بعيدا عن كرة القدم وكل ما تحمله من بهجة وحسرة ومفاجآت وحماس وتعصب, فإن صفقة نادي باريس سان جيرمان الأخيرة قد أثارت ضجة ما بعدها, منذ اللحظة الأولي عن الإعلان عنها, إلي ما بعد وصول النجم البرازيلي نيمار إلي ناديه الجديد بالعاصمة الفرنسية.
والضجة هذه المرة غريبة بكل المقاييس, فقد امتزج فيها معايير السوق الكروي التي تغيرت, بالأسباب السياسية والاقتصادية الكامنة خلف الصفقة نفسها, مما حولها لمباراة إعلامية علي كل المستويات.
بالنسبة لنا علينا أن نكون أكثر صدقا مع أنفسنا, وأن نحاول بقدر الإمكان رؤية الحقيقة, فالمشهد الحالي بصرف النظر عن أهمية اللاعب ونجوميته وعشق جماهيره له, يحمل ويحذر من الكثير.
أما تفاصيل السوق الكروي وما سيعتريه من تغيرات, فلا علاقة لنا بها هنا, فالأقدر علي رصدها وتقييمها المتخصصين في هذا المجال. فيما المشهد الاستعراضي العام هو ما يعنينا الآن, لما يحمله رسائل يمكننا الاستفادة, بدلا من الهجوم الأحمق عليه من دون جدوي.
في الوقت الذي تهلل فيه وسائل الاعلام الفرنسية بوصول نيمار للانضمام لأحد نواديها الرياضية, وهو ما سيجعل كرة القدم الفرنسية, بحسب المراقبين, ستكتسب بعدا جديدا لها, إلا أن الاعلام نفسه لم يغفل الربط بين الإصرار علي إتمام الصفقة في هذا التوقيت, وبين المقاطعة السياسية المفروضة علي الدوحة, واستبدالها السريع للتواجد علي المشهد, فبدلا من دعم المجموعات الانفصالية أو الإرهابية, تؤكد وجودها عبر قوة ناعمة لا يستهان بها وبشعبيتها وبقدرتها علي إثارة الاهتمام.
لن ننكر أن وصول نيمار إلي باريس قد ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد, وحقق الهدف منه علي أكمل وجه, بإرسال أكثر من رسالة ليس في مجال الرياضة فقط, بل أيضا علي المستويين الاقتصادي والسياسي:
فقد حولت قطر كل الأنظار, لفترة, بعيدا عن الاتهامات الموجهة لها, بدعم الإرهاب والتدخل في شئون دول المنطقة, لمساحة شديدة الجذب لكل من يهتم أو لا بالسياسة وتداعياتها. من جهة أخري أعادت طرح وجودها علي الساحة الدولية بصفقة مثيرة للجدل, ومن الصعب أن تمر مرور الكرام, بسبب نجومية بطلها وحجم الأموال الباهظة المرتبطة بها, مؤكدة علي ثرائها وعلي أن المقاطعة لم تنل منها, وأنها موجودة وباقية وقادرة علي المنافسة وخلق المناخ الدعائي وإدارة دفته بحسب غاياتها.
نقطة ثالثة استفادت منها إمارة الغاز ألا وهي التغطية علي الأصوات التي تعالت في بعض دول الغرب خصوصا فرنسا, بضرورة تتبع عائدات الاستثمارات القطرية في البلاد, وحجم تمويلها الانتقائي لبعض الجمعيات والمنظمات والمدارس التابعة للجاليات المسلمة المهاجرة, والمعروفة جميعها بالتشدد ودعم العنف وتبريره, مما جعل أصابع الاتهام تربط بين المال القطري والعمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا خلال العامين الماضيين.
نعم حققت الصفقة الغرائبية كل هذا وأكثر, ونحن كالعادة نستقبل الفعل ورد الفعل بالسب وبعثرة الشعارات والتفنن في تقزيم أفعال الآخر. وفي خضم كل هذا ننسي جميعا أن الزهو بالمال لا يمكن أن يستبدل تمويل ودعم الجماعة المحظورة والنصرة وداعش, بالتمويل الضخم لأحد الأندية الرياضية ونجومية اللاعبين.
ولم نستعد بما يكفي لنكون علي مستوي مراوغة هذا الآخر, وبالقدر الذي لا يحول الأنظار طويلا عن الدماء التي سالت, والدول التي اهتزت والشعوب التي عانت وتعاني حتي هذه اللحظة. والخشية الحقيقية ألا نكون مستعدين بالقدر الكافي لمواجهة أخري تمهد للتغطية علي كل ما فعلته جماعات الدم في حياتنا ومجتمعاتنا, فليتنا نكون علي حذر يقينا شر هذه العودة التي لن تكف معها حال حدوثها المواجهات الأمنية.