كتب:د قاسم المحبشي
اشتهر أرنولد توينبي، أكثر ما اشتهر بفكرة (التحدي والاستجابة) مثلما اشتهر أفلاطون بنظرية المُثل وأوغسطين بالعناية الإلهية، والقديس أنسليم بالبرهان الأنطولوجي، وديكارت بالشك المنهجي، وفرانسيس بيكون بالأوهام الأربعة وليبنتز بالمونادات، وهيجل بالديالكتيك، وشبنجلر, بأفول الغرب، وكولن ويلسون بسقوط الحضارة، وسارتر بالوجود والعدم. بل أن توينبي قد عُرف بصاحب نظرية التحدي والاستجابة، بحيث غدت العلاقة بين توينبي ومفهوم التحدي والاستجابة علاقة محايثة في الدراسات المعاصرة، فحينما يذكر توينبي، يُستدعى مفهوم التحدي والاستجابة وحينما تذكر نظرية التحدي والاستجابة، يقفز إلى الذهن توينبي(). على هذا النحو اكتسبت العلاقة طابعها الرمزي بحيث صار التحدي والاستجابة، يدل على توينبي، كما يدل توينبي على التحدي والاستجابة، فما معنى التحدي والاستجابة وما الوظيفة التي يضطلع بها هذا المفهوم في فلسفة التاريخ عند توينبي، ولماذا اشتهر توينبي بذلك؟
معنى مفهومي التحدي والاستجابة
على الرغم من أننا لم نعثر على تعريف واضح لمفهوم التحدي والاستجابة، لا عند توينبي ولا عند من درسوه، لكننا سوف نسلط الضوء للكشف عن الدلالات النظرية والمنهجية والنفسية التي ينطوي عليها هذا المفهوم المركب.
ولعل سر جاذبية مفهوم التحدي والاستجابة تكمن في تلك الطبيعة الغامضة والملتبسة التي ينطوي عليها أكثر من أي شيء آخر، فهو مفهوم مزدوج اللفظ والمعنى والوظيفة، فمن حيث اللفظ نحن بإزاء مفهومين أساسين هما التحدي – والاستجابة، ويشير لفظ التحدي إلى وجود: واقع، موضوع، مثير، مشكلة، موقف، أزمة، خطر، تهديد، سؤال، لغز وغير ذلك من المعاني المشابهة التي تدل على خارجية التحدي من حيث انه وجود قائم خارج ألذات التي تستجيب له، وبهذا المعنى ترمز الاستجابة إلى، الرد، الجواب، الإثارة، المجابهة، الشعور، الغريزة، الخوف، الفعل، الحل، التجاوز، التمرد، الوعي، التخلص، وغير ذلك من المعاني المشابهة التي تدل على داخلية الاستجابة من حيث إنها وجود قائم داخل ألذات، فالاستجابة هي ألذات والتحدي هو الموضوع. على هذا النحو نكون بإزاء المشكلة القديمة الجوهرية التي جابهها الإنسان منذ بواكير وعيه الأولى، إنها مشكلة العلاقة بين الموضوع والذات، بين العالم الخارجي بكل تحدياته المادية الطبيعية والاجتماعية والتاريخية، وبين العالم الداخلي للذات البشرية وكل ردود أفعالها الواعية وغير الواعية، لكن الفصل بين التحدي والاستجابة، هو جائز فقط على الصعيد النظري لغرض التبسيط والفهم. أما في سياق الخبرة المباشرة للحياة الواقعية، فمن الصعب الفصل بينهما، وبهذا المعنى جاء مفهوم التحدي والاستجابة عند توينبي مزوداً بشحنة انفعالية نفسية شاعرية، وفي ذلك تكمن سر جاذبيته وشيوعه في حقل الثقافة المعاصرة، إذ بات لفظ التحدي والتحديات، من الألفاظ الشائعة في معظم الكتابات والخطب السياسية والإيديولوجية.
لقد كانت فكرة التحدي والاستجابة في مدلولها البسيط والواقعي المباشر، هي التعبير الأمثل عن الحالة الطبيعية لحياة الكائن الحي عامةً والإنسان على نحو أكثر نضجاً. إنها تعبير عن رد فعل الكائن الحاس على العالم المحسوس، رد فعل وتكيف بالتطور، وتطور بالتكيف، وحل لمشكلة وتجوز لأزمة، واتخاذ موقف يزيده قوة في مواقع محمية ويزده حماية في صراعه (الإنسان) الدائم مع الطبيعة والمجتمع ومع نفسه. والتاريخ كله هو قصة تكيف الإنسان ورد فعله وموقفه إزاء الطبيعة بما فيها طبيعته هو التي هي أشد الطبائع عناداً وتمرداً على التطويع واستغلاقاً على الفهم().
إن هذه الاستجابة التي تعد ردّ فعل الكائن الحاس إزاء المؤثرات الحسية، لم تكن في الواقع من اكتشاف توينبي ولا غيره من الفلاسفة، بل هي فطرة وطبع في الإنسان وفي الحيوان، غريزة حفظ الحياة والمحافظة على البقاء, فاستجابة الأحياء لتحدي البيئة الخارجية بتكيف هذه الأحياء على وفق متطلبات هذه البيئة هي مقولة من مقولات علم البيولوجيا سواء للجماعة أو الفرد، وأيضا فان علم التشريح يؤكد هذه الصفة في نشاط المقاومة الداخلية في جسم الكائن الحي، عند حدوث أي مثير مهدد من الخارج، وقد يكون توينبي استند لا شعورياً إلى هذه الملاحظة العامة عندما صاغ نظريته().
وإذا كانت شهرة توينبي -التي تفجرت على نطاق واسع بعد عام 1945-، تعود في جزء منها إلى قوله بنظرية التحدي والاستجابة، فهي شهرة قامت على سوء فهم أكثر منها على واقع، ونقصد بسوء الفهم هنا الاعتقاد الذي ساد بأن توينبي هو مبدع نظرية التحدي والاستجابة، على أن الحقيقة التاريخية تشير إلى أن فكرة التحدي والاستجابة تعود في جذورها الأصلية الى الفكر الصيني القديم إذ “وردت في كتابات (التغيرات) (آي جنج أو) للفيلسوف الصيني (ون وانج) الذي اخترع (الجوات) أو التثاليث الرمزية التي ترمز لعلوم ما وراء الطبيعة، وتعبر عن قوانين الطبيعة وعناصرها، وكل واحد من هذه التثاليث يتألف من ثلاثة خطوط بعضها متصل ويمثل عنصر الذكورة أو اليانج Yang وبعضها منقطع ويمثل عنصر الأنوثة او الين Yin، ويمثل اليانج في هذه الثنائية الرمزية العنصر الإيجابي الفعال المنتج السماوي، وعنصر الضوء والحرارة والحياة، مع أن الين يمثل العنصر السلبي المنفعل، الأرضي عنصر الظلمة والبرودة والموت، والحقائق كلها يمكن ردها إلى تعارض واتحاد العاملين الأساسين في الكون، الذكورة والأنوثة، أي اليانج والين”().
وتوينبي لا يدعي أنه مبدع نظرية التحدي والاستجابة التي عدها (قانون تحول المجتمع من الحالة البدائية الى الحالة الحضارية(). بل يعيد أصولها إلى حكمة الصين القديمة، إذ يعترف بأن حكماء الصين بخيالهم الخصيب هم أول من أطلق على هذا الترديد المتعاقب بين الركود والحركة اصطلاحي (الين واليانج) والين هو الركود واليانج هو الحركة الدافعة. ويقول توينبي: “يبدو أن نواة الحرف الصيني الذي يعبر عن الين، تمثل سحباً قاتمة ملتفة تحجب الشمس. على أن نواة الحرف الذي يعبر عن اليانج، تمثل قرص الشمس خالياً من السحب وناشراً أشعته. وفي العبارة الصينية يذكر الين قبل اليانج على الدوام”().
هذا الإيقاع المتعاقب لحركة التاريخ من الجمود إلى الحركة، من السلبية إلى الإيجابية، من السكون إلى النشاط، من الهبوط إلى الصعود، كان قد وجد من يعبر عنه في أدب الرافدين ومصر الفرعونية، إذ إن “الجهود الفلسفية لقدماء العرب في تتبع مسار حركة التاريخ” قد اتخذت عندهم حركة (لولبية) (مغزلية صاعدة – هابطة – صاعدة) لذلك راحوا يفتشون عن أسباب ذلك الصعود ليوظفوها في تجاربهم اللاحقة تجنباً للهبوط وعوامله”().
وقد فلسف (كابيني – إيلاني – مردوخ) مغزى هذه الحركة واتجاهاتها وشروطها منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد وهو “يتحدث عن ثلاثية (الصعود – الهبوط – الصعود) وشروطها التي تغيب بغياب قوة القيم والنظام، فلا نهضة مستقبلية إلا ببعث (القوة) بكل أشكالها”(), وهذا يعني أن فكرة التحدي والاستجابة قد جرى التعبير عنها بصيغ وعبارات مختلفة عند معظم الشعوب القديمة والحديثة، ومن حيث هي التعبير الطبيعي عن مجرى الحياة والتاريخ، فقد أثارت اهتمام الإنسان منذ أقدم العصور وهذا التردد بين الين واليانج بين السكون والحركة، بين الفعل ورد الفعل، بين المد والجزر هو الذي عبر عنه أفلاطون بالجدل الصاعد والجدل الهابط، في جمهوريته، إذ صور أفلاطون التاريخ صراعاً بين حالتين، حالة الرتابة والتقليد والتعصب والضلال، والشقاء والظلم والفوضى في عالم الحس والحواس والكون والفساد، وحالة العدالة والسعادة والنظام والتجاوز والنور والجمال والحق والخير في عالم الروح والعقل والخلود والثبات().
وقد عبر ابن خلدون عن الفكرة ذاتها في تفسيره حركة التاريخ من حالة البداوة والتوحش إلى حالة العمران والتحضر، وقد أشار توينبي أكثر من مرة إلى أهمية تفسير ابن خلدون للتاريخ().
وعلى صعيد الدراسات الفلسفية التاريخية المعاصرة يمكن القول أن توينبي لم يكن الوحيد في تطبيق فكرة التحدي والاستجابة، فقد اقتنص هيجل الفكرة قبله وأنشأ منها نظرية في المنطق الجدلي، كما عبر عنها الاقتصادي الإنجليزي مالتوس بصيغة أخرى في نظريته حول السكان والتناحر على البقاء، وقد استلهم تشارلز داروين الفكرة ذاتها في كتابه (أصل الأنواع)().
وفي هذا السياق ذهب يوسف الحوراني إلى “أنه لا يوجد أي فرق بين نظرية الديالكتيك الماركسية ونظرية توينبي في التحدي والاستجابة. فنظرية التحدي والاستجابة هي بالأساس نظرية ديالكتيكية”().
ويرى آرثر هيرمان، أن توينبي “استعار مفهوم التحدي والاستجابة من الفيلسوف الفرنسي برجسون 1859 – 1941 في مفهومه عن (الوثبة الحيوية) إذ يرى أن نشوء الحضارة كان نتاج وثوب روحي يحرك كل حضارة من التحدي وعبر الاستجابة، إلى تحدٍ أبعد.. وهو بذلك نقل الاستبطان الذاتي الصاعد من الفرد إلى التجربة الجمعية للمجتمعات الكبيرة”().
ويأخذ بعض النقاد على توينبي تأثره بسيكولوجيا عالم النفس (يونج) الذي فسر السلوك الفردي في ضوء المثير الحسي والاستجابة النفسية، فقد حاول توينبي أن ينقل نتائج نظرية سيكولوجية في تفسير السلوك الفردي إلى تفسير التاريخ الكلي والمجتمعات الكبيرة(). على هذا النحو نخلص إلى أن سوء الفهم في شهرة توينبي إنما يعود في أحد جوانبه إلى كونه اشتهر بما لا يمتلكه ولم يكن من إبداعه وبنات أفكاره.
ويقوم الجانب الآخر من سوء الفهم هذا فيما أعتقده توينبي بأنه قد امتلك بنظرية (التحدي والاستجابة المفتاح السحري الذي يفتح جميع الأبواب)(). إذ حاول أن يفسر بهذا المفتاح السحري كل ظواهر التاريخ، نشوء الحضارات ونموها وازدهارها ثم تدهورها وانحلالها وسقوطها، إذ تؤدي فكرة التحدي والاستجابة دوراً رئيساً في تصوير توينبي اتجاهات الشؤون البشرية، وفي تفسير أحداث التاريخ واستخلاص نتائجها وعبرها، وهي نفسها الفكرة التي استند إليها في إلقاء الضوء على العلاقات الدولية وأخيراً في بيان وجهة نظره بشأن طابع الحضارة الغربية خاصة ومستقبل الإنسانية عامة، وقد اختلف الدارسون بشأن معنى التحدي والاستجابة الملتبس والغامض، إذ أعلن وولش: “أن كثيراً من أفكار توينبي الرئيسة مثل التحدي والاستجابة، والانسحاب والعودة قد خيبت الآمال لعدم دقتها”().
ويرى ألبرت حوراني في نقده توينبي أنه: “إذا ما سأل المرء عن إيضاح لهذا الإيقاع بين (الين) أو السكون و(اليانج) أو الحركة، فإنه لا يحصل على إيضاح وإنما على وصف شعري”().
بينما يذهب الوجودي كولن ويلسون إلى أن “مفهوم التحدي والاستجابة واحد من أهم المفاهيم المهمة في دراسة توينبي التي تجاوز به الطريقة العلمية في بحث مشكلات الحضارة إلى أسلوب البحث الوجودي”().
ويهمنا ونحن نكشف عن تلك الطبيعة الملتبسة لمفهوم التحدي والاستجابة عند توينبي، أن نشير إلى أنه قد استخدمه في دلالات مختلفة وصيغ متعددة وتم تطبيقه على ظواهر كثيرة، مما أفقده الاتساق المنهجي والدقة والوضوح المعرفي، ومن الاستخدامات المتعددة لمفهوم التحدي والاستجابة يمكن الإشارة إلى: السكون والحركة، والانسحاب والعودة، العزلة والرجوع، التجمع والتبديد، السقوط والنهوض، التقليد والتجديد، المحاكاة والإبداع، الانشقاق والوحدة، السبات والنهوض، الإخفاق والنجاح، … الخ, فماذا يقصد توينبي بالتحدي والاستجابة؟
يرى توينبي أن التحدي والاستجابة هو “قانون تحول المجتمعات من الحالة البدائية المتوحشة إلى الحالة الحضارية، تحول من الركود إلى الحركة الدافعة”(). وخلاصة هذا القانون يمكن تلخيصها بالعبارة الآتية: (إن الظروف الصعبة – لا السهلة – هي التي تستثير في الأمم قيام الحضارات)، وعلاقة التحدي بالاستجابة تتخذ إحدى صور ثلاث:
1. إن قصور التحدي يجعل الطرف الآخر عاجزاً تماماً عن استجابة ناجحة.
2. أن يحطم التحدي البالغ الشدة روح الطرف الآخر.
3. أن يصل التحدي إلى درجة معقولة، تستثير الطاقات المبدعة في استجاباتها لذلك التحدي.
والتحديات عند توينبي كثيرة ومتنوعة، أسطورية وطبيعية، واجتماعية ونفسية فردية.