ديوان أشتات مسافرة للأستاذ كمال محمود علي اليماني

سمير محمد

ديوان أشتات مسافرة الذي يضم 34 قصيدة للشاعر والأديب الكبير كمال محمود علي اليماني هو لوحة شعرية متكاملة تحمل بين طياتها تأملات وجدانية عميقة وأحاسيس إنسانية صادقة، تتقاطع فيها الموضوعات الروحية والاجتماعية والشخصية. يتميز هذا الديوان بتنوع أساليبه الفنية واستخدامه المكثف للرمزية والخيال، مما يمنح نصوصه بعداً فلسفياً وشعرياً متقناً.

يقول الناقد الفرنسي جان كوهن: “الشعر يقتنص لحظات الدهشة عبر اللعب باللغة وتجاوزها للأفق العادي”. ينطبق هذا القول تماماً على نصوص أشتات مسافرة، حيث يبدع الشاعر في تجاوز المألوف لإنتاج صور شعرية مدهشة تتجاوز حدود النص.

مسمى “أشتات مسافرة” يُثير انطباعاً وجدانياً عميقاً، إذ يحمل إيحاءً بالتنقل بين مشاعر متباينة وأفكار متفرقة تشترك جميعها في حالة من الاغتراب أو الحنين. هذا المسمى ينسجم مع محتوى الديوان على عدة مستويات وجدانية:

1. التنوع الوجداني بين القصائد

كل قصيدة في الديوان تبدو وكأنها رحلة مستقلة، تحمل مشاعر وتجارب مختلفة، لكنها تبقى جزءاً من عالم وجداني واحد.
• قصيدة “أبا القاسم ألا فاشهد” تتغنى بالحب العميق للرسول (صلى الله عليه وسلم)، حاملةً قدسية وحميمية شعورية.
• قصيدة “أتت أمي” تتنقل بنا إلى أجواء حنين الأمومة والذكريات الدافئة.
• قصيدة “خيانة” تفتح جرحاً غائراً من الألم والخيانة، مغايرة تماماً لمشاعر القصائد الأخرى.
هذا التباين بين القصائد يُجسد المعنى الحرفي لـ”أشتات”، حيث نجد تنوعاً وجدانيًا يجمع بين الحب، الألم، الخيانة، الأمل، والاغتراب.

2. السفر النفسي والاغتراب

• القصائد كلها تحمل إحساساً بالسفر النفسي، حيث يرحل الشاعر عبر تجاربه الذاتية العميقة أو مشاهداته الحياتية.
مثلًا:
• في “الموت”، نجد حديثًا عن الرحلة الوجودية والاغتراب عن الحياة.
• في “حصائد الموت”، تتعمق القصيدة في غربة الحزن والموت والفقد.
• في “غربتان”، يظهر الاغتراب في العلاقات الإنسانية وتباعد الأرواح.

هذا السفر النفسي والوجداني يجعل القصائد تبدو “مسافرة” بين حالات شعورية وأزمنة مختلفة.

3. التجزؤ والتكامل

• كلمة “أشتات” تُوحي بالتجزؤ، بينما “مسافرة” تشير إلى الحركة والبحث عن التماسك أو الوحدة.
الشاعر هنا يوحي بأن قصائده أشتاتٌ من الأحاسيس والأفكار، لكنها تتحرك وتسافر نحو معنى أعمق يعكس وحدة الإنسان وتجربته.

4. التأمل في قضايا كبرى

القصائد تتأمل في قضايا إنسانية كبرى (الحب، الأمومة، الموت، الخيانة، الأمل). هذه القضايا تعكس “أشتاتًا” من التجارب التي يتشاركها البشر في حياتهم اليومية، وكأنها “مسافرة” تبحث عن إجابات أو تصالح مع العالم.

5. الوجدان الشمولي

مسمى الديوان يُبرز شعورًا بأن التجارب التي يتناولها ليست شخصية فقط، بل هي حالة شمولية يمكن أن يتماهى معها القارئ. هذا يجعل الديوان يبدو كمجموعة من “الأشتات” التي تسافر إلى وجدان كل قارئ على حدة.

“أشتات مسافرة” عنوان يحمل عمقًا وجدانيًا يعبر عن جوهر الديوان: شتات من المشاعر والأفكار تسافر في عوالم النفس والوجدان، تربط بينها خيوط رقيقة من التجارب الإنسانية المتنوعة. يظل هذا المسمى مرآة لحالة البحث، الاغتراب، والتأمل التي تتكرر في القصائد، مما يمنح الديوان شخصية متفردة.

يتسم الديوان بتنوع القوالب الشعرية، حيث تجمع القصائد بين الشكل العمودي التقليدي والشعر الحر، وهو ما يعكس قدرة الشاعر على المزاوجة بين المحافظة على الموروث والانفتاح على الحداثة. على سبيل المثال، في قصيدة “أبا القاسم ألا فاشهد”، نجد التزاماً بقوافي متعددة من خلال إيقاع متناغم يعبر عن الشوق والحب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. يعكس استخدام الجرس الموسيقي للكلمات في هذه القصيدة التوافق بين مضمونها الروحي ولحنها الشعري، كما أن التكرار، مثل “أحبك” و”أبا القاسم”، يعزز الطابع الإيقاعي ويوجه العاطفة نحو التركيز على المشاعر الدينية العميقة.

الرؤية الفكرية والموضوعات

ينطلق الديوان من مواقف إنسانية تتنوع بين الروحانية، كما في “أبا القاسم ألا فاشهد”، والاجتماعية كما في “أتت أمي”. هذه الأخيرة تبرز صورة الأم بقدر من الحميمية التي تلامس الوجدان من خلال استدعاء تفاصيل الحياة اليومية والعلاقة العاطفية مع الأم. يتميز الشاعر بقدرته على تصوير المشاهد بكثافة عاطفية تجعل القارئ جزءاً من الحدث، مستعيناً بصور شعرية مثل “زهور الفلّ والكاذي” و”مصابيحُ” التي ترسم ملامح حضور الأم بوضوح.

تبرز عوامل الرمزية والخيال في قصيدة “بائع الأوهام”، حيث يتجلى استخدام الشاعر للرمزية للتعبير عن خيبة الأمل في الوعود الزائفة والطموحات غير المحققة. نجد هنا صوراً شعرية مكثفة مثل “فراشاتٍ على نورٍ كذوبٍ” التي تحمل في طياتها أبعاداً فلسفية تعكس عمق الصراع الإنساني بين الواقع والخيال. كما أن القصيدة تتميز بتصعيد درامي عبر الانتقال من مشاعر التفاؤل إلى خيبة الأمل، مما يترك أثراً عاطفياً لدى القارئ.

يتسم أسلوب الشاعر بلغة مكثفة تعتمد على الترابط العضوي بين الألفاظ والصور، كما يظهر في قصيدة “إني أرى”. يجمع الشاعر بين الوضوح والغموض المولد للتأويل، حيث يقول:

“إني أرى الآفاق تزخر بالغمام
وأرى الجمال مرفرفاً فوق الرؤوس”.

هنا، نجد أن الصورة الشعرية ليست وصفية فحسب، بل تفتح أبواباً لتفسيرات متعددة، مما يعكس عمقاً فلسفياً ورؤية متفائلة تجاه المستقبل. أما في قصيدة “حصائد الموت”، فإن التلاعب بالمفردات مثل “ويح” و”تلاشت” يمنح النص إيقاعاً حزيناً ينسجم مع المضمون المأساوي للقصيدة.

من الناحية العروضية، يبرز الشاعر اهتماماً بإيقاع النصوص، وهو ما يظهر جلياً في قصائد مثل “تحذير”، حيث يعتمد على التفعيلات القوية لإبراز نبرة التحذير والانفعال. كما أن قصيدة “حسرة” تعكس توظيفاً ذكياً للوزن عبر التقطيع الشعري الذي يعبر عن التردد والانكسار الداخلي، مما يجعل الإيقاع مرتبطاً بالمضمون ارتباطاً عضوياً.
كما أن التكرار هو أداة يستخدمها الشاعر لإبراز أفكاره ومواقفه كما يظهر في قصيدة “دعاء من القلب” من خلال تكرار لفظة “صديق”، ما يعكس حالة من التأمل في العلاقة بين الإنسان والصداقة وقيمتها. كما أن الترابط بين القصائد يبرز من خلال الموضوعات المشتركة، مثل التأمل في الموت في قصيدة “الموت”، والبحث عن الخلاص في قصيدة “بين ألم وأمل”. هذه الموضوعات تشكل نسيجاً فكرياً موحداً يجمع بين نصوص الديوان.

الديوان هو رحلة شعرية غنية تحمل بين طياتها رؤية فلسفية عميقة وعاطفة إنسانية جياشة. يتجلى فيه الحس الجمالي والروحي عبر توازن فني محكم بين الشكل والمضمون، ليكون عملاً أدبياً يستحق التقدير والتحليل العميق.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!