لصحيفة آفاق حرة
قراءة في رواية: غارب.
الكاتب: محمد عبد القهار.
الناشر: مدارات للأبحاث والنشر.
ط٣، ورقية، ٢٠١٧م.
محمد عبد القهار كاتب مصري متميز جدا. قرأت له رواية سراي نامه – الشيخ والدرويش، وكتبت عنها.
غارب رواية اخرى للكاتب تتناول مرحلة تاريخية مهمة جدا؛ انها تتحدث عن العقود الاخيرة من الحكم العربي الاسلامي في الاندلس اسبانيا لاحقا. حكم دام لما يزيد عن سبعة قرون.
تعتمد الرواية أسلوب السرد بلغة المتكلم تارة بصيغة “انا” وتارة المخاطب بصيغة “انت” وتارة بصيغة الراوي “هو”. وفي كل الأحوال تحاول الرواية أن تطال عوالم شخصياتها الأساسية من خلال الغوص في عوالمهم النفسية الداخلية، وفي تفاصيل واقعهم المجتمعي، والحالة السياسية، حيث تدور اغلب احداثها في عالم السلطان وأولاده وما آلت اليه الامور من خلال صراعاتهم البينية، وصراعاتهم مع الإسبان الذين توحدوا في مواجهة العرب المسلمين في الأندلس وبدؤوا حرب الطرد واستعادة الهيمنة على الأندلس بدعم من بابا الفاتيكان والفرنسيين وغيرهم.
الشخصية المحورية في الرواية هو موسى الابن الأصغر لسلطان سعد بن محمد من بني الأحمر، ويعود نسبه لأبي أيوب الأنصاري. موسى الذي مازال صغيرا من زوجة ثانية للسلطان سعد، وله من زوجته الاخرى ولدين آخرين وصلا لعمر الشباب. هم أبي عبد الله الزغل وأبي الحسن. ولدين متنافسين على ورثة والدهم في السلطنة. أن مركز الحكم في غرناطة في قصر الحمراء وكثير من البلدات الممتدة في بقاع الأندلس الواسعة، لم يستطع والدهم أن يؤلف قلوبهم. كما أن السلطنة لبني الاحمر الممتدة لقرون على الأندلس بدأ يهددها محاولة الامراء الاسبان ان يستردوا بعض البلدات والحصون بمساعدة الفرنسيين والبابا. وخاصة بعد أن تصالح الأمير فرناندو والاميرة ايزابيل المتصارعين على السلطة فيما بينهما على ماتبقى من اراضي اسبانيا. تزوجا وحولا حربهم ضد بني الأحمر وبدؤوا يتمددون رويدا رويدا من خلال قضم البلدات والقلاع الاندلسية منهم. الصراع بين الاخوين أبي عبد الله الزغل واخيه ابي الحسن قد انتهى بتقاسمهما الحكم، بأن استحوذ كل منهما على بلدات من الأندلس، وتجاوزا والدهم السلطان سعد الذي بقي سجين قصره في الحمراء مع زوجته الثانية وولدها اخاهم الصغير موسى. الذي لم يدرك -وقتها- ذلك المصاب على والده وعلى سلطة آل الأحمر وعلى تواجد العرب والمسلمين في الأندلس.
كان ذلك في حوالي عام ٨٦١ هجرية. وسرعان ما مرض من الغم السلطان سعد والده ومات. عندها جاء ابنه السلطان أبو الحسن واستولى على غرناطة بما فيها قصر الحمراء مركز الحكم. وخرج موسى الصغير مع والدته الى بيت خاله في الخضراء وعاش تحت رعايتهم وحمايتهم. كبر موسى وفي نفسه غصة اتجاه تعدي اخويه على سلطة والده وموته مغموما. كما جرحه نفسيا عدم الاهتمام به مطلقا وكأنه غير موجود. أليس من بني الأحمر وله حق بالامارة والسلطنة ايضا. كان رأي والدته وخاله أن لا يلفت الانظار اليه ويجعل اخوته يقتلوه خوفا منه أن ينازعهم على السلطة حيث هم، ولو بعد حين. كل من إخوته بما في يده فرح، سلطان على بقعة من الأندلس. تم اخفاء حقيقة موسى عن كل من حوله. واعطوه اسم موسى بن أبي غسان، خاله، وليس الأمير موسى ابن سعد السلطان. وبدأ حياته يتعلم على يدي كثير من العلماء والفقهاء. كذلك فنون القتال، كما انه تعلم الطب واتقنه، وعمل به. كان يملك حصانا اسمه غارب، كان رفيق حياته. لم يتخلى عنه مطلقا. رغم إصابة الحصان بالعمى، فقد علمه التحرك وفق الصوت بدلا عن حاسة النظر. كبر موسى وتزوج من ابنة خاله. ومرضت والدته و توفيت بعد ذلك. لم يكن حال السلطنة على خير فهناك صراع دائم بين السلطانين الاخين أبي عبد الله الزغل وأبي الحسن. وهناك ايضا توغل أكثر للاسبان في مناطق سيطرة العرب المسلمين. وقضم وتهجير للناس في تلك المناطق. فقد اعتمد الاسبان على اسلوب التنصير او الترحيل للعرب المسلمين للبلدات والحصون التي يفتحونها و يضمونها إلى سلطتهم المتوسعة أول بأول. هذا في ذات الوقت الذي غرق به الاخوة السلطانين في صراع عبثي على السلطة. هذا كما اعتمد الاسبان على خلق الضغينة والرشوة وبيع الولاء لكثير من القادة عند السلطانين. بحيث تحالفوا مع أحدهم ضد الآخر. وفي كل مرة يدفع العرب المسلمين مع سلاطين بني الاحمر الثمن من حياتهم وتشردهم وخروجهم عبر البحر الى المغرب العربي حيث مستقرهم الأخير. تمر السنون وتنجب زوجة موسى ابنة خاله له ولده عبد الملك. الذي يراه أمله وامتداده في الدنيا. وهذا الكتاب الذي بين يدينا هو رسالة الأب موسى لابنه عبد الملك الذي بدأ يكبر بعيدا عنه في المغرب. فمع مضي السنين وتراجع سلطة بني الاحمر وزيادة قوة وسطوة الاسبان خاف موسى على زوجته وابنه، حيث أخذهما خاله والد زوجته معهم الى المغرب لمزيد من الأمان. لانهم ادركوا ان ايامهم في الأندلس أصبحت معدودة. عاش موسى مهموما في غرناطة بعد ذهاب زوجته وولده. كما انه مهموم على مصير سلطة بني الأحمر المتآكلة، وعلى التواجد العربي الإسلامي في الأندلس ها هم الأسبان يتوسعون على حساب سلطة الأخوين المتصارعين. بالحرب والحيلة وخلق الفتنة والرشوة، والنتيجة دائما مزيد من قضم البلاد لصالح الاسبان. وترحيل من لم يقبل التنصر إلى بلاد المغرب العربي. وزاد الطين بلْة أن كبر ابن أخي موسى السلطان أبي الحسن وكان اسمه أبي عبد الله وكني بالصغير ليميز عن عمه أبي عبد الله الزغل. وانقلب أبي عبد الله الصغير على أبيه أبي الحسن، واستغل الإسبان ذلك وزادت حدة الخلافات بين آل الأحمر المتنازعين على السلطة. والبلاد تهرب من بين أيديهم تباعا. على وقع التوسع الإسباني. لم يظهر موسى حقيقة كونه أخا للسلطانين أو عما للسلطان أبي عبد الله الصغير. بل بقي موسى بن أبي غسان. الذي اصبح احد اهم القادة في الجيوش التي تحارب الاسبان. موسى الذي علمه خاله على فنون القتال جميعا. وذلك تجهيزا له ليكون أميرا أو سلطانا. لكنه رهن نفسه وحياته لأمر واحد فقط. أن يقاتل الإسبان ويحافظ على الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، ومهما كان الحاكم، لكن حكام السلطة من بني الأحمر يتصارعون و مفتونون مع غنائمهم وواقعين في حبائل الإسبان، الذين ينتصرون عليهم في المعارك، ويتلاعبون بهم في السياسة والفتن والخدع والتخوين وشراء الذمم. لقد أصبح موسى أحد اهم القيادات العسكرية عند ابن أخيه السلطان أبي عبد الله الصغير، دون الإفصاح عن هويته الحقيقية. وبقي يقاتل معه دفاعا عن البلدات والحصون. لكن التوسع الإسباني استمر واستطاعوا السيطرة على مناطق سيطرة أبي عبد الزغل الاخ الاخر الذي رضي أخيرا بتسليم البلاد مهزوما، وان يغادر مع من يريد الى المغرب، مع ما يشاء من المال والمناصرين. وبقيت اخيرا غرناطة حاضرة الأندلس ودرة تاجها وجوهرتها بقصرها الأحمر وحاكمها الاخير أبي عبد الله الصغير. تم حصار غرناطة ومحاربتها عسكريا. مُنع عنها كل أسباب الحياة، ولم يستطع أهلها تحمل ذلك، فاوض السلطان أبي عبد الله الصغير الإسبان وقرر الرحيل اخيرا ايضا مع من يريد إلى المغرب العربي. لكن موسى لم يقبل بالهزيمة ولا بالتسليم. قرر أن يحارب الاسبان معركته الاخيرة وحده يركب حصانه الاعمى غارب. خرج من قصر الحمراء متجاوزا أسوار قرطبة. في يوم مثلج يحمل سلاحه ليخوض معركته الاخيرة. واجه العسكر الإسبان المحاصرين لقرطبة وحده قاتل وقتل منهم الكثير وسقط اخيرا شهيدا.
تنتهي هنا الرواية التي هي رسالته التي يجب أن تصل لابنه عبد الملك في المغرب، ليعرف حقيقة ما حصل في العقود الاخيرة لتواجد العرب المسلمين في الأندلس، وكيف خسرها العالم الاسلامي الى الابد بعد ثمانية قرون من الفتح تقريبا كان ذلك في تاريخ ٨٩٧ هجرية الموافق ١٤٩٢م.
في تحليل الرواية اقول:
نحن امام رواية رائعة بكل المقاييس، فهي تعيد احياء تلك الحقبة المهمة أواخر عصر بني الأحمر في الأندلس أواخر الحضور العربي الإسلامي هناك. تغوص عميقا في واقع الصراع السياسي على الحكم بين امراء بني الاحمر وكيف أضاعوا البلاد والعباد من جشعهم وقلة وعيهم وانانيتهم. وكيف كانوا أدوات رخيصة بيد اعدائهم الاسبان. أولئك الإسبان الذين توحدوا بعد فرقة. وحصلوا على الدعم من بابا الفاتيكان والعالم المسيحي وفرنسا. وقضوا على التواجد العربي الإسلامي في الأندلس. هجروا من أراد الحفاظ على اسلامه. ونصّروا من بقي وأعادوا اسبانيا الى حاضرتهم المسيحية بعد قرون ثمانية تقريبا من العيش فيها تحت سيطرة وهيمنة بني الأحمر بأغلبية عربية مسلمة.
العوالم النفسية مدروسة بدقة في الرواية. كما الظروف المجتمعية. كما متابعة تغيرات العصر. اعتماد الأصوات المتنوعة ل أنا وأنت وهو في الرواية “الرسالة” تعطيها جمالية وروعة. كذلك الدخول في تفاصيل التأصيل العلمي لذلك العصر حيث كان المسلمين رواد العالم في ذلك الوقت. علم الاجتماع حيث يحضر ابن خلدون وكذلك علوم الفقه والدين وغيرها من العلوم…
اخيرا: نحن بحاجة لان نستعيد تاريخنا كله بهذه الطريقة التي تظهر حقيقته. وبطريقة تجعله متقبلا، نتابع الاطلاع عليه بشغف، حيث تعتبر الرواية كبيرة بعدد صفحاتها الممتلئة معلومات ومعنى تزيد عن أربعمائة صفحة.
نعم اطلاعنا على ماضينا المشرق و عثراتنا في ذلك الوقت تقدم لنا العون لصناعة مستقبل أفضل.
كما اننا ندرك ان صراعنا مع الغرب قديما عمره مئات السنين. ولم ينتهي للآن.
احمد العربي.
٢٥/٥/٢٠٢١م.