لآفاق حرة
محمد فتحي المقداد: روائي يكتب بصوت الإنسانية وأديبٌ يرسم عوالم من الحكايات العميقة
بقلم. د. مفلح شحادة
حين يلتقي الواقع بالخيال، وحين تتقاطع المأساة مع الأمل، نجد صوتًا أدبيًا قادرًا على التقاط أدق تفاصيل الحياة ونقلها بسردٍ يمزج بين الفلسفة والتوثيق والحكي العفوي العميق. إنه محمد فتحي المقداد، الروائي والناقد، الباحث في ثنايا الإنسانية، والمستكشف لأبعاد المعاناة والأمل في مجتمعات تقف على حافة التحولات الكبرى.
الميلاد الأدبي لرجلٍ ينحت الكلمة كما ينحت الحياة
وُلد محمد فتحي المقداد عام 1964 في بصرى الشام، تلك المدينة الضاربة جذورها في التاريخ، بين حجارتها القديمة تناثرت أولى تأملاته، وفي أزقتها تشكّلت رؤيته للعالم. نشأ في كنف بيئةٍ شهدت التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى، فكان شاهدًا على تغير الزمن، ومؤرخًا لحكايات البشر في مدنهم المهجورة وقراهم الحيّة.
لكن المقداد لم يأتِ إلى الأدب من نوافذ الجامعات أو دروب الأكاديميات، بل جاء من قلب الشارع، من مهنته كحلاقٍ، حيث جلس إلى الناس، استمع لقصصهم، تأمل ملامحهم، وغاص في تفاصيل أرواحهم، فكان في صالونه الأدبي الصغير، يكتب بيديه حكاياتٍ يُعيد ترتيبها لاحقًا على الورق، ليحملها إلينا في هيئة رواياتٍ ومقالاتٍ وقصصٍ ونصوصٍ تنبض بالحياة.
ما بين القَصّ والنقد: كاتبٌ يرفض القوالب الجاهزة
منذ بدايته الأدبية، لم يقف المقداد عند نمطٍ واحد، بل اتسعت رؤيته الإبداعية، ليكون روائيًا يروي هموم العصر، وناقدًا يفكك النصوص، وصحفيًا يُحاور المبدعين، وباحثًا يوثّق التراث واللغة. هو كاتبٌ لا يتوقف عن طرح الأسئلة، ولا يتردد في اقتحام المساحات التي يخشاها كثيرون، كالحرب، اللجوء، القهر السياسي، الاغتراب النفسي، والتحولات الاجتماعية العميقة.
الرواية: مرآةُ الوجع والمقاومة
إذا كان الأدب انعكاسًا للواقع، فإن المقداد صانعُ مرايا، يعكس من خلالها صورًا لا تكتفي بسرد الحدث، بل تُجبر القارئ على التفاعل معه. في رواياته مثل “دوّامة الأوغاد”, “الطريق إلى الزعتري”, “فوق الأرض”, “بنسيون الشارع الخلفي”, و*”خيمة في قصر بعبدا”*, يقدّم لنا حكاياتٍ تتجاوز السرد التقليدي، لتغوص في تفاصيل النفس البشرية، وتفضح المسكوت عنه، محملةً برؤية نقدية ثاقبة للحياة في المجتمعات العربية.
في “الطريق إلى الزعتري”, يرسم مأساة اللجوء كما لم تُرسم من قبل، ليس بوصفها مجرد انتقال جسدي من وطنٍ إلى مخيم، بل كانت رحلةً في أعماق النفس، تُجسد الضياع، والخوف، وتلك المسافة القاتلة بين ما كنا عليه وما أصبحنا فيه. أما في “دوّامة الأوغاد”, فهو لا يهادن، بل يواجه، محطّمًا أقنعة الزيف التي تُخفي بشاعة الفساد والاستبداد، في حبكةٍ تُعيد تعريف الواقع، ليس كمجرد أحداث، بل كمتاهةٍ يعبرها الإنسان بحثًا عن ذاته.
القصة القصيرة جدًا: فخاخ المعنى في جملٍ خاطفة
لم يكتفِ المقداد بالسرد الطويل، بل أبدع في فن القصة القصيرة جدًا (ق.ق.ج.)، ذلك الفن الذي يتطلب دقةً كالتي يمتلكها الحرفيون المهرة. في مجموعاته “بتوقيت بصرى”, “سراب الشاخصات”, و*”زوايا دائرية”*, يعيد المقداد تعريف القصة، ليجعلها ومضةً، مشهدًا مكثفًا، ينفجر في ذهن القارئ كجرس إنذار، أو كنقطة ضوءٍ في عتمة النص.
ناقدٌ يقرأ الأدب بروح الحكيم والمتمرّد
إذا كان الإبداع لديه حالةً دائمة، فإن النقد عنده ليس مجرد تحليل، بل هو قراءةٌ بأعينٍ مفتوحة على الزمن والتاريخ والمجتمع. في كتبه “إضاءات أدبية”, “قراءات في الرواية الأردنية”, “حديث المنجز”, و*”قراءات روائية في الأدب العالمي”*, ينطلق المقداد من رؤيةٍ تجمع بين الفهم العميق للنص، والقدرة على تفكيك شيفراته، ليقدّم لنا قراءاتٍ تُنير زوايا جديدة للأعمال الأدبية التي يتناولها.
لم يكن ناقدًا جافًا، بل كان قارئًا يعيد صياغة النصوص في ضوء فهمه الفلسفي والاجتماعي، ليجعل من النقد مساحةً للحوار، لا محكمةً لإصدار الأحكام.
التوثيق والتراث: الحارسُ الأخير للذاكرة
يدرك المقداد أن الأدب ليس فقط صناعة المستقبل، بل هو أيضًا حراسة الماضي، لذا كان شغفه بجمع التراث، وتوثيق اللهجات، وتدوين الحكم الشعبية، جزءًا من رسالته الأدبية. في كتبه “رقص السنابل”, “الوجيز في الأمثال الحورانية”, و*”الكلمات المنقرضة من اللهجة الحورانية”*, نراه يعيد إحياء تلك العبارات التي كادت تُنسى، جاعلًا من التراث جزءًا حيًا من الحاضر، وليس مجرد صفحةٍ في كتابٍ قديم.
الكاتب المحاور وصانع الجسور الثقافية
لم يكن المقداد مجرد كاتبٍ ينعزل في برجه العاجي، بل كان رجلَ الحوار بامتياز، فكان حواراته الأدبية في كتب مثل “على كرسي الاعتراف”, “حوارات سورية في المنفى”, و*”حوارات في المنفى”*, أشبه بمسرحٍ تُكشف فيه كواليس الكتابة، وتُضاء خفايا العقول الإبداعية.
كما ساهم في صنع موسوعةٍ أدبية عربية عبر عمله على إعداد “دليل آفاق حرة للأدباء والكتاب العرب”, تلك الموسوعة التي جمعت ألف اسمٍ أدبي عربي، في جهدٍ توثيقي نادر، بالتعاون مع الناقد محمد حسين الصوالحة.
أدبه في عيون النقاد والباحثين
لم يكن إبداع المقداد مجرد تجربة شخصية، بل كان مادةً للبحث والدراسة في جامعات عربية مختلفة. تناولت رسائل ماجستير ودكتوراه أعماله من زوايا متعددة، سواء في تأثير الحرب على الرواية، أو دراسة اللجوء في الأدب، أو البحث في أساليب السرد لديه. وهذا الاهتمام الأكاديمي يعكس مدى عمق تجربته الأدبية، ومدى تأثيرها في المشهد الثقافي العربي.
المقداد: كاتبٌ يُشبه المدن التي تحترق لكنها لا تموت
إن الحديث عن محمد فتحي المقداد ليس مجرد حديثٍ عن كاتبٍ غزير الإنتاج، بل هو حديثٌ عن رجلٍ جعل من الكتابة طريقًا للكفاح، ومن الكلمة سلاحًا في وجه النسيان. هو كاتبٌ يُشبه المدن التي تحترق لكنها لا تموت، يُشبه الأشجار التي تُجتث لكنها تعود لتنبت من جديد، وهو قبل كل شيء، كاتبٌ لا يكتبُ ليُرضي، بل يكتبُ ليُحرّك، ليوقظ، وليترك أثرًا لا يُمحى.
…
ملاحظة الصورة المرفقة هي للاستاذ محمد فتحي المقداد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المنجز الأدبي للأديب للأخ الكريم الأستاذ محمد فتحي المقداد يستحق الثناء والاحترام.
أحسنت اخي الكريم د. مفلح شحادة وجزاك الله تعالى خيرا، على هذه الشهادة المنصفة.
تحياتي لكما مع تمنياتي بمزيد من العطاء المتجدد.. رمضان مبارك وكل عام وأنتما بخير