كثر الجدال وبالتالي المزايدات في الآونة الأخيرة بخصوص الأزهر, سواء علي مستوي السلبيات التي باتت معروفة للجميع وتثير عددا لا نهائيا من التساؤلات حولها, أو بعدما تم تقديم مشروع إصلاحي من قبل أحد أعضاء البرلمان. بصرف النظر عما إذا كنا نتفق أو نختلف مع التصور الذي يحتويه ذلك المشروع, إلا أن الضجة بمجرد التقدم به تسترعي الانتباه, كما الخلط البين بين شيخ الأزهر وبين المؤسسة, وكأن الأزهر بكل ما يحمله من تاريخ ومواقف وقوة وأهمية قد تم اختزاله في شخص, أيا كان اسمه أو الفترة التي يتولي فيها.
هذه الأزمات المفتعلة لم تأت من فراغ ولا هي وليدة انفعالات لحظية, بل تم التأسيس لها منذ سنوات طويلة, وبشكل ممنهج, فما نحن فيه اليوم ما هو سوي المحصلة أو النتيجة وليس سببا علي الاطلاق.
بشكل عام من المستحيل الفصل بين الإرهاب وتدني التعليم وانتشار السلفية وغياب دور المؤسسة الدينية وبين حالة الانهيار الثقافي والفكري الذي نعيشه, والذي هو أيضا نتاج لاستهداف الثقافة والفكر عن عمد. فكل ما نعايشه الآن لا علاقة له بالمشاهد العشوائية المتخبطة, لكنه نتيجة سياسات بدأت في السبعينيات ونحصدها اليوم.
لقد تم اختزال كافة عناصر الثقافة والابداع وتنحية النخب الفكرية جانبا في زاوية صغيرة مظلمة في المشهد الحياتي, وفي الوقت نفسه جرت عملية إحلال لهذه النخب بأخري دينية, سواء في الاعلام أو المساجد والزوايا, وحينما نقول هنا دينية نعني الجميع سواء المنتمون إلي المؤسسة الرسمية( الأزهر) أو للإخوان والسلفيين.
وبدلا من أن تكون النخب جزءا لا يتجزأ من الشعب وقضاياه وهمومه, تحولت النخب الجديدة الي الوطن نفسه وإلي أنها رمز ديني المساس بها يعني المساس بالدين نفسه, ومن ثم بدأ فرض الوصاية علي الشعب والتعالي عليه والتعامل معه علي اعتباره الصبي أو التلميذ الذي ينبغي عليه أن يصغي ويطيع, حتي أولويات حياته باتت هذه النخب الجديدة ترتبها له بحسب رؤيتها وغاياتها, لينتهي الزمن الذي كانت تستنهض فيه النخب العقول ليحل محلها نخب كان همها منذ اللحظة الأولي تعطيل نفس العقول.
هذا هو واقع الصدام, ليس بين المؤسسة الدينية وبين من يرغب في الصراع من أجل تصويب الأوضاع, وليس بين شيخ الأزهر الحالي وبين من يتحفظون علي مواقف المؤسسة التي يترأسها, كل هذا غير حقيقي بالمرة, لكنه صدام من أجل استرداد مكانة الفكر والثقافة والتعليم في مجتمع تم تجريده منها تماما بحرفية شديدة.
وسيظل هذا التناحر قائما في محاولة لتقويم الأوضاع, ولا يجب تصويره أبدا علي أنه خلاف أو استهانة بمؤسسة أو بأشخاص بعينهم, فالأمر علي أرض الواقع قد أصبح أكثر تعقيدا من هذا التبسيط الذي تحاول وسائل الاعلام تصديره لنا.
والحقيقة أن النخب الحالية التي تم تصعيدها علي مدي العقود القليلة الماضية والتي تمكنت تماما من كافة مفاصل الحياة للمواطن, هي من تحارب اليوم وتتصدي لكل من يرغب في حدوث توازن في البلاد من خلال مواجهة هذه الهيمنة الحالية, وليس العكس علي الاطلاق.
أين الفن المحرك للعقول وأين الثقافة بما في ذلك وزارتها المتراجعة تماما, وأين الفكر وأين كل شيء يتلامس والأذواق لتنميتها؟ أين التنوير والتسامح وتقبل الآخر والمواطنة وحب الحياة والعيش ببساطة والروح التي طالما ميزت المصريين؟
جميعهم في خبر كان وفي الطريق لردمها عن بكرة أبيها بعدما اخترقت الفتوي وبتنا لا نتنفس قبل أن نستفتي هل يمكننا الشهيق والزفير, أم نكتفي بالأول لنموت اختناقا.