كتب : الفاضل النايلي
في الديوان الجديد الثالث للشاعرة التونسية سليمى السراير :
“حيـــن اشتهانـــا الغــرق”
لئن كان الشّعر جنساً أدبيّا تليداَ، تراكضت إليه خيل فحول الشعر طِلبتها المعنى، فإنّه إلى ذلك صوغٌ فنّي تؤثّثه وسائط تصوير وأخرى في التعبير. الشعر جنس أدبيّ تفتّحت عيون أبياته الشعريّة حياكة لحكاية الواقع تسجيلا للوقائع وتخليدا للمآثر وحفزا على القيم، غير أنه غالبا ما ساير حركة الواقع وانضبط لحتمياته حتّى كان نصّا منفلتا من أسيجة التعاود، وقيوده. بذلك كان الشعر سؤالا ماردا سكن النصّ والمبدع وسكن القارئ لحظة تقبّل.
سؤال حضر النصّ لحظة تشكّل حتّى ينصرف عن طريق قوافل الشعر ويضرب في فيافٍ لم تطأها قدم أسرى التقليد، وهو إلى ذلك سؤال ينثال على المبدع كيْ يؤسّس لنبوءة شعرية مختلفة تشكّلا و رؤيا، وأخيرا كان سؤالا مكينا لازم القارئ في حلّه وترحاله بحثا في منطوق الكتابة الشعريّة ومخبوئها.
ومصنّف “حين اشتهانا الغرق” للمبدعة التونسية سليمى السرايري منخرط ضرورة في مسار إبداعيّ أراد أن يكفر بالصنم و يرتدّ عن طقوس الماضي ليُراقص الوجود و الكتابة على إيقاع مغاير للرتابة.
تتصفّح هذا المنجز الإبداعيّ الشعريّ فيستوقفك العنوان:
“حين اشتهانا الغرق“…
عتبة أولى تسحر الأنظار وفي مجازها تعمى الأبصار.
تسحر الأنظار، لأنّ التركيب أسقط النواة الإسناديّة وأبقى على المتمّم ليهيم القارئ أو الناقد في متاهات التقعيد النحويّ لترمي به في أعماق دنيا أقدار النحو. وتعمى الأبصار في غابة المجاز، ليغالب العنوان وجوبا عالم النشاز. بيّنٌ ذلك من خلال ذلك التمثيل البيانيّ الذي استعارت فيه سليمى السرايري فعل (الشهوة) إلى غير فاعله الحقيقيّ (العاقل) وتُلزم به الغرق (غير العاقل). ليستحيل هذا الأخير طالبا للذّة أنّى مأتاها.
غرقٌ تأبّط شرّا بـ”النحن“. غرقٌ تبدو شهوته إفناء للموجود وإقرارا لعدميّة الرحلة هذا ظاهرا، أمّا إذا حمّلنا اللّغة طاقتها الإبلاغيّة تبدّى لنا الغرق شهوة في الخلاص من دنيا القحط.
و الطريف في هذا المشتقّ (الغرق) أنّه لا يحضُرُ عنوانا فقط بل نجد له صدى في ومضات الأبواب الستّة الداخليّة، ليكون إمّا بصيغة المشتقّ ( لعلّي أنتشي غرقا / اللّيلة التي منحتنا الغرق و الجنون / اللّحظات التي أمهلتنا لحظات أخرى قبل الغرق/سأتقن الغرق في بحرك)، وإمّا بصيغة الفعل :مثيل قولها (لعلّنا نُغرق الأرض توتا و حمائم)، وثالثة بألفاظ أخرى لها جوار دلاليّ بلفظة “الغرق” :
(الموج/البحر/مراكب الرحيل/المراكب التائهة/الوداع/دموع الصيّادين/خطايا الموج).
غير أنّ هذه الدلالة الحقيقيّة للغرق تغيب قراءة وتتلاشى تأويلا ليتلوّن الغرق بدلالات أخرى منها ما هو اجتماعيّ :
سنفترش النسيان و نمضي
لعلّلنا نُغرق الأرض توتا و حمائم.
ومنها نا هو عاطفيّ وجدانيّ :
سأرقص هذه اللّيلة
أفكّ ضفائري الموج
لعلّي أنتشي غرقا.
وأبْلغُها الغرق الإبداعيّ :
فتحت نافورة كلماتي…
فطفت أحزاني كالزوارق الصغيرة
على زبد القصيدة
–
حبيبي قصيد كرتونيّ ملوّن …
سقط في الماء ……..فذاب
–
كلّ هذه الدلالات التي ألمعت إليها لغة سليمى السرايري نجدُ لها تبريرا منطقيّا في تلك الومضة الخامسة التي تضمّنها الباب الثالث :
“حقائب سفر” وهذا متنها :
كلّما توقّف زورقك في ميناء قارئ
إلّا واتّسع الأفق للغة أكثر إبحارا.
تلك حجّة دالّة على انفتاح لفظة (الغرق) على فيض من التأويلات. وإذا ما تدبّرنا أمر هذا المنجز الإبداعيّ “حين اشتهانا الغرق” داخليّا تجلّت لنا عتبات أخرى مثيل الإهداء، هو منطوق سليمى السرايري تشكّل متنا في الترسّل تعدّد المرسل إليه فيه، فكان مرّة نداء موجّها إلى الإنسان : (إلى الأطفال/إلى هؤلاء الراحلين/إلى أمّي)
وأخرى للزمان : (إلى مواسم الحزن/إلى كلّ لحظة ماتت/إلى الغياب)
وثالثة إلى المكـــــان : (إلى المدن النائمة على كهوف الشوارع)
ورابعة إلى أعمدة البيان (إلى النقاط والفواصل والفراغات).
هكذا كان الإهداء نداء للقريب والبعيد، للعاقل وغير العاقل، للوجود والموجود، ربّما كان حزمة من الوصايا قبل الغرق…و ربّما كان نداء للأقاصي !
و يعقُب هذا اللإهداء النثريّ آخر شعريّ، التزمت فيه سليمى السرايري لُزوم ما لا يُلزِم كما في إهدائها النثريّ، إذ بها تَعرُج عن دنيا رياضة النثر لتُعانق سماء النظم.
كانت رسالتها جملا موسيقيّة متتالية متعانقة خصّت بها مخاطبا مفردا مذكّرا، حجّة ذلك تتالي كاف المشافهة (إليك/تأمّلك/منك) أو تلك الأفعال الصريحة (كنتَ تعرِف/ /دنوتَ/كنت تَدري) ويبدو متن الرسالة سَفرًا عن دنيا الغزل وترحّلاً في لوحات الوجود إلى المعلوم من الأجل ليُضحي دخولَ الأبديّة مطلباً ومغنماً، ويصبح الشفق حنّاء تخضيبٍ، ويستحيل ربيع الفصول خصيباً…فهل عنّ في خاطر سُليمى السرايري مراودة القارئ فنّ تخييبٍ لانتظاراته؟…
وعن الإهداء تناسل تصديرٌ من منطوق الشاعر “محمود درويش”، وهو نصّ مضمّن يبدو في الظاهر غريبا عن النصّ الأصليّ الذي حبّرته سليمى السرايري غير أنّه ساير متن الإهداء في فحواه الدلاليّ.
تفرّد صوغا فنيّا من خلال التشابيه البليغة (صباحك فاكهة للأغاني/أنت الهواء/أنت بداية عائلة الموج/أنت بداية روحي/ أنت الختامُ)…
لقد أرادت سليمى السرايري، وهي تحبّر متنها “حين اشتهانا الغرق“. أن تركبَ فنّ التجريب وتُلامسَ حداثة فرائد كتابة الشعر الحُرّ، لمّا عنونتْ منجزها الشعريّ لما في العنونة من شرود عن طقوس كتابة الشعر، عضدت ذلك بظاهرتَيْ الإهداء والتصدير، هذا فضلا عن تقسيمها هذا النصّ الشعريّ الجامع، إلى ستّة أبواب داخليّة :
(محطّات عاشقة/وجع الحرف/حقائب سفر/ أوجاعنا الأخرى/وجع الرحيل/محطّات دافئة).
تفنّنت في بنائياتها فكان بعضها مركّبات نعتيّة :
(محطّات عاشقة/محطّات دافئة)
وبعضها الآخر مركّبات إضافيّة :
(وجع الحرف/وجع الرحيل).
ومن مظاهر فرادة الصَوْغ إفادة سليمى السرايري ـ وهي تنتخب عناوين الأبواب الداخليّة ـ التزامها ظاهرة تناغم المعاجم، من قبيل معجم الرحيل (محطّات/حقائب/سفر/رحيل)، ربّما كان ذلك علامة دالّة على قلق اللّغة وهي تسافر في تجاويف الكيان، كيان مكلوم بهاجس اللّا قرار، كيان هزّه الشوق إلى الرحيل الدائم. لم تقتصر الشاعرة وهي تحوكُ العناوين على معجم الرحيل إنّما جاوزت ذلك إلى معجم الألم ( وجع الحرف/ وجع الرحيل/أوجاعنا الأخرى) حتّى كانت العلّة لونا آخر من ألوان تشكيل العناوين، علّة تأصّلت في فضاءات متباينة، النصّ والوجود والكيان. ربّما هي تلك العلّة التي قالت عنها المسعدي “إنّ العلّة من محييات الحياة” ! وأخيرا كان المعجم الوجدانيّ معينا آخر نهلت منه لغة تشكيل العناوين.
هكذا أسرت لغة العناوين في أفضية مختلفة (الرحيل/الألم/الوجدان) هاجسها شوق دائم إلى القرار والاستقرار.
وقد كانت تلك الأبواب الداخلية، متونا داخليّة تفرّعت عن العنوان الجامعِ الأصليّ، فيها ما يؤكّد نزوع سليمى السرايري منزع التجريب الشعريّ والإفادة من شروط الاختيارات الفنيّة المائزة لقصيدة النثر. بذلك تضمّن كلّ باب كمّاً من الومضات.
البــــــاب | العنــــــــــوان | عدد الومضات |
الأوّل | محطّات عاشقة | 58 |
الثاني | وجع الحرف | 21 |
الثالث | حقائب سفر | 19 |
الرابع | أوجاعنا الأخرى | 22 |
الخامس | وجع الرحيل | 10 |
السادس | محطّات دافئة | 19 |
ما يميّز هذه الومضات الشعريّة و هو حركةُ مدّها وجزرها، وكثافتها في أبواب و نُدرتها في أخرى، حتّى لكأنّ أقدارها محكومة إلى رغبة تظهر وتخفتُ، تفورُ لتموت.
ولم تكن هذه السنّة الشعريّة الخصيصة المائزة للأبواب الداخليّة من حيث عدد ومضاتها الشعريّة فقط، بل نجد لها صدى داخليا في طبيعة تشكيل كلّ ومضة شعريّة داخليّة من قرائن ذلك تفاوت عددُ الأسطر الشعريّة أوالجمل الموسيقيّة التي تؤثّث كل باب، لنرى ومضات بسطر شعريّ واحد وأخرى بخمسة أسطر وثالثة حضرها الصمت.
بيّن من خلال ما سبق أنّ سليمى السرايري أرادت أن تشُذّ عن طريق السابقين لمّا فصلت بين الأبواب عنونةً والتزمت السُبل ذاتها و هي تفصل بين الومضات الشعريّة الداخليّة، تشكّل لوحة شعريّة فسيفسائيّة تمازجت أسطرها الشعريّة في الظاهر، وهي على الحقيقة متباينة خاصّة في طريقة صوغها. وقد أظهرت لغتها الشعريّة كلّ أشكال التشكّل، فكانت غالبا فيضا بيانيّا من حيث عدد الأسطر، ونادرا ما تقلّص حضور الموضات الشعريّة لتكون سطرا شعريا واحدا، ونزعت كذلك إلى الصمت سبيلا من سُبل البلاغ و الإبلاغ كما في بعض المواضع من الباب الأوّل:
“محطّات عاشقة”
هكذا كانت قصيدة النثر عند سليمى السرايري غير خارجة عمّا آلت إليه حداثة الشعر غربيّة كانت أم عربيّة. إذ بها تجمّل منجزها الشعريّ:
“حين اشتهانا الغرق” بكلّ أشكال البيان خطّا و لغة وصمتا.
بذلك ترحّلت لغتها من القول إلى اللاّقول ومن المقول إلى الصمت حتّى تؤكّد أنّ البيان أقسامٌ وضروبٌ. واستنطاقُ المعاني لا يُدرَكُ فقط لغةً بل أعذبُه ما كان سفراً في الأقوال الغائبة وألذَّه ما تجلّى مراودةً للبيانات الصامتة وأمتعَه ما كان رحلةَ قبض على الدلالات المغلقة…
غريبة هي درر ” اشتهانا الغرق“… تهبك نبض حياة لمّا ساد القحط وأرخى الليل سدوله آخر نفق. ربّما كان هذا المتن أمنية أو أغنية أرادت الشاعرة سليمى السرايري أن تنثر إيقاعها في جمل موسيقيّة من حاول فكّ ظفائرها، فقهَ أنّ الشّوق آخر ترانيم الغرق…
ومن لم يقرأ هذا المتن كان كونا ثمّ احترق !!!
–
الباحث والناقد الأستاذ الفاضل النايلي
كليّة الآداب بسوسة.
قرية الماء.