوب الشاعر وخياله الشاسع الخصب وكأني أرى الآلهة “ليليث“تستيقظ،، تلك البغيَة المُقدسة لإنانا وظفّها الشاعر المتألّق بطريقة مختلفة في اللاّوعي، عائدا بنا إلى تلك الأحقاب الزمنيّة الغنيّة بالأساطير بين خيال و واقع ، بين ساحر وجميل .
هيّ المرأة هنا، تغوص في وجدان الرجل تجعل كلّ رغباته أوطانا يسكن إليها .
هيّ المرأة الفاتنة المغرية لدرجة السحر ،
تلك التي تظهر ليلا لتغوي الرجال بحسنها وبهائها تقتل الذكور من عشاق وأطفال وتأكل بعضهم ، إذ يقول الجعيدي :
تجلسُ حوّاء بفستان مريم .. تمزّق بطنها
بخنجر نهم .. نصلهُ ندم
تجتثّ جنينها .. تأكله .. مضغةً وصراخاً
ويستمرّ الهذيان الذي يبحر بنا بعيدا جدا في خيال فريد وندخل أرضاً جديدة غريبة ونشق معه بحورا وامواجا بين الأفاعي والذئاب والنسور وضباعٍ ودواب ذات أسنان حادّة لتختلط الأصوات والصراخ والبكاء ويشتدّ الصداع عنيفا عنيفا، في قصيدة لم أستطع الخروج منها بسهولة…
إذن، يستمر صوت الشعر عاليا في زفرات قلمٍ يصف المشاعر بدقة متناهية وبلغة مختلفة لتنتبه انك على حافة الهاوية تخشى السقوط وفي نفس الوقت تتمنى أن تعرف أغوار الهاوية وما يخبئه الجعيدي في خياله العجيب.. فهو بارع في نسج بساطٍ ساحرٍ يطير بنا من خيال إلى خيال…
لا أخفي عنكم أنّي وجدتُ متعة حقيقية وأنا اغوص في عطر القوافي التي جاءت مختلفة كليّا عن القوافي المعتادة وعن العطور التي طالما استنشقناها من خلال قصائد كثيرة للشعراء غير ان شاعرنا فاروق استدرجنا إلى عالمه التصويري أو السنيمائي ولمحت أفلام الخيال في تفاصيل دقيقة جدا وكأنني دخلت عالما جديدا لم يسبق لي أن عرفته او سمعت عنه وهذا استهواني وشدّني كثيرا…
لا تخلو قصائده من الحمام والمطر والريح والسماء الأغصان الازهار الورود الشموس الأقمار
لا عجب ان يوظّف الشاعر فاروق الجعيدي معجم الطبيعة وهو ابن تلك المروج الشاسعة في مدينة عريقة “باجة” فكم تمنّى أن يكون سحابا أو مطرا، مروجا أو هضابا..
مازلنا نتذوّق حلاوة الحرف كما تذوقنا معه خبزا لذيذا من تنّور أمّه
وهو الذي لا يتوقف غناؤه بتلك الحقبة الزمنية من عمره حين كانت الحياة بسيطة جميلة – إنّ عاطفته النقيّة والغنيّة بالمشاعر الصادقة تشبه تلك الحقول…..حقول القمح…
والشاعر يذهب بنا بعيدا ليزرع وردا في شتاء الكلام ، من تنّور امّه انطلق دافئا كالربيع، بعد عن عطّرته الأرض هذه “الأمّ الكبرى ” الخضراء الحبيبة الوطن الغالي فاللحظات لدى الشاعر الجعيدي لا يمكن الإمساك بها عند انبثاقها لذلك تجده منطلقا في شعوره بكل عفوية في حالة توحد تام حالة سفر دون حقيبة ولا جواز .
إن لحظات التجلّي في نفسية الشاعر فاروق هي شديدة الوجع خاصة في قصيدة ” على صدر أمّي ” التي عبّر فيها عن أوجاع الفرد.. فهي في الحقيقة يصف فيها الأم الكبرى ، الأم التي تجمعنا تحت سماء واحدة ..الأم التي لولها لمَا عرفنا الكرامة، ولما رفعناها تلك الراية الغالية : تونس
في أسطر شديدة الدقة والجمالية والصدق،
يقول الشاعر فاروق الجعيدي :
أحبُّ الطّريق..
وهمس الطّريق لخطوات أمّي
يُخلّصُني من غبار المنافي ..
يُجرّدُني من بقايا الــعقدْ
وأحذرُ مشي الرّصيف لأنّي
رأيتُ الرّصيف مع كلّ ليل ..
يخونُ البلدْ … !
ولكلمة الأمّ حضور مؤثر في وجدان الشاعر من الأمّ الكبرى تونس الحبيبة إلى الأمّ الوالدة التي حملته تسعاً
لا يوظّف الشاعر فاروق الجعيدي مفردة الأمّ توظيفا روتينيا أو تباهيا بل هي اسباب وجدانية عاطفية نبيلة يمجّد فيها خصال والدته ويصوّر بريشة رسام ماهر مشاعره في قصيدة سلسة رقيقة فتشبّثت روحه بروحها وسكنته مشاعرٌ سامية كما سكنته تلك اللحظات وذلك الاشتهاء لحضن آمن دافئ وصوت ينساب نغما ويفيض ورداً.
وينســـــــابُ صوتُك فــي أذنيّ
كأنّات ناي بأوتار عودْ
تزُفُّ لك الرّوحُ أحلى التّماسي
وتُهدي لخدّيْك أحلى الورودْ
فاروق الجعيدي تستحق قصائده الوقوف عندها مطوّلا لما تكتنفها من مشاعر صادقة ووطنية عميقة عاشقا تراب البلاد والخضراء ترفرف كحمامة سلام في داخله
خضراءُ تيهي بالرّبيع تعطّري
ها أنّ عطرك بالخدود تورّدا
كم تيّمتْ قلبي مروجُك والرُّبى
كم هام قلبي في عيونك أنشدا
يا أنت يا أرضا تباركُها السّماء
إنّا ضربنا في غرامك موعدا
وأكيد لنا مواعيد اخرى مع هذا الشاعر ودراسات مطوّلة لقصائد تسبح في ملكوته
فتتزيّن بمشاعره
وتتانّق بصدقه
وتسمو به وبنا في سماء ارجوانية…
–