أسماء وأسئلة : إعداد وتقديم : رضوان بن شيكار
تقف هذه السلسلة من الحوارات كل أسبوع مع مبدع أو فنان أو فاعل في إحدى المجالات الحيوية في أسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد إنتاجه وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته وعوالمه الخاصة.
ضيفة حلقة الأسبوع الأديبة الفلسطينية إيمان مصاروة
1 كيف تعرفين نفسك للقراء في سطرين؟
أنا أرى هذا السؤال من نوع السهل الممتنع لأنك ستختزل نفسك ومسيرة عمرك في سطرين. حسناًء أنا إيمان مصاروة، باحثة وشاعرة فلسطينية من الناصرةألجليل. عضو الامانة العامة لاتحاد الكتاب الفلسطينيين العرب 48، ومسؤولة اللجنة الإعلامية والثقافية في اتحاد الكُتّاب في دورته السابقة. صدر لي العديد من الدراسات والأبحاث وشاركت في العديد من المؤتمرات العلمية ما بين الداخل الفلسطيني والأراضي المحتلة عام 67 إضافة للعديد من المشاركات في الندوات والمهرجانات الثقافية الدولية.
2 ماذا تقرأين الآن؟ وما هو أجمل كتاب قرأتيه؟
أقرأ كل ما أحتاجه كمرجع لدراساتي النقدية والتحليلية، ولا شيء أجمل من كتاب قرأته وأضاف لي السعادة والجمال والمحبة والاعجاب.
3 متى بدأت الكتابة؟ ولماذا تكتبين؟
ربما من الصعب ان يتذكر الكاتب او الأديب أو الباحث او الشاعر متى وُلدت ملكة الكتابة لديه. أو متى أحس انه بحاجة لان يكتب ويُخرج ذاته وما يجول في خاطره للآخرين. فتحديد تاريخ ميلاد دقيق لاول طفل او طفلة من بنات أفكارك صعب جدا. عادة ما تكون هناك ارهاصات قبل امتشاق القلم للكتابة الجادة والمعبرة عن حالة أو عن واقع، ولكن يمكنني القول أنني بدأت الكتابة في سن مبكرة ربما وأنا ابنة أربعة عشر ربيعا حيث كانت لي كتابات تنشر في الصحف المحلية. ولكن باكورة أعمالي كانت سنة 1989 وهي مجموعة شعرية بعنوان ” انا حدث ومجزرة”، ثم تلتها سنة 1990 مجموعة خواطر بعنوان ” من خواطري” وهكذا انطلقت في مشواري الأدبي.
لماذا أكتب؟؟ قد نحتاج لصفحات نشرح فيها لماذا نكتب. في جواب قديم للصحافة على سؤال “لماذا تكتب؟”، قال الكاتب الكولومبي الراحل غابرييل غارسيا ماركيز إنه يكتب “لكي يفرح الأصدقاء”، فيما أجابت الكاتبة الأميركية سوزان أورلين عن نفس السؤال بـ” أكتب لأنني أحب أن أتعلم عن العالم، أحب سرد الحكايات والتجربة الفعلية لصنع الجمل”
أما أنا فأكتب لأتنفس، ولأعبر عن آرائي وأفكاري، أنا أكتب لأنني لا أتحدث كثيراً، وربما لأنني بالكتابة أصبح أكثر جرأة بالتعبير، أكتب لأنني أثق بالورق أكثر من البشر، فالورق لا يغير الكلام، ولا يضيف فيه ولا ينقص منه ولا يشوه المعنى، أكتب لأن الواقع المرير الذي نعيشه على امتداد اوطاننا يصرخ بنا لنكتب ويحملنا مسؤولية الصمت عن كل ما يدور من حولنا حين تُمتهن الإنسانية وتُسحق براءة الطفولة ويموت الناس رغما عن انوفهم لأسباب عديدة كُلُّها أقل ما يُقال عنها أنها وضعت الإنسان في آخر اعتباراتها المادية والمنفعية .
4 ما هي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين إلى التسكع في أزقتها وبين دروبها؟
القدس هي المدينة التي تسكنني وعلى الدوام، حيث صقلت فيها سنابل كلماتي، فعرفتُ أزقتها وحاراتها وأحياءها ومعالمها وأسوارها وساحاتها ووديانها معرفة وثيقة، ولمست مقدار آلامها جراء الاحتلال وممارساته من خلال القمع والإذلال اللذين يتعرض لها سكان القدس بخاصة، وكتاباتي متسمة بطابع رومانسي حزين، طافح بالشجن والمرارة والبحث عن الخلاص والحرية.
إن المكان في كتاباتي الشعرية والنثرية لم يأت اعتباطا ولا وسيلة تزينيه أو جردا جغرافيا بل هو من أدوات تشكيل الرؤية. هو الفكرة والمحور والهاجس، وكشأن سائر الكتابات الفلسطينية المعاصرة، فالمكان هو الوطن بعينه، فكل أشياء المكان وأسمائه تحيل على الوطن والتشبث بهما والترسيخ فيهما. والحديث عن المكان بمختلف تجلياته هو حديث عن التاريخ والهوية وتأكيد على رفض التنازل عنه مهما كانت التضحيات، والمكان الفلسطيني ذا شعرية عالية ويؤكد العلاقة الوطيدة التي تربط الكاتب بوطنه.
5 هل أنت راضية عن إنتاجاتك وما هي أعمالك المقبلة؟
الرضى مسالة نسبية إذا ما تم قياسه على ميزان التميّز. بالتأكيد عند انتهائك من أي عمل أدبي أو دراسة لن تقوم بنشرها وعرضها على القراء والناقدين إذا لم تكن في ذاتك راضٍ عنها. ولكن طبيعة الكاتب أو الأديب انه دائما يسعى للكمال والشمولية فقد يجد لاحقا انه أغفل شيئا ما أو لم يعطِ موضوعًا ما حقه من الدراسة فيستدرك ذلك لاحقا في دراسة أخرى او في طبعة منقحة إذا ما كان الانتاج الأدبي كتابًا مثلا. بالمجمل، انا راضية عن كل ما قدمتُ حتى الآن وما دام مدادي طريا وأوراقي عطاشى سأظل أكتب.
أما عن القادم من أعمالي فهي كثيرة خاصة أنني أكتب دراسة نقدية عن الشاعر الفلسطيني المغترب عبد الله عيسى وباذن الله ترى النور قريبًا، وعدد من الدراسات المحكمة في أدب الطفل وأدب المقاومة لعدد من الجامعات الفلسطينية، ودراسات أخرى أشارك فيها في مؤتمرات علمية على امتداد الوطن.
6 متى ستحرقين أوراقك الابداعية وتعتزلين الكتابة؟
نحن نحترق كل يوم بطريقة أو بأخرى. فلندعْ أوراقنا تعيش لتوثق ما كان وما هو كائن الآن. فلندعها تحيا بعدنا وتكون شواهد على العصر. يموت الفرد وتستمر الحياة ويبقى انتاجه وأوراقه ذاكرة للأجيال القادمة. لانها هي محفظة التاريخ. أوراقي هي بناتي وأبنائي ولن تجد احداً له عقل يحرق أبناءه وبناته.
لن أعتزل الكتابة ما دامت يدي قادرة على تحريك القلم فوق الورقة. الكتابة صنو القراءة غذاء للروح والعقل فأنت عندما تكتب تتعلم أكثر وتحفظ أكثر. انت عندما تكتب تُمارس نوعاً من الحياة لا يحظى به الكثيرون.
7 ما هو العمل الذي تمنيت أن تكوني كاتبته؟ وهل لك طقوس خاصة للكتابة؟
الكتابة فوضى رغم التّرتيب الذي تبدو عليه في نسخته النهائية للمتلقي. للكتابة طقوس ولكل كاتب طقوسه الخاصة طبعا، حتى أن بعض الكتاب الروائيين العالميين مثل الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي (وغيره الكثير) كانت له طقوس كتابية غريبة، فهو يكتب في غرفة النوم في منزله في (هافانا)، وعندما تجذبه شخصياته الروائية يصعد إلى برج في الجزء الجنوبي من منزله. كان يكتب بقلم رصاص، وهو واقف منتعلاً حذاء أكبر من مقاس قدمه.
وانا كالاخرين لي طقوسي الخاصة فمثلا الدراسات تحتاج التركيز والقراءة والهدوء والجلوس بشكل رسمي وجاد وراء المكتب ولساعات طويلة أحيانًا تتعدى ال 15 ساعةفي اليوم، أما الشعر فهو يكتبك ولا زمان أو مكان محدد له.
8 هل للمبدع والمثقف دور فعلي ومؤثر في المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها ويتفاعل معها أم هو مجرد مغرد خارج السرب؟
أولاء وللإجابة على هذا السؤالء ينبغي أن نبين أن للمثقف والثقافة في عالمنا العربي فضاء محدد وحدود ومساحة قد تتسع أو تضيق تبعا لكثير من العوامل. فحتى يكون المبدع والمثقف فاعلا ومؤثراً في المحيط الذي يتحرك فيه ويتنفس قلمه على صفحاته، يجب أن يكون مطلوق الجناح مغردا بحرية دون قيود او محاذير – طبعا ضمن الإطار الأخلاقي والعقائديء حتى يعطي بأقصى طاقته. بعد ذلك نبحث هل هو يغرد خارج السرب ام داخله. وفي المجمل الكلمة نافذة تطل على الكل، والرياح التي تهب منها ستكون مؤثرة في المجتمع، في المتلقي الواعي وفي القاريء الذي يبحث عن الحقيقة. عندها سنرى أن هناك انسجاما وتناغما بين المبدع والمثقف من جهةـ وبين باقي عناصر المنظومة الحياتية والإجتماعية.
9 ماذا يعني لك العيش في عزلة إجبارية وربما حرية أقل؟ وهل العزلة قيد أم حرية بالنسبة للكاتب؟
انا أقول: “العزلة”.. طريقك لاكتشاف ذاتك والهرب من فوضى المجتمع. وبعبارة أخرى، عندما يعزل الإنسان نفسه عن السياق الاجتماعي لحياته، فقد يستطيع رؤية تأثير هذا السياق على شخصيته بصورة أوضح. يؤيد توماس ميرتون، وهو راهب وكاتب قضى سنوات في عزلة، هذا الرأي. فقد كتب في كتابه “خواطر في العزلة”: “لا نستطيع أن نرى الأمور بوضوح إلا إذا ابتعدنا قليلاً”. ولكن في الوقت نفسه، الأمر لا يتعلق بمجرد العزلة. يقول ماثيو بوكر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة مديل الذي درس في العزلة، “إنها عملية داخلية أكثر عمقاً”. فالعزلة المثمرة تتطلب استكشافاً داخلياً، وهو نوع من الجهد الذي قد لا يكون مريحاً، وربما يكون مؤلماً. لكي تكون العزلة مفيدة، يجب أن تتحقق بعض الشروط.، فتكون العزلة مثمرة فقط: إذا كانت طوعية، وإذا كان المرء يستطيع تنظيم مشاعره “بصورة فعالة”، وإذا كان يستطيع الانضمام إلى مجموعة عندما يريد، وإذا كان يستطيع الحفاظ على علاقات إيجابية خارجها. إذا لم تراعى هذه الشروط، فقد تصبح العزلة ضارة. الفرق بين العزلة كتجديد للنشاط والعزلة كمعاناة هي نوعية التأمل الذاتي الذي يمكن للمرء أن يمارسه أثناءها، والقدرة على الاندماج في المجتمع عندما يريد.
10 شخصية في الماضي ترغبين لقاءها ولماذا؟
محمود درويش
لم يكن شاعرا فقط بل معلما للأجيال، وفارسا يقود معركة الحالمين بغد أفضل. كان نبراسا ينير الدروب ويعطي دروسا لا تنتهي في الصبر واليقين والإيمان. لم يكن شخصية من الماضي بل هو يعيش اليوم والغد وروحه تطل على كل ميدان نجتمع فيه لنرسم خيولا نشتهي أن تأخذنا إلى سماء المجد.
درويش كانت انامله قيثارة تفيض بالألحان الشهية وما زالت تشنف مسامعنا رغم غيابه الرمزي. وفي كل يوم يبرز في احداقنا بعنفوانه وانطلاقه اللانهائي إلى حدود المستحيل
محمود درويش كلمتان تختصران الضياع الفلسطيني والحلم الممكن.
11 ماذا كنت ستغيرين في حياتك لو أتيحت لك فرصة البدء من جديد ولماذا؟
كل منا يتمنى بينه وبين نفسه أن يعود بشريط حياته للبدايات الاولى متوهما انه يمكن ان يغير الكثير. فلسفة الحياة مسالة صعبة وأعتقد انه لن يكون بالإمكان أفضل مما اختار الله لنا بقرارات منا وبإرادته. قد نظن ان تغيير شيء معين في حياتنا من بداياته الاولى ربما كان سيقودنا إلى فرص من السعادة والنجاحات أكبر مما حصلنا عليه. هذا يبقى افتراض لان تغيير أي جزئية مهما كانت بسيطة يرتبط بها الكثير الكثير من التفاصيل اللاحقة في محيطنا والتي ليس لنا عليها سيطرة. قد اتحكم بجزء من مسار حياتي لو عدت للبدايات ولكن هل سأضمن المحيط بكل تفاصيله وتناقضاته واخطائه؟؟ هنا تخطر ببالي نظرية ” تأثير الفراشة” والتي تقول لو ان فراشة هزت جناحيها في الغرب فلربما تسببت بإعصار بعد فترة طويلة في الشرق. لن اهرب بعيدا عن السؤال وسأقول” التخطيط الجيد والتنظيم المدروس وعدم التردد” أشياء قطعا ساتبناها لو عادت بي الحياة. ولكن: لن اكون إلا انا ” الباحثة والشاعرة إيمان. لأني أحبني هكذا.
12 ماذا يبقي حين نفقد الاشياء؟ الذكريات أم الفراغ؟
الذكريات لا تموت. والفراغ قطعا سيمتليء بعد حين ببدائل. قد لا تكون البدائل مُرضية وباذخة للحد الذي تعوض فيه ما فقدنا. وإنما هي الحياة هكذا لان الفراغ موت آخر. وبقدر ما تكون صلتنا بالذي خلقنا قوية ويقيننا به يملا ذواتنا فلن يكون الفقد نهاية للأشياء، ولن يكون الفراغ البديل الأكثر حظا بين المتاحات.
13 صياغة الأدب لا تأتي من فراغ بل من وجود محركات مكانية وزمانية، حدثينا عن مجموعتك الشعربة للحلم يقية” . كيف كتبت وفي أي ظرف ؟
الكتابة تمسك بتلابيب الروح.. ليست ترفا نستغني عنه بين الحين والحين.. هي ملازمة لنبضاتنا وشهقاتنا وآهاتنا.. تتبعثر اللغة بين أيدينا لكن الحلم يجمعها، ولأنه مسيرة طويلة من الأمنيات فإنه لا ينتهي ابدا. على صخور الرؤية أجلس لأشاهد امواج الحياة تتلاطم وتتدفق بالرذاذ ومع كل عاصفة ارتجف عشقا وحزنا. إنها تضاريس الكتابة في جغرافية هوسي بالإبداع. لا أنتظر المطر من سحاب الوجد بل أخلقه بإيماني اليقيني ببزوغ شمس الحقيقة.
أكتب والعبارات تهاوي من عميق وجداني وارسم اقواس قزح كل صباح بما تملكه جوانحي من حلم لا يتبخر في هواء النسيان.
14 الى ماذا تحتاج المرأة في أوطائنا لتصل الى مرحلة المساواة مع الرجل في مجتمعاتنا الذكورية بامتياز. الي دهاء وحكمة بلقيس أم الى جرأة وشجاعة نوال السعداوي ؟
إنّ الجرأة كما تكون عنوان اندفاعٍ وصراحة ومصداقية وإيمان بالقضية تتحول في غياب الحكمة إلى مجرد نزق وتطاول ونزوة تنسي كثيرين حقيقتهم وهذا بالذات المعنى العميق للتهافت بين الحكمة والجراة الذي يهدد كل بناء للديموقراطية والتنمية. برأي لا ينبغي أبدا المفاضلة بين نقيضين والحكم بينهما على أيهما الأنجع والأفضل للوصول للغايات.
إن مصطلح ” المساواة” مصطلح جذاب وواعد ومثير للقوى الكامنة بداخلنا ولكنه سلاح ذو حدين. حتى تكون المساواة شجرة تاتي أُكُلها كل حين، يكفي بان يفهم الرجل أن عليه واجبات تجاه المرأة مُلزم بتحقيقها وأن على المراة واجبات تجاه الرجل ينبغي عليها تحقيقها أيضا. لا يجوز ان ننسى ان كلٌّ منهما مبدعٌ في ما خلقه الله له وخصه به دون طغيان على الآخر. عندما نفهم لماذا خُلقنا في هذه الحياة سنسير معا بخطين متوازيين بكل ثقة وبكامل طاقاتنا مستغلين كل المَلَكات اللي خصنا الله بها. لا نتصادم أبدا، ولا نتقاطع إلا فيما هو مصلحة لكلينا. المساواة في إطارها العام لا ولن تصطدم مع الفطرة الإلهية. مطلوب منا أن نكون جريئين في الحق في ثوبٍ من الحكمة يستر عورات تجاوزاتنا اللامعقولة واللامنطقية. المساواة قطعة نقدية ذهبية وجهها الاول هو الحكمة ووجها الآخر هو الجراة في ما هو حق. بهذا تستقيم الامور وتحصل التنمية والتقدم والإبداع. وانا لا أقول وراء كل رجل عظيم امرأة، بل بجانب كل رجلٍ عظيم امرأة وبجانب كل امراة عظيمة رجل.
15 ما جدوى هذه الكتابات الابداعية وما علاقتها بالواقع الذي نعيش؟ وهل يحتاج الانسان إلى الكتابات الابداعية ليسكن الأرض؟
ساجيب على هذه السؤال بدأً من نهايته. نحن نسكن هذه الأرض ولا مكان آخر نفر إليه في الازمات والكوارث والخراب. وبما اننا جَبراً ملتصقون بهذه الأرض فلا ضير أن نرمم ما يتداعي ولو بالكتابة، فربّ كلمة نافعة سمعها رجل فأحيت قلبه دهرا. الكتابة بالنسبة للكاتب لا علاقة لها بالتأثير الحاصل الذي حصل البارحة أو يحصل الآن أو سيحصل غداً، الكتابة شيء مصيري وشخصي تماماً. الكاتب لا ينتظر أن يرى آثار كتاباته على القُرَّاء أو في المجتمع فهو يؤدّي رسالته ككاتبٍ لا أكثر مثلما ان الجندي يؤدي ما عليه في الصفوف الأولى في المعركة، والمعلم يؤدي ما عليه في غرفة الصف، وهكذا.
نكتب الشعر مثلا لأننا نعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة للتعبير عمّا هو شخصي وعمّا نريد أن نقوله الآن. عما نريد أن نُغنّيه، أن نتركه كوصيّةٍ، كتلك الرسالة في القنينة المُغْلَقة التي يتركها البحَّار حينما تضيق به السُبُل ويشعر أنه مواجه الموت لا محالة. أنا أرى أنّ في كل كتابةٍ خيط دم سواء أكان رفيعاً أمْ سميكاً، ولكنه في كل الأحوال يحمل جينات فكرية أو شعرية أو أدبية فنية أو فلسفية، تجتمعُ فيها الناس وتتفرَّق. تتحابَب أو تتقاتل. تتساكَن أو تتباعَد. ورغم أن المشهد العام “حالِك الظلام”، إلا أني أعتقد أنه يجب أن تبقى للمُبْدعين مساحة للأمل، حتى وإنْ كان مُجرَّد حُلم.
أما المشاركة في التغيير فلكل كاتب طريقة في المشاركة في التغيير أو عدم المُشاركة، فليس كل مَن ادَّعى المُشاركة قد شارك فعلاً وليس كل مَن فعل العكس لم يشارك. أنا أكتب ولا أدري إذا كانت كلماتي ستحرر أسيراً أو ستبني بيتاً أو سيكون لها أثر. أريد فقط أن أخرج الأسى الذي في داخلي من الأشياء والحياة والوجود. أن اترك إرثا لمن بعدي، أن اترك وصية بطريقتي الخاصة فلعلها تضع حجرا في هذا البنيان الآيل للسقوط، وفي وقتٍ فَقَدَ الوقت معناه، وتكاثر الشعور بالعدمية واللاجدوى. قد يكون ما نفعله فعلاً مُرتبطاً بحمولة الحياة الزائِدة في ذواتنا، وقد نقف بمواجهة الموت، موت الأدب، نواجه الخيبات والتضييق والشِللية التي حرمت الأدب معناه.
ستظلّ الكلمة السلاح الأقوى القادِر على تغيير العقول، وزَرْع المفاهيم. في عالمٍ عربي يحتاج دوماً إلى مَن ينفخ فيه روحاً حيث الأجساد الميتة، هناك تصير المآسي المجتمعيّة أموراً شخصية، وتتحوَّل الكتابة إلى وطنٍ من نوعٍ آخر، وطنٌ لا يؤلِم ولا يجرح.
16 كيف ترين تجربة النشر في مواقع التواصل الجتماعي؟
برأيي المتواضع أن مستقبل النشر الأدبي مرتبط بوجود قارئ بغض النظر عن الوسيلة والأداة، والنشر الالكتروني هو البارز لعدة أسباب.. منها مادية فهو أوفر، ومنها لأنه الأقرب والأسرع في الحصول عليه وأيضاً يسهل الوصول إلى الممنوع والنادر من الكتب والمقالات. كما ينشئ تواصلاً بين الكاتب ومتابعيه من خلال الصفحات الاجتماعية، هذا من ناحية المتلقي.
أما من ناحية المبدع أو المؤلف فالنشر الإلكتروني من حيث المقالة والكتب يصلك بشريحة أوسع، ويجعل الكاتب على تماس مباشر مع ردود الفعل والتعليقات. هناك دعوات متكررة وتجارب لنشر الكتب مباشرة إلكترونياً ودون المرور بالطبع الورقي، وفي أغلبها احتجاج على دور النشر وسياساتها النفعية في معظمها.لكنها ليست ظاهرة عامة ونموذج واضح للدراسة والتقييم.
لا زال الكثيرون يفضلون النشر الورقي كخطوة أولى لأنه الاضمن وهو الأصل.أما خارج كتابة المقالة وطباعة الكتب، فإن محاذير عديدة تقف أمام النصوص الأدبية المنشورة مباشرة داخل المجموعات الأدبية على الصفحات الاجتماعية، أو من خلال الحسابات الشخصية. ومنها سهولة السرقة والانتحال دون وجود مرجعية ورقية (كتاب) تثبت المالك الشرعي.
ردود الفعل على النص الأدبي في الصفحات الاجتماعية معرّض للوقوع في الافتراضية وحساباتها الخاصة مما يشوش على المبدع أحيانا ويجعله في حالة شك أو ضيق تجاه ما يَكتُب أو أحيانا في حالة ثقة فائضة. بالنسبة لي أنا أحاول أن لا أنشر الجديد في الصفحات والمجموعات الأدبية على شبكات التواصل الاجتماعي، وإنما أنشر نصوص أو مقتطفات طبعت في كتاب.
17 أجمل وأسوأ ذكرى في حياتك؟
لو أردت أن أعدد الذكريات الجميلة التي تركت أثرًا علي وعلى مسيرتي وحياتي لما انتهيت من التعداد إلا أن الأجمل كانت ولا زالت ولادة أبنائي، بالمقابل فإن الأسوأ كان مع تجربة أصعبها وفاة والدتي رحمها الله ثمّ أختي الأديبة سناء السعيد، وزوجي، فجميعهم رحلوا في غضون شهور قليلة مما ترك أثرًا والشعور بقساوة الفقد والحرمان وغربة الروح والرحيل والحزن والوحدة.
18 كلمة أخيرة أو شيء ترغبين الحديث عنه ؟
خالص امتناني وتقديري لكم على هذه الدعوة والاطلالة التي منحتموني إياها من خلال نافذتكم المشرقة. ولا بد من كلمة أخيرة أضعها كتوقيع لي قبل أن تطوى صفحة هذا اللقاء. الكتابة هي طوق النجاة من ضغط التأمّلات التي ننوء تحت وطأتها. علما أن التأمّل الحرّ والطّلق، والمُركّز أيضًّا، أجمل من الكتابة! لكن لا مفرّ من الكتابة، وإلا فقد يصاب المرء في عقله من فرط الحديث مع النّفس.
مع التقدم في العمر والتّجربة، يكتشف الكاتب أن الكتابة تعينه على معرفة نفسه، ويتعدى الأمر ذلك إلى السّعي لكسر رتابة الحياة اليوميّة، وفقرها العقليّ والوجدانيّ. والكاتب يولد حقًّا من جديد مع كلّ نص، أو كتاب جديد له، وبينما يولد بيولوجيًّا مرّة واحدة فقط، فإنّه يولد إبداعيًّا مرَّات ومرَّات، مما يمنح حياته معنىً وطعمًا. أما الجدوى فهي حقًّا ضئيلة، وهي لا شكّ وسيلة لمقاومة العدم، بأن يظلّ شيءٌ من المبدع حيًّا بعد رحيله، وهو آثاره.