هو التكرار يأتي ليشكل الصورة العامة للقصيدة ، أو لييسلط الضوء على كلمة ” الغياب ” التي تتكرَّر باستمرار ً في القصيدة . وقد يمتدّ هذا التكرار ليشكل إيقاعا و لحنا ، قادرين على نقل تجربة الشاعر الشعورية للمتلقي ، فتكون كلمة ” الغياب ” المكررة المفتاح الأساسي لولوج عالم القصيدة الداخلي .
و قد عبّر الشاعر بتضافر مجموعة من الصور المتداخلة ، عن وجع الغياب ، وتأثيره في نفسيته و ما يحمله هذا الغياب من آﻻم ، دموع و أحزان ، فهذا التكرار للكلمة لا يشكل هندسة إيقاعية فقط بل أيضا قاعدة بنائية يجعل منها الشاعر مرتكزا أساسيا لكل أبيات القصيدة التي تدور في فلك الغياب هذا الأخير الذي يجسد صراعا ثنائيا عميقا داخل أعماق الشاعر فيوحد المضادات ” الموت و الحياة ” ، ” الدمع و الفرح ” ، ” الوجع و الرقص ” … فكلمة الغياب هنا لم تكن عفوية و لم يكن تكرارها بمحض إرادة الشاعر بل الموقف إستدعى منه ذلك مشكلا حوارا جدليّا بين الشاعر و ذاته و بينه و بين القارىء فيحتم على هذا الأخير الغوص و الإبحار في عالم القصيدة باحثا عن مغزاها و محاوﻻ إستقراء خفاياها . هنا يصبح الغرض من وراء التكرار ضبط إيقاع حركة الدلالات وما تثيره من شحنات عاطفية ، لشحن عواطف المتلقِّي، وتوجيهها نحو الإنسجام و الإندماج و رؤى النص المشكلة لرؤى الشاعر و موقفه من ظاهرة الغياب . و الغرض العام من التكرار هو إثارة المتلقّي و توجيه ذهنه نحو الصورة المستحضرة داخل القصيدة ، لخلق ما يُسَمَّى بلحظة التكثيف أو لحظة التوافق الشعوريّ بين الشاعر و المتلقِّي . وقد استخدم الشاعر في نهاية قصيدته صيغة الإستفهام الشيء الذي يدل على الصراعات النفسية و الإنفعالات العاطفية العاصفة بالجراح و الأحزان التي يعاني منها الشاعر . فالسؤال هنا بآخر القصيدة ساعد على تفجير البنية الداخلية ، و فتح المجال الدلالي على مصراعيه أمام المتلقي ما يجعل هذا الأخير يضع نفسه مكان الشاعر يشعر بما يشعر و يحس بما يحس الشيء الذي يسهل عليه معرفة إحساس الشاعر و توتره النفسي و إنفعاله الذاتي .
فختم القصيدة بصيغة الإستفهام يشحن الذائقة الشعرية بفيض دلالي مكثف يكشف عن بواطن القصيدة و بواطن الشاعر معا و توحده بالأشياء المحيطة به ، إذ تتعمّق صورة التوحد بينه و بين الأشياء من حوله من خلال تكامل و تفاعل الداخل و الخارج و الذات و الموضوع ، بقوله : و أنا كما البحر
عاشق
كلما لاح الغياب
ثرت
وانكسرت
على شواطيء الدمع
و انا كما القصيدة
فهو مثل البحر في ثورته و انكساره على الشاطىء ، عميق و شاسع يحمل الكثير من الهموم لكنه كلما ضاق صدره يثور ثورة البحر و يهيج لكنه مثله ينكسر و إن ثار فالبحر تكسره الصخور على الشاطىء و الشاعر يكسره الدمع ، و هو مثل القصيدة فهي تحمله و هو يحملها ، كل منهما يشكل الآخر فيصبحان واحدا ما يسهل على الشاعر الإختباء وراء القصيدة للتعبير عن كل ما بداخله .
أما عنوان القصيدة فهو وحده دون اللجوء للنص يُظهر جانبا من صورة الصراع الداخليّ بين ثنائية ” الشاعر /الغياب ” ، في بناء توالفي يتسع و يضيق حسب ما يتطلبه فهم معنى الغياب و أسبابه في القصيدة مع بدل الجهد لإستقرائها و إن كانت ” أي القصيدة ” تبدو جلية و واضحة إلا أنها تخفي الكثير من الضغوطات النفسية التي تتنامى و غياب الشاعر الذي يُجَسِّد أبعاد اللبس الذي يَتبلور في مركز الثنائية الضدية “الشاعر/الغياب “، فالشاعر و إن كان حاضرا إلا أنه غائب يغيبه الألم و الوجع و يسيطران عليه فيطلق العنان لشاعريته لتنوب عنه في الوجود و يتبدى هذا جليا في إختياره الغياب بمحظ إرادته و الإختباء وراء ستار القصيدة ملقيا نفسه بأحضان الغياب .
((النص ))
هلوسة الغياب
************ لــ: محمد صوالحة
والغياب فخ
يصطاد العابرين
دروب الحياة
الغياب عدو …
يغتصب منا فرح
اللقاء
يهتك ستر الحلم
الغياب
موت يمزق
ثوب الحياة
هنا
هناك
دمع يبلل الارض
والارض بلا قلب
تزهر باوجاعنا
ترقص فوق
مساحات الجرح
وأنا كما البحر
عاشق
كلما لاح الغياب
ثرت
وانكسرت
على شواطيء الدمع
وانا
كما القصيدة
ان خلت من عنوانها
من افكارها
فهل من سبيل
للنجاة
الا الاختباء
باحضان الغياب