كان الفقيه سي احمد يجلس في المسيد على مطرحه الذي يحرص أن يكون وثيرا إلى حد ما .. هيدورة فوقها سجاد للصلاة .. ووسادة يتكئ عليها وينقلها فوق مطرحه بين الفينة والأخرى بحثا عن وضع مريح لجسده الضخم نسبيا . يتحرر من عمامته حينما يكون أمام المحضرة ، ويضعها جانبا دون إعادتها إلى سيرتها الأولى . يلتحف قشابة بيضاء واسعة تستر كل جسمه ، ينشد الهواء العليل الذي يندر لشدة الحر الذي يجتاح البلدة خلال فصل الصيف .. يحس المرء كما لو أن الشمس قريبة من رؤوس العباد .. على يسار المطرح يضع الفقيه ثلاثة قضبان طويلة ورقيقة يقطعها من شجرة السفرجل التي تنمو خلف المسجد بمحاداة ساقية الماء التي تروي بساتين الجوار . في مدخل المسيد عند الركن الأيمن من الباب تقبع خابية الماء الصالح للشرب مدثرة بثوب الخيش المبلل ، لتحافظ على برودة المياه وطراوتها .. فوق غطائها قدح الفخار المزين بنقط القطران ..
يجلس أمام الفقيه على حصير بهتت ألوانه وتهلهل نسيجه لتوالي افتراشه عبر السنوات وجلوس المحضرة عليه .. دزينة من الأطفال الصغار لا تتجاوز أعمارهم العشر سنوات . حليقي الرؤوس ولا تستر عوراتهم إلا تي – شورتات واسعة وشورطات أوسع . تعكس ألوان الأزياء وله الصبيان بكرة القدم وباختياراتهم لمن يحبون من نجومها .. ينتمون كلهم إلى مدرسة البلدة الإبتدائية ، ويحضرون إلى المسيد ليتلقوا دروسا في حفظ القرٱن وتجويده وتعلم الخط المغربي بالطريقة التقليدية أثناء العطلة المدرسية الصيفية .. فالعطلة بالنسبة لهؤلاء الأطفال لا تعني لهم الشيء الكثير ، ولا لأولياء أمورهم .. فالعطلة بالنسبة للجميع فائض من الوقت يستغل في أعمال الفلاحة أو التسكع .. فيكون الذهاب إلى المسيد لحفظ القرٱن أفضل البدائل المتاحة …
يتقارب المستوى التعليمي بين معظم محضرة الفقيه باستثناء طفلين إلتحقا بالمسيد بعد رفاقهم بموسمين ، وهما النح وبنقدور . يدرسان في المستوى الثاني الابتدائي بمدرسة البلدة كذلك . إنما باستثناء هذين الطفلين حديثي الالتحاق بالمسيد ، لا تلاحظ فوارق واضحة بين المحضرة في ما يكتبونه ويحفظونه من كتاب الله . مما يسهل عمل الفقيه الذي يفضل أن يستظهر الأطفال ما حفظوه جماعيا قبل نهاية الحصة المسائية .. ويفسح لنفسه المجال ليغفو قليلا وهم يحفظون ويرددون ما كتبوا في ألواحهم ..
يوثر الفقيه غرفة المسيد عن باقي الفضاءات ، لموضعها المتميز داخل المسجد ، حيث لا تدخلها أشعة الشمس والحرارة خلال الفترة الصباحية على الخصوص . فنوافذها الصغيرة القريبة من السقف تسمح بولوج نسائم الهواء الشمالي فتجعلها باردة نسبيا ومواتية للدروس الصباحية . يخصص الفقيه هذه الفترة ليسهر على تخطيط حروف الٱيات الموجهة للأطفال ، فيقومون بالكتابة فوقها باليراع والصمغ ، وهم يدققون في رسمها حتى تكون مطابقة لتحناش الفقيه على ألواحهم .. بينما ينتقل الجميع إلى بهو المسجد ، بعدما يكون الظل قد اكتسحه بالكامل وطرد منه حرارة منتصف النهار ، لإتمام حصة مابعد الزوال التي تنتهي عند ٱذان العصر ، وهي حصة الحفظ ومحو الألواح بعد الاستظار ..
يخصص الفقيه وقتا لا بأس به للنح وزميله ، لما لمس بعض النقص في قدراتهما المعرفية ومهاراتهما الحركية ، ويستوعبان دروسه ويتمكنان من كتابة وحفظ ما يخطه لهما الفقيه .. وهو بذلك يسعى إلى تقريب الهوة بينهما وبين باقي المحضرة ، أملا في اندماجهما في مستوى المجموعة بسلاسة .. غير أن الأمور صارت عكس ما أراده الفقيه . فالنح أظهر ضعفا بينا في تعلمه ، وثقلا في فهم واستيعاب مايكتب ويقرأ ، وعنادا طفوليا يحول دون انفتاحه على زملائه ورفضه غير المبرر لكل شيء ..
قال له الفقيه ذات مرة ..
– حل عينيك شوية ، وتبع مزيان الحروف لي كتبت لك ..!
– شوف اصحابك يكتبون مزيان ! حاول تقلدهم ..
أحس النح بالخجل يغزوه ، وبدأت أصابع يده تهتز وترتعد بالرغم من محاولاته العديدة ضبط نفسه وتجاوز ٱثار الإضطراب الذي عم جسمه ، حتى كادت قارورة الصمغ تنفلت من يده .. باءت محاولاته بالفشل ، ولم يتمكن من تتبع ماخطه الفقيه بالدقة المطلوبة ، رغم عنته في ذلك ..
– زيد لهنا نشوف ٱش كتكتب !
اقترب النح زاحفا وهو في وضع الجلوس حتى بلغ مطرح الفقيه ، ودقات قلبه تتزايد سرعتها وعيناه لا تبرحان عدة العقاب ..
– ماهذا ؟ ما هذه الخربشات؟
أمره الفقيه أن يسترسل في الكتابة أمام أنظاره وهو يراقب حركاته ، وأنفاسه تلهب رأس النح الحليق . لكن هذا الأخير لم يستطع إنجاز ما طلب منه الفقيه بفعل ضغط الحالة النفسية التي يعيشها .. فتجمدت أنامله ولم يقو على تحريك يراعه فوق اللوح . فانهمرت دموعه قبل أن ترسم على محياه علامات البكاء ، لفشله في إنجازه وإحساسه بالمهانة أمام المحضرة وارتعابه من العقاب ، ومن سطوة التمنع التي تجيش في صدره ..
– لماذا تبكي ؟ ارجع إلى مكانك وتابع كتابتك واصمت .. سنرى عملك بعدئذ ..
غير أن النح استمر في البكاء والشهيق ، والدموع تخط مسالكها على وجهه الكئيب .. ونظرات زملائه الصامتة والحذرة لا تفارقه ، كما لو أنهم ينبهونه بضرورة التسلح بالشجاعة الكافية لانهاء ماطلب منه سي احمد ، ويحثونه بصمتهم وملامحهم الطفولية المندهشة على الاجتهاد أكثر . وهم يتهيأون لما سيحصل عليه النح من جزاء ..
– قلت لك أصمت واكتب ..؟
يباغثه الفقيه بتعليماته الصارمة ونظراته الغاضبة .
– قطع النح وسكتنا .. وإلا …
ثم مد الفقيه يده يتحسس القضبان الممدودة بجانبه ..
ضحك بعض المحضرة ضحكا طفوليا ممزوجا بالوجل من الحالة التي عليها الفقيه لشدة غضبه من زميلهم ، لما سمعوا كلام الفقيه يأمر النح بالسكوت .. فنهرهم هذا الأخير بغلظة ، وهو يستفسرهم عن سبب ضحكم ..
– حشموا وتابعوا قراءة ما في ألواحكم ..
– مم تضحكون ؟
فتشجع أحد الصبية وتحدث ببراءة وبصوت متقطع بلغ بالكاد مسامع الفقيه ، ليخبر هذا الأخير أن لقب زميلهم الذي يعاني من ورطته هو : النح ..!
– راه سميتو النح نعم اس !
أنهى النح يومه بحصة العقاب المعلومة جزاء على ضعف استيعابه وسوء كتابته ، وعلى ما لحق قشابة الفقيه أثناء العقاب من أذى ، بعدما انسكب الصمغ على جزء من تلابيبها ، إثر انفلات القارورة من يد النح المرتعشة …
اشتدت معاناة النح مع المسيد والفقيه الذي لا يتوانى في معاقبته باستمرار ، وتفاقم ضعف قدراته على الحفظ وضبط الخط كما يرسمه له الفقيه على لوحه .. واستبد به خوف مرضي من العقاب الذي بات حتميا بالنسبة له . ومما زاد في الطين بلة ، استهزاء رفاقه منه واستخفافهم بقدراته الضعيفة ، وعدم تمكنه من مسايرة الدروس .. حتى أصبح إسم النح لدى زملائه ، مرادفا للكسل والتهاون وضعف التحصيل الدراسي ..
فأصبح كل محضرة المسيد وتلاميذ المدرسة ، بعد تعميم المفهوم الجديد للكسل وتداوله بينهم ، ينادون زملائهم الكسالى .. بالنح ..
– سير النح ..
– مالك نح أصاحبي .. ؟
– ياك ما بنت ليك أنا نح ؟
– أنا نح في الفرنسية .. !
زاد هذا التوصيف الجديد لمفهوم الكسل الذي أقحم فيه إسم النح ، من شدة رفضه للمسيد وللمدرسة عموما وعزوفه القوي عن التعلم . وامتنع عن الرجوع إليهما .. يختلي بنفسه كثيرا ويلوذ إلى الصمت والسكون ، وينزوي في ركنه تحت شجرة التين الوارفة .. لم يستسغ الأب أحوال إبنه وما لاحظه عليه من تغير وتوجم ملامحه ، والحزن الذي اعترى قسماتها .. فراح يستقصي أحواله وأسباب تقاعسه عن الذهاب إلى المسيد ، هو الذي لم يكن يبالي بهذا الأمر من قبل ، ليخبره وبصراحة عن العنف الذي يمارسه الفقيه عليه ، لعدم قدرته على مسايرة دروسه في الكتابة والحفظ ، واستهزاء زملائه منه ، وجعل إسمه مرادفا للكسل .. ! فاختلط الحكي بالدموع والبكاء والأنين والشهيق .. فتأكد الأب أن إبنه بلغت به المعاناة مبلغها .. وزاد استياء الأب أكثر لما أزاح ابنه تي – شورطه ليطلعه على ٱثار قضيب السفرجل وما رسمه من خطوط على جلد ظهره .. هذا المشهد المرعب ، أثار غضب الأب واستنكر أفعال الفقيه التي تجاوزت أساليب التأديب والتقويم ، ولو أن الأمر يبدو عاديا لدى كثير من الأسر في تصورها لعلاقة الأطفال بالمسيد والمدرسة ، ويعتبرونها من أساسيات التعلم .. لكن أب النح رفض تصرف الفقيه المبالغ فيه ، وراودته أفكار وتصورات أخرى ترسخت لديه نتيجة ما رٱه من ٱثار العقاب الذي تعرض له جسم إبنه الصغير والطري وهو يتأمله . فاقتنع أن إبنه على حق حينما امتنع وبشكل قطعي عن الرجوع إلى المسيد والمدرسة . فما كان منه إلا أن أظهر مساندته لإبنه صراحة ، واقتنع بموقفه الرافض للتعلم نهائيا :
– أش بغينا بهاد القراية وصداعها ..؟
– مال الفقيه مطفرو بالقران ؟
– دوز تگلس .. بناقص من هاد المسيد والمدرسة گاع ..!
كان رعي نعاج الأسرة في الحصائد المجاورة ، والمساهمة قدر الإمكان في الأنشطة الفلاحية وكل ما يتطلبه العيش في البادية ، هو البديل عن المسيد والمدرسة …
انخرط النح في أنشطته الجديدة بما أوتي من جرأة وتحمل ، بعدما قطع مع التعليم والمسيد والمدرسة . وارتمى بين أحضان المجهول ، يجترح مسالكه بين براثن الحياة ونوائب الزمن ، يمتهن أي حرفة يجدها في طريقه ، ويقتفي أثر كل درب قد يوصله إلى مبتغاه . لايهمه ولا يشغله طبيعة أو قيمة ما يقوم به من عمل ، ولم يكن الفشل أو النجاح مقياسا لطموحه .. بل كان الصبر والتحمل أمام ما يعترضه في مساره هو المحفز لوجوده ولإستمراره ، محاولا استخلاص الدروس والعبر من ما يعيشه في تحد واضح للظروف التي أقحم فيها . فلم يأل جهدا في شغله تحت مسوغ الكسب والرفع من دخل العائلة المادي والمعنوي . سالكا في ذلك جميع الطرق ومختبرا كل الوسائل ليحقق غايته ويبلغ مناه .. مستمعا لأصوات تناديه من دواخله ، لا تنفك تذكره بماضيه التعيس ليمتطي صهوة عناده وإصراره في تجاوز عقدة المدرسة وزملائه المستهزئين به .. بل أن طموحاته تجاوزت حدود البلدة والمدينة ، وبات يتطلع إلى بلوغ مراتب اجتماعية أعلى مما هو فيه ..
جلس بنقدور وصديقه المصطفى ، المقيم بديار المهجر منذ سنوات ، في مقهى الخاوى يستمتعان بالشاي المنعنع المحلي الذي يعتبر اختصاصا مميزا للمقهى ، ويتجاذبان أطراف الحديث وهما يسترجعان ذكريات الأيام الخوالي التي جمعتهما في مدرسة البلدة وفضاءاتها .. ويسألان عن مصير زملائهما ورفاقهما ، وأين رمت بهم دروب الحياة . وينعشان ذاكرتهما بحكيهما وأحاديثهما .. ويختزلان المسافات الزمنية التي باعدت بينهما وبين باقي الرفاق ..
وهما على ذلك الحال ، إذا بالمصطفى يشير إلى سيارة فارهة مركونة أمام المقهى ، ومعلقا بنوع من الإستخفاف ..
– يبدو أن بلدتنا غزاها الأغنياء .. أنظر إلى السيارة هناك ..
– ٱه تلك السيارة السوداء ذات الدفع الرباعي ؟ إنها سيارة النح ..!
– من ؟ النح ؟ ومن أين له بثمنها ؟
يتساءل بتعجب واندهاش .. بعدما بلغ إلى مسامعه إسم النح الذي كاد ينساه مع توالي السنين ..
– لعلمك يا صديقي أن النح أصبح من رجال الأعمال .. يملك أراضي فلاحية وعقارات في مدينتنا وباحة استراحة فخمة …
يقاطع المصطفى صديقه بنقدور .. محاولا استيعاب ما سمعه من حديث ..
– مهلا ، مهلا .. النح ؟ النح أصبح غنيا ؟
– نعم وهو الٱن برلماني .. يا سي المصطفى .. يبدو أنه يلزمك وقت مهم لتحيين معلوماتك عن أوضاع البلدة وعن النح ..!
ترسم على محياه ابتسامة ماكرة ، والدهشة لازالت تملأ عيناه وهو يتلقى أخبار النح .. يذكر صديقه بنقدور بشغب الطفولة ، وبالألقاب التي كانوا يطلقونها على زملائهم في مدرسة البلدة ..
– أتذكر لما كنا ننعت زملائنا الكسالى .. بالنح ؟
– صحيح .. أتذكر ذلك ، وكنا ننادي على الواحد منهم : راك نح مع راسك أصاحبي .. هههه ذاك زمن ولى ..!
ويسترسل بنقدور في حديثه وعيناه ، هو الٱخر ، لا تغادران سيارة النح الفاخرة ..
– ربما أنه ٱن الأوان لنغير من رؤيتنا للأوضاع التي أضحت عليها البلدة والناس .. أو ربما نحن مطالبون بتصحيح المفهوم الذي حددناه للكسل زمان ، فلم يعد صالحا في الوقت الراهن .. حيث علينا أن ننادي على بعضنا البعض :
– واش أنت هو النح .. ؟
(كل تشابه في الأسماء بين شخوص القصة والواقع ، هو من محض الصدفة ) .