ربما يضيق المكان إذا تلاقت الوجوه. وتشابكت النظرات. وتفلّتت الكلمات بأسئلته، وارتبكت الألسنة بخجل إذا كانت النية لاستنطاق المكنون المخبوء في دواخل أديب وكاتب، يسمع بعينيه.. ويرى بأذنيْه، ليس لأنه مُختلفٌ عن البشر، بل لأنّه صنيع الحرف والكلمة، عبدٌ مطيع للفكرة.
نحن وجهاً لوجه، مع الأديب والروائي (أحمد طايل) كاتب مصري. من مواليد 1956
له من الإصدارات:
- (على أجنحة أفكارهم.. إطلالات ثقافية)
(شواطئ إبداعية) وهما حوارات مع كبار كتاب وكاتبات مصر والعرب مثل (إبراهيم أصلان) و(خيرى شلبى) و(محمد جبريل) و(يوسف القعيد)، والعديد من الأدباء والكتاب العرب.
- رواية: (الوقوف على عتبات الأمس).
- رواية: (متتالية حياة)
- (رأس مملوء حكايات.. سيرة روائية) قيد النشر
- رواية(شيء من بعيد ناداني) قيد الكتابه
التقى وقدم الروائيين العرب في الأمسيات: واسينى الاعرج، خيرى الذهبى، محمد الغربي عمران، د. ثائر العذاري، وفاء عبد الرزاق، مكاوي سعيد، د.شريف جناته. وغيرهم.
**الحكاية الأولى هي الأصدق في دواخل كل إنسان، وليس بالضرورة أن تكون كذلك. ماهي حكاية “أحمد طايل” الأولى في حياته؟.
* فى الحقيقة أن هذا السؤال يحمل تساؤلات أخرى، يفتح الكثير من الآفاق داخلى، الحقيقة مؤكد أن الحكاية الأولى بحياة أي إنسان تظل دوما راسخة ورابضة بداخله للأبد، أما عني أنا أقول لك: ليست مجرد حكاية واحدة، بل عديد من الحكايات، هى من شكلت كيان ووجدان (أحمد طايل)، الإنسان قبل القارئ والمثقف والكاتب، كل الحكايات صادقة ترتدي عباءة الصدق من قمة الرأس حتى أخمص القدمين كما يقولون، من حسن حظي أني ولدت بقرية، والقرى بكل العالم تعيش على الحكايات، أغلبها حقيقة واقعة، والبعض اختراعات من رؤؤس وتفانين حكائيها، حكايات القرى لا تتوه ولا تندثر وسط زحام الحياة، الكل يستدفئ بها، ليست القرى مثل المدن التي تموت حكاياتها فى مهدها ولحظة ميلادها، بسبب الهروالات التي لا تنتهى لأسباب عدة، الناس بالريف على تنوعهم بعيشون على الحكايات، يبدؤون اليوم بالحكى عن الأمس وعما هو قادم، بالحقول يحكون، النسوة أثناء الخبيز وصنع الطعام يحكون، بالليل جلسات المصاطب الطينية للرجال، وعتبات الدور للنساء، حكايات دوما لا تنتهي ودوما متجددة، طازجة، بها كل البهارات التى تتسع لها الحدقات، وتفغر لها الأفواه، وتستطيل الأذان، أنا مثل أي طفل، الفضول بالطفولة أكبر وأكبر وأوسع، كنت أتنقل بين الجلستين، أسمع حكايات رجال، وحكايات نساء، ولكن الغالب على هو جلستي على مقربة من جلسة الأب اليومية أمام المنزل، مع أصفيائه وبعضٍ من أهل القرية، بتناولون الحديث عن بعض الشكايات يبحثون عن حلول لها، وبعض حكايا أحداث مرت بالقرية من فترات، وربطها بأحداث حدثت حاليا سواء بيومها أو من أيام سابقة، وحكايات عن قرى مجاورة، قد تتجاوز حدود القرى إلى المدينة، ولكن هذا يكون قليلا، حكايات متعددة الأشكال والألوان، المُحزن والمبهج، والمرعب أحيانا، كل هذا كان يترسخ داخلي، ويختزن وأستعيدة صورا حال ولوجي للنوم، الكاتب هو مشاهد جيد جدا، يمتلك عدسة تصور المشهد من زوايا متعددة، يختزن ويرصد ما يرا، وما يسمعه، ثم حين تناديه نداهة الكتابة يسكب ذاته على الورق، هناك حكاية، أخرى هي الأب المثقف إلى حد كبير، والحريص بشدة على اقتناء صحيفة الأهرام يوميا، كان يسميها(أم الصحف) إضافة إلى بعض الكتب التراثية، كان من عشاق التراث والسير والتراجم، كان فضولي يدفعني لتناول صحيفته التى يضعها على كرسي مجاور له، أتأمل الصور، والكتابة بألوان مختلفة، ثم الأهم هو جلوسى ليلا بين يديه حين أوبته من كل مشاويره الخاصة به وبأهل القرية، وحكاياته عن الأنبياء، الصحابة، وبعض القصص التى تحمل عظات وعبر ودورس يضعها أمام عيني للسير على منهج صحيح، من هنا كانت البداية، ومؤكد رغم مرور عقود زمنية، مازالت هذه المشاهد والرؤى تتراءى لى دوما، مجسدة وكأنها تحدث فى اللحظة والتو، إن الطفولة هى الحكاية والخطوة الأولى الصادقة تماما بحياة أي إنسان، فما بالك بالكاتب.
** وفيما بعد البدايات حكاية الثقافة والهواية، التي وَسَمت حياة “أحمد طايل” وشكّلت شخصيّته؛ فما هي الملامح غير المُعلنة والمخبوءة؛ لتتكامل معرفة القارئ والمُتابع وإكمال النصف الآخر المعروف؟.
* منذ ولوجى إلى بدايات المرحلة الأولى تعليميا، ومن خلال وما ذكرته لك عن حكايات القرية وأهليها، وحكايات الأب، أصابني الشغف، شغف المشاهدة، التأمل، لا أبالغ إن قلت أني كنت دوما بحالة تأمل، ورصد لكل شيء أمر به، تأمل بالحقول، بأسطح المنازل المزينة بصوامع الغلال وأبراج الحمام. بدأ الشغف بمجلات الأطفال المواكبة لهذه الفترة، أخذت وقتا طويلا من عمري، ربما حتى عمر الثانية عشر أو أكبر قليلا، بعدها استهوتني الروايات البوليسية، أرسين روبين، روكامبول، أجاثا كريستي، ما شابه ومن روايات الرعب والمغامرات، الطفولة دائمة البحث عن الإثارة والتشويق، عند العمر الخامس عشر بدأت عملية التحول إلى عالم أرحب أوسع، روايات، أتذكر بدأت بمتابعة سلسلة كتاب(حلمي مراد)، سلسلة روايات الجيب المترجمة (عمر عبد العزيز أمين)، وبعض المجلات قراءات عامة، لابد من تنوع المصادر الإبداعية والفكرية حتى تستطيع أن تكون على مقربة من الحدث، وقادرا على فهمه واستيعابها، ثم ذات يوم وبسيري بأحد شوارع مدينة طنطا التي كنت قد انتقلت إليها بهذه المرحلة التعليمية، وجدت لافته تشير إلى نادي أدب (طنطا)، أخذتني قدماي للذهاب، وسؤال أحد العاملين عن نشاطه، وعن ميعاد ندواته، حرصت ومن لحظتها على الحضور بشكل دائم، مستمع ومنصت ومشاهد جيد لكل فعالية، مفردات إبداعية، سرد، قصة، رواية، نثر، نقد، ثم جرؤت ذات أمسية وطلبت أن أقرأ عليهم قصة كتبتها، وافقوا، كنت أقرأ ببعض اللعثمة، الرهبة كانت تتلبسني، بعد الانتهاء فوجئت ببعض التصفيق، وإشادة، حتى أن أحدهم علق:أني كنت أرى مشهدا من هنا كان الخيط الذى أمسكت بطرفه، ولم أفلته للآن، تصاعدت معي مصادر قراءاتى، قرأت (يوسف السباعى، يوسف إدريس، نجيب محفوظ، على أحمد باكثير، عبد الرحمن الخميسى، وآخرين) بالإضافة إلى عديد من الأعمال المترجمة، خاصة الأدب الروسي الذى أمسك بتلابيبي ،(تولستوى، مكسيم جوركي، ديستوفيسكى، تشيكوف)، من هنا انزلقت قدماي، وبترحاب وبحب إلى عالم الثقافة، بكل مناحيها، ندوات، مؤتمرات، كتابات ببعض الصحف، إقليميا. وبصحف لها اسم، ثم إعداد لقاءات أدبية للكثيرين، مصريا وعربيا، (واسينى الاعرج، خيري الذهبى، محمد الغربي عمران، د.ثائر العذارى، سعد جاسم، خضير ميري، وفاء عبد الرزاق، مكاوي سعيد، د.شريف جتاته، محمد الفخراني، خالد البري، والعديد من الأسماء)ّ، المعرفة دوما تتجدد وتحتاج منا اأ نلهث ونهرول حتى نستطيع موازاتها واللحاق بركبها، رغم السنوات الكثيرة التى مرت أشعر كأنني ما زلت على أول الدرج.
** فرحة المولود البكر عظيمة في حياة البشر عمومًا. هل لك أن تصف للقارئ مشاعرك وعواطفك وأحاسيسك المُتولّدة عن نصّك القصصيّ الأوّل، والكتاب الأول عندما نشر؟.
* بطبيعة أي أمر جديد لأي إنسان لابد أن يجيء حاملا غبطة وفرحه، وأحيانا ألما، ولكنه يظل دوما له رونقا ومذاقا خاصا، والكاتب دوما يكون بحالة ترقب لخروج إصداره الأول، ومدى رد الفعل له، هو مولوده البكر، بالنسبة لى كان العمل الأول له وقع طيب على رغم أنه جاء بعد مشاقات كثيرة، من قراءات لأعمال الكتاب والكاتبات منذ شرعت بإجراء حوارات معهم، ومن مشاق سفر، إعادة صياغة، ولكني أعترف أنى عندما تلقيت أول نسخاته، شعرت أن كميات كبيرة من الأوكسجين النقى بل شديد النقاء قد ضخ بعروقى وأوردتى، بل بكل مسامي، أما عن عملي الروائي الأول، أعترف أني مررت بفترة كبيرة من الخوف والقلق، لأنها تجربة أولى لي بهذا الجنس الإبداعي، أصدقكم القول أنى كنت أعرض كل فصل على مجموعة من الأصدقاء الكتاب والكاتبات، مصريين وعرب، لمعرفة ردود أفعالهم، أعرف عنهم المصداقية والحيادية الإبداعية، وأحمد الله أن آراءهم كانت حافزا كبيرا للاستمرار بالكتابة.
** المحطّات كثيرة في مسيرتك الحياتيّة، من غير جدال، والأهمَّ هي المحطّة الفكريّة. أين كان ميدان فكرتك الروائيّة الأولى . لو كان بالإمكان إلقاء الضوء برؤيتك الفلسفية على عناوين رواياتك وكتبك المتنوعة؟.
* مكان روايات الأولى تحديدا هى قريتي (حصة شبشير مركز طنطا محافظة الغربية..مصر)، القرية التي، وحتى وقتنا هذا ما زالت وإلى حد كبير وغير متخيل تتمتع ببكارة الريف بكل ما به من عبق وذكريات وود وتراحم، وبكارة ريف لم يتلوث بالقشرة الخارجية للمتغيرات المصطنعة لأهداف استعمارية وإحتكارية للأوطان وللشعوب، وما أكثر مسمايتها المعروفة للجميع، العولمة وأخواتها، أغلب ما في رواياتي من أحداث وشخوص حقيقية بنسبة كبيرة، وإن غيرت ببعض الأحداث ومسميات الأشخاص وإضفاء بعض الخيال، وبعض الرصد للواقع المجتمعي الراهن، ونداء للعودة إلى أمسنا، هي جسر بين الأمس واليوم والغد، أما عن العناوين، أختلف مع غالبية الكتاب الذين يضعون العنوان بنهاية العمل، أنا أختارها منذ البداية، يظل أكثر من عنوان يلف، ويدور داخلي لأيام قد تطول أو تقصر، وبالنهاية أقف على العنوان الذى حازعلى تفكيري بشكل دائم، ودوما أبحث عن عنوان غير استهلاكي، ومعبر إلى حد كبير عن المحتوى، الرواية خاصة وأي عمل إبداعي عامة، لابد وأن يحمل رؤى فلسفية للكاتب خاصة به وبها ذاتيته، حتى وإن تصادمت مع رؤى وفلسفات الآخرين، الكتاب الأول كان مجموعة من الحوارات والنقاشات الأدبية مع كتاب وكاتبات من مصر والعرب، أنا مؤمن أن الحوار مدخل هام وضروري لمعرفة سيكولوجية الكاتب وما يكتبه، أنا أساسا مغرم بعلم النفس، العلم الذى يجمع بطياته الكثير من العلوم الأخرى، وذات الحال كان مع إصداري الثانى(شواطئ إبداعية)، روايتى الأولى كما أسلفت سابقا هى استلهام الأمس وربطه باليوم، إضافة لمحاولة إستشراف الغد وما يحمله لأوطاننا، ولنا كبشر وشعوب، رواية(متتالية حياة)، هى تأكيد على استمرار التصارع الدائم، حتى بين الأشقاء، أو كما قال أحد الأصدقاء النقاد، هى استرجاع لقصة إخوة سيدنا(يوسف) مع تغير الاحداث وبيئه الحدث.
**”متتالية الحياة” عمل روائي من المدرسة الواقعية الاجتماعية. أحمد طايل هل امتلك شجاعة محاولة الاقتراب من التابوهات في هذا العمل أو أعماله الأخرى؟، وهل كنت جريئا في حواراتك مع الكتاب والأدباء حد ملامسة التابوهات؟.
* متتالية حياة، بها أحداث واقعية حكيت لي من بعض شهود بعض الأحداث أضيف إليها بعض الخيال والأحداث الدرامية، أما عن التابوهات أرحب بها إن كانت داخل سياق العمل بلا خلل به، أما إن كانت تنتقص من العمل فلا مبرر ولا ضرورة لها، التابوهات غير المناسبة أشبه ببهارات غير ملائمة، الكتابة بواقعية وصدق هى مطلب أساسى للكاتب والقارئ معي.
** “الوقوف على عتبات الأمس” أحد أعمالك الروائيِّة المنشورة متعانق مع حديث الذكريات بين الماضي والحاضر. الروائيِّ”أحمد طايل” وحكاية الأجيال بتبايناتها، برأيك ما نفع العودة إلى الوراء؟. وهل هو هروب من تشابكات الواقع المُربكة؟
* روايتى(الوقوف على عتبات الأمس)، بعيدا عن كونها سيرة ذاتية لحد كبير، فهى ربط بين الأمس واليوم، محاولة لقراءة رياح الغد، أنا مؤمن كثيرا أن الأمس هو الأساس القوى لليوم والغد، التاريخ عندى حجر زاوية للأوطان وللشعوب، من لا يملك أمسه لا يملك ولا يبصر طريق يومه ولا غده، ومن هنا كانت رسالتى من خلال الرواية، أن نكون دائما بحالة يقظة ووعي وبإصرار على ميراثنا التاريخي، من دروس وعظات، وذكريات، الشيء الوحيد غير القابل للتحنيط هى الذكريات، هى حية بداخلنا، قد تتوه أو تنزوى بعيدا لبعض الوقت، ولكن ويأتى وقت تجدها تنبثق وتظهر للواقع، تدق نواقيس كثيرة، تدعونا أن لا تكتفى بالتشدق بتاربخنا وأننا حملة حضارات وعلوم، مع الاحتفاظ بالتاريخ لابد من الإضافة إليه، مما يؤكد أصاله وعراقه التاريخ.
** كأديب لك حضورك على الساحة الأدبية. ما رأيك بفكرة اكتساب الهوية الأدبيّة لأيّ كاتب، وهل انتقالات الأديب بين فنون الأدب علامة صحيّة، وأيُّهما أجدى التخصُّص، أو التنويع بين الألوان الأدبية؟.
* تعددت الرؤى فى هذا الصدد، فمن قائل ومطالب أن التنوع الإبداعي أمر مهم وضروري لمن يمتهن الكتابة، وهناك بالطبع من ينادى بالتخصص، وأنا مع هذا الرأى تماما، التخصص ينتج عنها جنسا إبداعيا أخذ حقه من الفكر والرعاية حتى خرج بصورة يرحب بها الجميع، مع التسليم أن هناك البعض من تميز رغم التعدد، ولكنه استثناء وبعدد قليل للغاية، أما عن مسأله الهويه للكاتب فيجب على أي كاتب أن يهتم وأن يتمسك بجنسه الابداعي الذي يؤكد على هويته الخاصه.
** بين الطموحات والخيبات، فما الذي ودّ “أحمد طايل” كتابته ولم يكتبه إلى الآن. وما الذي ندم على كتابته؟.
* للأمانة وبكل صدق كنت أتمنى أن أبدأ رحلة الكتابة بعمر أقل كثيرا من بداياتي، أنا بدأت الكتابة بعد تجاوزي الأربعين، الكتابة الفعلية، ليست كتابات البدايات التى كانت مجرد ولوج لعالم الثقافة والمثقفين، ولكن أقر إني قبلها كانت فاعلا كثيرا، والفعاليات كان لها أثر كبير على الثقافة بمحافظتي على الأقل، أما عن العمل الذى حلمت به ومازلت، هو أن أكتب سيرة عائلتي ورحلتها زمنيا ومكانيا، كل عائلة لها تاريخ طويل، به انكسارات، به نجاحات، به إشارات،أكتبها على غرار العمل الإبداعي الكبير(ملحمة السراسوه)، للكاتب(أحمد صبرى أبو الفتوح.
** مسيرة مُكلّلة بالعطاء على مدار أكثر من ربع قرن. ما رؤيتك للمشهد الثقافي عمومًا؟.
* المشهد الثقافى الآن تعتريه وبشدة وبصدق حالة كبيرة من الوهن والترهل لأسباب عدة، التكنولوجيا الحديثة، واستسهال النشر على الأنترنت نصوصا ركيكة، وبلا أي مضامين للأجناس الأدبية، انصراف وابتعاد الغالبية عن القراءة الورقية، ربما لارتفاع أسعار الإصدارات الجنوني، مما لا يعطى فرصة لمعرفة مدى تميز محتوى الكتاب وتميز الكاتب ، غياب الرقابة ولجان النشر الحقيقية، وليست الوظيفية التى لها ضمير وثقافة تحدد مدى صلاحية العمل للنشر من عدمه، المشكلة الأكبر اتساع مساحات القراءة الإلكترونية التى أراها قراءة أشبه بالمنتج المعلب مضافا إليه مكسبات لون ورائحة، وإبهار بصريّ شديد يشتت الأفكار، منذ أن وفد إلينا ما أسموه بالعولمة، والتى أراها من وجهة نظري المتواضعه، حرب هدفها الأساسي، حرب لتفريغ الشعوب من هواياتها وثقافتها وقيمها وأعرافها، حقا هو بأحيان قليلة وعلى فترات متباعدة تنتابه حالات إفاقة سريعة لا تستمر طويلا، وقد تموت فى مهدها، هذا يدفعنى لأن أعيد الدعوة التى أعلنتها كثيرا، إنشاء مجلس أعلى للثقافة العربية، يجمع كل الكيانات العربية الثقافية، مهمتها الرقابة الحاسمة على الإصدارات، توفير الكتاب الذى يصدر بأي بلد عربي ليتواجد بنفس الوقت بكل البلدان العربية، وأن يدعم الكتاب من قبل كل الحكومات والمؤسسات الثقافية العربية، قد يكون هذا نوعا من العلاج الذى يخرج ثقافتنا من النفق المظلم.
** بخصوص إشكالية النقد والنقاد، والصراع بين الأصالة والمعاصرة، فهل يحتاج النقد للجرأة في بيان وجهة ونظر الناقد؟.
* أؤيدك تماما أن النقد يحتاج حاليا وربما من عقود سابقة إلى معاودة جراءته، بل يجب أن تكون جراءة متناهية، أشبه بمشرط جراح يزيل العلل والأورام الخبيثة التى إنتشرت بشدة بالجسد الثقافي، نحتاج إلى زيادة أصحاب الضمائر والرؤية النقدية الواعية والرقيبة على الكتاب ومحتواه، نفتقد إلى صاحب القلم النقدي الجريء المؤمن أن النقد رسالة، وأمانة تستحق الضمائر الحية، للأسف تراجع الدور النقدي، فتراجع المحتوى الإبداعي، ظهرت على الساحة ظاهرة الناقد الملاكي الذى يخصص قلمه ونقده لكاتب أو كتاب بأعينهم، غابت الحيادية، فكان ما نراه من إصدارات لا يجب أن تصدر من الأساس.
** أحمد طايل الروائي. مقارنة بين علمين روائيين “نجيب محفوظ” و “خيري شلبي”، رغم أنهما يتجايلان، ويتساوقان في أعمالهما الأدبية العديدة، التي أرّخت حكاية النيل والأهرامات وبسطاء الحارة والقرية المصرية. برأيك لماذا بقي خيري شلبي في الصف الخلفي بعد نجيب محفوظ؟.
* حقيقة لا أملك تفسيرا منطقيا وموضوعيا لهذا الأمر. كلاهما من القامات الباسقة بعالم الأدب والفكر العربى، وربما عالميا، دعنا نحاول الوصول إلى تفسيرات قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة، نجيب محفوظ بداياته كانت سابقة عن بدايات خيري شلبي، وظهرت كتاباته بشكل مغاير لما اعتاده القارئ بهذا الوقت، لغة مغايرة، رصد للواقع المعاش والمعبر صدقا عن المجتمع، مما أوجد نوعا من الاهتمام الأكبر بالمنجز الأدبي لمحفوظ، ارتياد محفوظ الدائم لكل صالونات الفكر، ووجود عدد كبير من المثقفين الذين التفوا حوله، وأصبحوا من مريديه، كل هذا كان سببا أساسيا لبزوغ نجم محفوظ ووصوله للعالمية، كل هذه أدوات وأسباب لم تتوفر لشلبي، رغم إنه صاحب كتابات عن الشريحة الأكبر من المجتمع المصري بواقعية، دعنى أقرر أمرا مهما لك، يوجد الكثير من أصحاب القلم المتميز على طول الخريطة العربية وعرضها، لم ينالوا حظا من الانتشار بسبب عدم قدرتهم على طرق أبواب الإعلام، ولم يجدوا من يأخذ بأيديهم، سيدى طرق الأبواب بحثا عن حق لهم موهبة قد لا تتوافر للكثيرين، تموت مواهب وأقلام عديدة بسبب عدم قدرتها على طرق الأبواب.
**أحمد طايل في معرض القاهرة الدوليّ. وأراد اقتناء أعمال روائية، ما هي الأسماء العربيّة الحريص على أن تكون أثمن مشترياته، وكذلك الأمر للأدب العالمي المترجم؟
* عندما أذهب إلى معرض الكتاب أكون واضعا بعقلي بعض الأسماء التى دوما أتابع أعمالها، هم كثر، سوف أذكر البعض، وليسامحنى البعض لعدم تذكر بعض الأسماء، حريص على اقتناء أعمال،(واسينى الأعرج)، الكاتب الجزائرى الكبير، التى تتناول معظمها الفترة الأندلسية وماحدث بها من نكبات للعرب، التاريخ الأندلسي الزاخر بأمور كثيرة لم يمط عنها اللثام بعد، عن (خيرى الذهبى)الكاتب السورى وكتاباته الواقعية التى هى تصوير درامى بجودة فائقة، عن(خالد خليفة) الكاتب السوري، أيضا الذى يكتب بل ينزف الوجع السورى بواقعية متجردة بكل كتاباته، عن(محمد الغربى عمران)اليمني، الذى يُضفّر بين اليمن قديما وحديثا كتاباته، أبحث دوما عن كتابات أرى بها الكلمة تتحول إلى صورة بصرية، الكلمة عندما تكون على هذا الشكل تكون أكثر قربا لعقلى وثقافتى وأيضا قلبى.
** تطالعنا الكثير من العناوين الروائية يوميًّا من خلال الإعلانات على وسائل التواصل والسوشيال ميديا كسيل جارف. بالتدقيق فيما ينشر ويطبع كثير منه لا يرقى لمستوى تقنيات الفن الروائيِّ بمستوياته المتعددة، ولا ننسى تدني التقنيات اللغوية. ما رأيك بهذه الظاهرة؟.
* سؤالك هذا يدفعنى دفعا إلى قول الآه.. بصوت عال جدا، بل بصراخ حاد، فعلا كل يوم تخرج علينا سيول لا تتوقف من الإصدارات ذات عناوين براقة تجد قبولا لدى شريحة كبيرة من الشباب الذى تم تفريغ عقله من التمييز بين الجيد وغير الجيد، كتابات تعتمد اعتمادا كليا على مخاطبة الغرائز، مخاطبة النزوات والنوادي المعتلة، وهذه واحده من أساليب العالم لإلهاء شبابا عن تاريخه ومعتقداته، ونعود إلى ما قلناه سابقا وبح صوتنا من قوله، غياب الرقابة، عدم وجود لجان نشر كسابق العهود الماضية التى كانت تغلب أمانة الثقافة والفكر على أى أمور أخرى، لجان لا تعرف المحاباة والمجاملة وتصعيد البعض على أشلاء البعض، لابد من وقفة حاسمة من كل ما يعنيه الأمور من حكومات ومسؤولية، الثقافة هي مقياس ومعيار أساسي عن الأوطان.
**ظاهرة استسهال الكتابة. يحيث تسمع ممّن يتهجّى ويستجدي الفكرة والكلمة ولا يجدها، أنه بصدد كتابة رواية. ما قول الروائي أحمد طايل؟.
* لايمكن بأى حال ومن الأحوال أن يكون هناك استسهلال بالكتابة، الكتابة لابد لها من أدوات حقيقية وثقافة متعددة الزوايا، حتى تكون كتابات حقيقية رصينة، تخاطب العقول، تفتح أمام القارئ أبواب التساؤلات، التساؤل مهم، إن استطاعت الكتابة ان تجعل القارئ إلى إعمال عقله فهى كتابة ناجحة، هناك الكثير ممن يمارس الكتابة بهدف البحث عن التواجد تحت دائرة الضوء، أو بحثا عن الأموال بزمن زادت به مساحات تواجد كتابة لا تنتمى أو تعبر عن الواقع المعاش، العلاج الأوحد هو تجاهل كتاباتهم، الرقابة الجادة على دور النشر، عدم السماح بالتواجد لأصحابها بالتواجد داخل الدائرة الإعلامية، للأسف هذا النوع صار دائم الظهور إعلاميا أكثر بكثير من رموز وقامات أدبية. بإختصار الكاتب الذى لم يتألم ويقترب من واقعه، وعاش صنوف الحياة، لن يكتب شيئا بعيش ويستمر.
** ما هي كلمتك للكُتاب الجُدُد كنصيحة من خبير يعتدُّ به؟
* إلى كل الكتاب والكاتبات أصحاب الخطوات الأولى بعالم الكتابة، قبل أى شيء وقبل أن تمسك القلم لتكتب وتخط حرفا واحدا، اقرأ كثيرا، ومن مصادر وثقافات.متعددة، ومن أجناس متعددة ، علم نفس،اجتماع، سياسة، اقتصاد، تاريخ، كل الأجناس الأدبية، حتى يكون لديهم مخزونا من الرؤى المتسعة واللامحدودة للكتابة بصدق وتمكن، أدعوهم لمغادرة نوافذ وأبواب القراءة الإلكترونية، القراءة الورقية تمنحكم مذاقا خاصا، لون وطعم ورائحة، تمكنكم من قراءة محتوى السطور بشكل كبير وقراءة ما بين السطور وأعلاها وتحتها، يقولون أن أعمدة الحكمة سبعة، وأنا أقول لكم أعمدة الكتابة الحقيقية بالآلاف.
.