أتذكر في مدرستي ، مشهد الإصطفاف الصباحي، حيث كنا نتجمع في صفوف و قبل الساعة الثامنة صباحا، كل صف يقف أمامه معلمه.
كان الجو باردا جدا ونحن نستعد لتحيّة العلم ليطل مدير المدرسة أكبر كوابيس الأطفال في مدرستي، يأتي حاملا بيده أنبوبا بلاستيكيا غليظا أسود اللون يسميه “مسعودة”.
لن أنسى تلك المشاهد في حياتي.، حيث سأل المدير أحدنا لماذا تسلّقت شجرة التوت ؟ ليجيبه الولد: ” لسنا السبب إنه عمر من إقترح ونحن نفّذنا سيدي ” ثم رد عليه المدير: “وأنت أين عقلك ؟”
هكذا بدأ الإستجواب ، ليطلب منه إحضار المجموعة كلها وعلى رأسهم الزعيم عمر .الكل تساوى في العقاب .تقدم عمر وعلي ليحملا ساقا علاء لينال من “الفلقة” ما يستحقه ، حتى تحمرّ ببكاء وصياح الضحية ثم يتناوب البقية على كل عناصر التنظيم .
كنا هذا العقاب المحبوب لدى المدير والمعلم ،لكنه المفزع و المخيف لنا ذات زمان.
مخيف كظل المعلم حين نراه
نهرب في الشارع هروب الفأر من القط في أفلام الرسوم المتحركة، وأعود للمعلمين فقد كان لكل واحد منهم طريقته في العقاب ، حيث يملك كل واحد عصا سميكة مربعة الزوايا وبعضهم يكتبون أسماءهم على العصي حتى لا تختلط مع الأخريات.كنا نفرح فرحا شديدا بعد إنتهاء الحصة وأكبر من ذلك بكثير إذا جاءت العطلة، المدرسة بالنسبة لي ولكل أصدقائي كانت إتفاقية ،نحن نؤدي فروضنا والمعلمون يؤدون واجبهم.
هكذا كان العهد كما كان بيننا نحن مجموعة المشاغبين والذين نلنا عقابنا نتيجة أفعالنا أو أعمالنا وأذكر أنه كان في ساحة المدرسة شجرة توت كبيرة ،كلما طفنا حولها إنتابنا شعور بعدم مغادرتها حبا بظلها وثمرها.
إتفقت مع أصدقائي لتحديد وقت معين لتسلقها وأكل ما طاب من توتها فكان وقت صلاة الحارس أفضل زمن لنا،وهكذا كان العمل..على مدى أسبوعين أو أكثر كنا نجتمع بعد إنتهاء الحصة المسائية أمام المدرسة وبعد مغادرة التلاميذ والمعلمون ودخول المدير للمسكن الإيداري ،نتسلل بسرعة وهدوء متلازمين إلى وسط المدرسة،وحين يبدأ العم زين بالصلاة وعبر علامة الصفر “الله أكبر” نقفز إلى أغصانها الواحد تلو الآخر كالخفافيش أو الجراد نأكل منها ما طاب ونتقاذف حباتها بيننا حتى نشبع وتحمر شفاهنا وأصابعنا كما تحمر من فرط الضرب..
والعم الزين كان بين تكبير وتهليل وبين عينان تنظر إلينا بحقد وغضب وتمن بالإمساك بنا. وحين يبدأ بالتحيات والزكيات تراه المسكين بين تدوير إصبعه وتحديق عينيه نحونا وما أن يرد السلام حتى ترانا نتطاير نحو السياج هربا منه،ليسرع الرجل العجوز محاولا ودون فائدة الإمساك ولو بظلنا لكن دون فائدة..
هذا الصنيع إمتد لأكثر من أسبوعين أو ثلاث وكانت كلماته التي يرددها دائما “يطول ليلها وتعلف..”غير مفهومه لدينا في ذلك الوقت ..فأعود لأمي لأسألها عن المثال فترد عليا أن قطيع الخرفان أو البقر أو ما شابه تقضي كامل اليوم في بلع ما يصادفها وعند الليل أو وقت الإستراحة تبدأ مرحلة الهضم و رحي الطعام..
المهم في اليوم الموعود إقترح علينا أحد التلاميذ الدخول إلى التنظيم وكان ضخم الحجم وليس لديه خبرة في أساليبنا وخططنا المحترفة في تحديد الوقت المناسب للبدء أو الختم.
صعد الجميع كالعادة ذات غروب والعم الزين العادة بين تحريك للإصبع و تحديق بالأعين ونحن نقفز من غصن لآخر كفراش يتطاير بين الأزهار.و حين رد السلام وبينما كان الفريق يهرول نحو السياج كان عادل الضخم يحاول النزول لتلتقفه عصا العم الزين الذي إنتشى بعد صبر طويل وتحد في الإمساك بأحدنا معلنا فجر إنتصاره الذي طال.
هربنا وقتها نعم،لكن لم نعد إلى منازلنا بل في الشارع ،فقد وصلتنا الأخبار أن الحارس و الضخم يجوبان منازلنا لإعلانهم بصنيعنا..ليتوعدنا أولياءنا بالعقاب وحسب الإتفاق من أخطأ عليه الدفع، وهكذا نال كل واحد منا عقابه المنزلي ليكون الحساب وأمام مكتب المدير وتحت إشراف السيد مدير المدرسة ، الساده المعلمين وخاصة المنتشي العم الزين والذي كان يردد وللمرة الألف “يطول ليلها وتعلف “ضاحكا ونحن نقفز ونبكي ونصيح على نغمات الفلقة..
عرفت حينها معنى “تعلف”و “يطول”لكن مع تقدم السنوات عرفت قيمة شجرة التوت وتذكرت ذلك الرجل المسن الأشقر العم الزين حين سمعت بوفاته ..رحمه الله ورحمنا معه ….