آفــــــــأق حُـــــــــــــــــــــرة
في حوار مع صديقة على الفيسبوك حول الشاعر محمود درويش، وذكرى رحيله ترسل لي صورة للشاعر تجمعه مع الفنانة اللبنانية من أصل فلسطيني ماجدة الرومي، يظهر الشاعر في الصورة جالسا بجانب الفنانة الرومي، ويهمس لها، وقد اقتربا إلى وضع المناجاة الحميمة، هكذا تصورت هذا المشهد. فبم كان يهمس الشاعر بأذن ماجدة الرومي؟ هل كان يغازلها؟ تبدو نشوة الرضا واضحة على ملامحها، لكنها نشوة مهيبة من ذلك النوع الرصين الجادّ، غير المعلّب، مشهد قريب من العفوية على ما يبدو، يناسب هذه السيدة الجميلة ويناسب هذا الشاعر الوسيم. ويتناسب مع شهرتهما التي “طبّقت الآفاق” كما يقول التعبير العربي الجاهز. مع أنه لا شيء جاهز لإتمام المعنى تماماً في هذه الصورة وكل الصور المشابهة. فالسياق مفتوح على تأويل علائقي فيه الكثير من الغموض.
لم يكن الشاعر يراعي بروتوكلات “التباعد الجسدي”، كونه يقترب كثيراً من جسد امرأة جميلة، إلى درجة أنه كان بإمكانه أن يسمع بعينيه تراقُصَ نشوتها في صدرها ووجهها وارتعاش جلدتها ساعتئذٍ، وملاحظة “حبّات” النمش الجميل إن وجدت وهي تتخايل في تلك المناطق المتوارية من جسمها عن النظر المباشر. وربما استطاع كذلك تحسّس مقدار الأدرينالين في دمائها! فكيف سيكون الأمر اليوم لو عاش الشاعر قوانين “التباعد الاجتماعي” في ظروف هذا الوباء المحيّر، هل سيقترب هذا الاقتراب فيتوازى الرأسان المفكّران وتُرقّص الشفتان الهامستان شفتين أخريين تنعمان بلحظة تاريخية كهذه اللحظة بين شاعر ليس كأيّ شاعر، وفنانة ليس مثلها فنانة أخرى في عالم الغناء العربي المعاصر هذه الأيّام.
لا أدري على نحو الدقة متى كان اللقاء بين الفنانة ذات الأصل الفلسطيني والشاعر الفلسطيني غير الملتبس في هويته، ربما لو بحثت على الشبكة العنكبوتية سأجد. لا أعتقد أن الفنانة اللبنانية اليوم تعاني من اهتزازات الهوية والتباساتها أيضا، فقد حسمت أمرها منذ زمن بعيد، ولم تعد تعترف بأصولها الفلسطينية، أو على أحسن تقدير ربما لا يعنيها أن تكون غير ما هي عليه الآن؛ فخير وسيلة لقطع الالتباس قطع الصلة بالماضي برمّته، مهما كان قريباً.
هل للسيدة ماجدة الرومي علاقة بقصيدة “أنا لا أنام لأحلم” فهي لا تنام لتنساه أيضا وإنما ربما تقضي الليل وهي تسمعه؟ هل هذا هو صوت ماجدة الرومي:
لا شيء ينقصني في غيابكَ:
نهدايَ لي. سُرَّتي. نَمَشي. شامتي،
ويدايَ وساقايَ لي. كُلُّ ما فيَّ لي
ولك الصُّوَرُ المشتهاةُ، فخذْها
لتؤنس منفاكَ، وارفع رؤاك كَنَخْبٍ
أخير. وقل إن أَردتَ: هَواكِ هلاك
لا أدري، لماذا أنشغل بالتفيش عن صورة الفنانة في شعر الشاعر؟ أهي تلك العقلية الفضولية التي تنتابني بين الفينة والفينة؟ ثمة أمارات غير نصية ظهرت فيها ماجدة الرومي محتفية بهذه القصيدة. أو ربّما تهيأ لي هذا الأمر عندما اجتمعت القصيدة مع أغنية للرومي في فيلم واحد منشور على اليوتيوب. هكذا قال لي العقل المخابراتي غير النقدي. كثيرا ما أخطئ في الحدس كالمخابرات تماما، ولكن ألا يصح أن يوافقني الحظ ولو مرة واحدة؟
تبعا لهذه الصورة المتخيلة عن الشاعر درويش والفنانة الجميلة ماجدة الرومي، أتصور على نحو طبقيّ مقيت أن محبوبات الشاعر كلهنّ من هذا الطراز؛ ليس الجمالي والثقافي فقط، والرومي ليست صاحبة صوت ملائكي وحسب، وليست مثقفة وجميلة فقط أيضا، إنما بالإضافة إلى هذه الصفات فإنها امرأة تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية الناعمة والهادئة. وعلى ذلك فكل محبوبات الشاعر بعد “ريتا” الخارجة عن السياق المؤتلف جمالياً وثقافياً، هن مثقفات ينتمين إلى تلك الطبقة المترفّعة، فهن لسن من الطبقة الكادحة، هذه الطبقة التي انسلخ عنها درويش منذ وعيه الشعري والفكري المبكر، بعد أن غادر الوطن وفرّ بعيدا محلّقا في الفضاءات المفتوحة. من المؤكد أن الشاعر لم ينسلخ عن طبقته دفعة واحدة، وإنما قد مرّت عليه أحوال وظروف شخصية وعامّة، أدت به إلى أن يجد نفسه خارج تلك الطبقة المسحوقة التي انتمى إليها يوما عندما قال مفتخراً:
أبي.. من أسرةِ المحراثِ
لا من سادةٍ نجبِ
وجدّي كانَ فلاحاً
بلا حسبٍ.. ولا نسبِ.
أتذكّر الآن جيدا زوجته الأولى رنا قباني. تنطبق عليها كل المواصفات التي تجعل الشاعر الكبير منشغلا بساقيها، طوال أمسيته الشعرية التي كانت حاضرة فيها تحتل موقعها في الصف الأول، تانك الساقان اللتان كانا يُلاعبان ناظريه وهو على منصة الشعر، حيث “كانت عينا محمود تحدقان بالأسود الطاغي المتنافر مع بياض جلدها. كان ينظر بفضول واستغراب”. تقوده الساقان والجسم إلى الحب السريع وإلى الشيخ وكتابة وثيقة المتعة الزوجية ثم إلى السرير. وهكذا بدأت العلاقة بمرأى ساقين جميلتين وانتهت بالمتعة المرغوب فيها.
ولا يقل هذا الأمر في دراميته ومشهديته عن أمر العلاقة التي تكونت مع المرأة التي ستصبح زوجته الثانية، المصرية والمترجمة حياة الهيني، هذه المرأة أيضا انضمت إلى السلك الجمالي الثقافي في معازف درويش الشعرية ومعارفه. الشاعر جدا واقعي يحبّ ويتعلق بامرأة من محيطه ومن مستواه الطبقي، لماذا إذاً وجدت قصة السندريلا والحذاء؛ وجودها عبث وجوديّ محض. الشاعر لا يقع في حب امرأة هامشية. ينظر إلى الأعلى ليربح امرأة منتمية إلى الطبقة المرفهة، على كتفيْ حياة الهيني سيطير الحمام ويحطّ بقصيدة حبّ من النوع المختلف عن حب الرجال والنساء المنتمين إلى الطبقات الكادحة.
تدور فكرة في رأسي عطفا على قصة البنت المدّعاة، بنت محمود درويش، فهل كانت تلك البنت من امرأة أقل مستوى طبقي ممن عرف من النساء، كرنا قباني وحياة الهيني، ولذلك تجاهل الابنة والأم معا، وحرم نفسه من شهوة التمتع بالأبوّة. ففي هذا الاعتراف نوع من “تلطيخ السمعة الشعرية الأرستقراطية الباذخة”. إذاً لقد بقيت تلك المرأة نكرة، ولم تُمنح حق التعبير الشعري والظهور العلني. ربما كان الشاعر في هذه القصة يفعّل جينات العقل العربي المفطور على الطبقية، أو يستحضر جينات الحاكم المتسلط الموصوف بالدكتاتور، كأنه واحد ممن وجدوا في “خطبه الموزونة” غير المعترف بها شعرياً. فكان درويش دكتاتورا صغيرا، لكنه عاطفي جدا، وشاعريّ إلى حدّ الهوس بكل ما هو غير مألوف.
تسعفني بعض قصائد الشاعر في تأكيد هذه الصفة الطبقية للحب، يرسمها الشاعر في قصيدة “لم تأتِ” حيث كان الشاعر حريصا على الإعداد الفاره جدا لقدوم تلك المرأة، فجهّز المكان وكل أشيائه بما يليق، وجهز المشروب، وتأنّق أناقة شخصية واضحة، واهتم بأدق التفاصيل غير العاطفية للقاء عاطفي. إنّ لهذا دلالة كبيرة على طبيعة لقاءات الشاعر بحبيباته، إنه هوس آخر بتنظيف الهواء لأجلهن وتعطيره “بماء الورد والليمون”.
ليس هذا وحسب، بل إن نساءه أيضا يشبهنه كثيرا، فهن متمنّعات، يردن من الشاعر أن ينتظر وأن يعيش القلق، قلق الوصول واللقاء مع احتمالية أنْ تغيّر إحداهن رأيها في اللحظة الأخيرة، كما هو الحال في قصيدة بعنوان “في الانتظار”، وخاصة عندما يقول عن تلك المرأة:
وربما نظرت إلى المرآة قبل خروجها
من نفسها، وتحسَّست أجاصَتَيْن كبيرتينِ
تُموِّجان حريرَها، فتنهَّدت وترددت:
هل يستحقُّ أنوثتي أحد سوايَ؟
هذا إذن مزاج تلك المرأة التي يستعدّ إليها الشاعر وينتظرها بعد أن اشترى للمساء الذي يجمعهما معا “غاردينيا وزجاجتين من النبيذ”. وكل بطلات قصائده كونه “عاشقا سيِّئ الحظّ” من هذا الطراز، إنه بكل مهابته يتحول إلى مجرد عاشق بائس منتظر على بوابة الاحتمال التي قد تفتح الليل على اللاشيء. وكثيرا ما فتحت أبوابه على الفراغ وخيبة الأمل.
كان درويش يهتم بصناعة طقوس اللذة أكثر من اللذة نفسها، ويسعى إلى تصويرها أكثر مما يسعى إلى وصف اللذة ومتعتها، ولعل القارئ يلاحظ ذلك في قصيدته “درس من كاما سوطرا”، فاهتم بما قبل اللذة فإذا ما جاء موعد اللذة، أجّله أو كسره أو سكت عنه. لا أدري إن كان أحد سيجرؤ على أن يتّهم درويش بفحولته. لأنه لا يحقّ لأحد أن يصيب الشاعر الفحل بمقتل مثل هذا، فالشاعر العربي يجب أن يكون فحلاً في السرير كما هو فحل في القصائد، فإن نقصت فحولة السرير ينكسر انتصاب القصائد ويبرد حبرها، وتغدو باهتة رطبة لا تصلح للنشوة الكبرى. أم أن درويش كان مؤدّبا جدا وخلوقا شعريا عالي المستوى في الأناقة التي تتناسب وطبيعة الحب الذي يعيشه في تجاربه المنتمية إلى الطبقة الفارهة اجتماعيا، إذ يقول منطق الطبقة وشاعرها: اصنع الحب وعشه ولكن لا تكتبه حتى لا يصبح متداولا مبتذلاً؟
على أية حال، تبقى هذه القضايا أمورا شخصية، لا يحسن التورّط فيها أكثر مما تورطت، فقد ارتضى الشاعر لنفسه طريقة للحياة هو في غنى عن تفسيرها وتبريرها، ومهما يكن من أمر فإنه لم يعد بإمكانه فعل هذا الآن، ونحن معشر القراء إن اقتربنا قليلا منها نجد لأنفسنا بعض العذر، بحكم فضوليتنا الكبيرة وحبنا للحديث في الأسرار والحياة الخاصة للشعراء المشهورين، إذ تسحبنا إلى مشتهايتها أكثر مما تورطنا في عجينة الشعر وخبزه الباقي على المائدة. فقد رحل الشاعر والشعر غزير، لكنّ المقبلين على الشعر جوعى، ولا يسدّ جوعتهم إلا “خبز الآخرين” السريع الهضم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يصنع ذائقة ولا فناً ولا متعة كما يصنعه شعر الشاعر محمود درويش كما أدّعي دائما، ومنذ زمن بعيد.