هذا الرَّمل العميق الذي يَصُلُّ ويدندن في الرُّوح، صليل آلاف الانهار المنذهلة وهي ترحلُ لاهثةً الى مصباتها البعيدة، هنا عاش الثموديون والانباط، زرعوا هذا الوادي السَّاكن النائم في فتنة الليل، وتلألؤ آلاف الكواكب المضيئة المطلّة من تملٍ على هذا السكون المطبق المعجون بالرهبة والعذوبة. قلبوا احجار الوادي وهم يكتبون رسومهم ونقوشهم ومشاعرهم الجيَّاشة الدفاقة بمعين الحياة وهواجس الانسان من الاشياء الغامضة التي لم يستطيعوا ان يفهموها فاتخذوا من الحجارة والنُّصُبْ آلهةً لهم يتضرعون اليها ويهمسون باشواقهم المكبتوة. «رَّمْ» حنين آلاف النُّوقْ التي ظلَّتْ تلوكُ بروقَ الضَّجَر وتأكل عشبَ الغَضَىْ والرِّتم ونبات العجرم، وتحدِّقُ في عيونها المجهدة بنيران القوافل المتعبة من رحلةِ العطر والعاج والتوابل والحرير الفاخر، ويتعالى رغاؤها الظامئ الى الراحة والطعام وتنزيل الاكوار عن اسنمتها التي غسلها العرق الغزير في طقوس الهجير والرَّحيل المجنون بدون توقفٍ، إلاَّ حينَ تغطس الشمس الحمراء الداَّمية، خلفَ القمم الشاهقة والذُّرى العالية لجبال رَّمْ التي توجع الاعناق ليتاً واخدعا وهي تلتفتُ اليها وترمقُ فضاءاتها السرمدية اللامتناهية والموغلة بعيداً في الفضاء. هنا في قلبِ «رَّمْ» وادي القمر العاشق الذي يشكِّلُ مع نجومه البيضاء البعيدة المضيئة الواضحة وضوح الحقيقة الساطعة سطوع الحياة البهيّة المنتشية في هذا السحر المشحون بالرَّهافة والجمال والابداع الرَّباني، الذي صاغَ سمفونية الحجر والرمل، وهذه الجبال التي تتحدَّى صروف الزمان بثباتها وشموخها الذي لا ينتهي، تحدق للماضي السحيق وتحتضن المجانين الذين يدخلونَ ملكوتها الرحب. ألوذُ باعماق رهبة جمالك الآخَّاذ الساحر الذي يخلب العقل والقلب والرُّوح، ويحرك المشاعر والاحاسيس والخلجات المضطرمة، مثل صغير يلوذُ بثوبِ أمهِ الذي تعبقُ منه رائحة الطيبة والامومة والحنان. ايتها الارض الطيبة التي نثر التاريخُ عليكِ اسفاره الكثيرة، ووقف مبهوتاً امامَ حسنك الصامت الناطق مئات اللاهثين وراء الكلمات، وعندما جئناك وألقينا ازمتنا التعبى من السفر، لنتلمس من احضانك الرحبة المفعمة بالحياة، ساعةً من صفاء الذهن والعقل والنفس التي مَلَّت من الضجر، واصابها الفتور والاعياء والملل. وكما تروي الحكايات هنا في «وادي القمر» جاءَ النبطيُّون من مدينتهم النائمة في غلالتها البيضاء الرقيقة الشفَّافة والغارقة في اطياف الوحدة المعبِّرة، بينَ الجبال الحصينة المنيعة إلاَّ على جوارح الطَّير. جاءوا يحملون أزاميلهم المبدعة وزيتهم المقدَّس وشعائر صلواتهم وعبادتهم لإلاههم الاكبر «ذي الشَرَىْ»، حامي جبال «الشراه» في معتقدات الانباط، حيثُ يسكنون وتقيم عائلاتهم بامان، هنا في المعبد النبطي في قلبِ رَّمْ، كانوا يقيمون صلاة الحياة لصانع المطر والبروق الملتمعة المتوهجة، لمالك الكواكب والجبال، وعلى هذه الرِّمال الصفراء المذهبة التي تختزن دفء الشمس الملتهبة في النهار، وبرودة الليل في الحنادس المعتمة التي تأكل المكان «الرَمِّي» وترسمه باللَّون الاسود الجاثم، بعد أن جَرَّتْ الشمس أذيالها الحمراء في رحلة المغيب العالقة بين الافق الشفقي المحمر والقمم الشاهقة المنطلقة بعيداً خلف القبة السماويّة المرصعة بآلاف النجوم. «رَّمْ» أقحوانة الحياة ومتاهة الرمل الجميلة، وشغف القلوب العاشقة، وشوق السنين التي اشعلها ذوب الحنين والامل والفرح في قلوب الرِّجال الذين كانوا يجيئون ويذهبون وتبقى الحياة على هذا النسق غير المتغير من الرَّحيل الذي لا ينقطع، هذا الوادي المقدَّس النَّبيل الذي كان له الشرف العميم في أنَّ رماله الحارَّة المشتعلة من الهاجرة المصطلاة بالحر الشديد لامَسَتْ قدمي النبي الكريم «محمد» صلَّى الله عليه وسلم، نعم قدماهُ الشريفتان الَّلتان داستا ارض رَّم وهو لم يزلْ فتى لم يبلغْ مبلغ الرِّجال، ويسافرُ مع تجارةِ قريش وفي ركبِ عمِّه «ابي طالب» في رحلة الصيف الى بلاد الشَّامْ. هذا البعد التاريخي والديني العميق الأثر، المسكوت عنه عاشه هذا الوادي وكان له ان يتفاخرَ مجداً وشرفاً في احتضان هذا السرِّ النَّبوي العظيم. بين جنباته وطَّياتِ وديانه التي تتردد فيها اصداء الارواح والاصوات ونداءات وحداء الأدلاَّء وهم يقودونَ قوافلهم في رحلة الحياة التي جَعَلَتْ من «مكَّة» مهوى الارواح والافئدة، واعظم وارقى مدن الجزيرة العربية قاطبةً في ذلك الزمن السعيد الرَّائع. ومن قبلهم كانت «ثمود» وقومها الأشدّاء الذين جابوا الصخرَ بالواد، ومدينتهم «إرَمَ ذات العماد» التي لم يخلق مثلها في البلاد، كانوا هنا بحرفهم الثمودي ونقوشهم التي ترجمت انسانيتهم قبل ان يتمردوا على تعاليم النبي الكريم «صالح» عليه السلام، ويدعو عليهم ذلك الدعاء الذي قطع النسل والحرث والذريّة فسلط اللهُ عليهم الرِّيح العقيم سبعَ ليالٍ وثمانية ايامٍ حسوماً، فترى القومَ فيها كأنهم اعجازُ نخلٍ خاوية كما أخبر القرآن الكريم عنهم. من المدائن الحجرية البعيدة «مدائن صالح» ومن دروب القوافل بين الحجر ورَّم كانوا يذهبون ويأتون وهم يحلمون بالقادم من ظهر الغيب، هنا كانت الارض التي وطئوها بنعالهم الجلدية واقدامهم الحافية العارية الغائصة في الرَّمل الناشف. طغوا على امر رَبِّهم فكانت لهم السماء بالانتظار وإنَّ ربُّك لبالمرصاد، فقد أخذتهم عاصفة الرمال العملاقة وغطتهم عن بكرة ابيهم، فلم ينجُ إلاّ من كتب الله له النجاة وآمن مع صالح النبي الكريم عليه السلام. هذه إذن بداية الحياة بعد ان انقطع الشر وظلَّت الفئة المؤمنة تمارس تعاليم الوحدانية وتقدس بركة الخالق على هذه الارض العظيمة التي حَسَمَتْ امرها الريح العقيم في سبع ليالٍ وثمانية أيام، لم يكن بها غيب ولا مطر ولا برق إلاّ البروق الخلَّب، بروق العذاب والنهاية المحتومة المأساويَّة. *** وفي «رَّمْ» تذوبُ آلاف الشموس في هذا البهاء الكوني المتجلِّي، لتندرس الظلمة الجاثمة مع اول خيط من خيوط النور واليقظة المبدعة، إنَّه شروق الشمس في المشهد الرَمِّي المذهَّب، لوحة الوجود الخالدة التي فتنت آلاف المنبهرين والمندهشين بروعة الطبيعة البكر، وهي تنضو عن جسدها الفاتن ثوبَ النَّومْ، وبقايا التثاؤب الكسول هنا في هذه الروعة المتبدية بأرقِّ فتنتها تقف الكلمات عاجزة عن وصف هذا البديع المضمخ بالعطر والفتنة والسحر والجمال. ومع الليل كانت نار القِرَى والسَّمَر، وهذه الأناشيد العذبة والاوراد والصلوات التي تتلوها ألسنةُ المبدعين الذينَ نزلوا هنا من هناك حيثُ الضجيج والصخب واللهاث خلف العيش. جاؤوا بأرواحهم المبتهجة هروباً الى جماليات المكان الرَّمي الخلاَّبْ، لتولد الكلمات معسولةً متقاطرةً احساساً عجيباً، من رحيق الابداع ومن وحي الالهام والهدوء الذي يتفنَّنُ الصَمْتُ في رسم ايحاءاتهِ ولغته المعبرة رغمَ أنَّها لم تنطقْ حرفاً واحداً. أيتها الارواح الملهمة المحتشدة بآلاف الصور والمشاهد وأفانين القول الذي أقفلت عليه الدَّهشة أقفال الصمت! ولربما دائماً فيما بَعْدُ ستأتي سحبُ الكلام الممطرة، لنجد هذا المشهد اللوني البصري والسمعي المليء بالاطراق والارهاف لأدنى صوتٍ ونأمةٍ وحركة المسكون بنشوة الحياة وروعة المنظر ورهافة الاحساس البكر الذي يغمسُ انفاسه في عبير هذه الفضاءات المجنونة المسحورة بالحلم والرؤى وعذابات الرحيل، في ذلك الَّليلْ الرَمِّي المتاخم لحدود الروح، والدّافق بأصباغ التعبير المستكينة والمتفجرة في آنٍ معاً، إنَّها لغة الحياة وأناشيد البقاء وصيرورة الزمن المتعاقبة.
احمد مزيد ابو ردن