كتب:عبد النبي بزاز ـــــ المغرب
تنفتح مجموعة ” مثل التفاتة ثكلى إلى الوراء ” الشعرية للشاعر المغربي علال الحجام على عوالم جمالية تزخر بإيقاعاتها المتنوعة ، وتفتح أفقا موسوما بسحر الغموض ، وفتنة التخفي ، واكتشاف خفاياها يورط في متاهات دائبة التجدد والتنوع مما يخلق حالة تداخل وتشابك بين ماهو إيقاعي وجمالي ودلالي يُصَعِّب من فك خيوطها ، وتحديد مكوناتها وعناصرها ، فتظل أي مقاربة لنصوص المجموعة محفوفة بهاجس التقصير أمام نصوص ممعنة في امتدادات حبلى بتوالد الصور ، وزخم غناها الجمالي والدلالي وما يثيره من تواتر الرؤى ، وتوارد الإيحاءات والإشارات.
وفي ظل ما تتضمنه الأضمومة من تمازج بين مكوناتها التعبيرية فإنه يصعب إن لم نقل يستعصي تجزيء عناصرها ، وفك وتفكيك خيوط شبكة أساليبها المختلفة ، ومعانيها المتعددة ، مما يقودنا، بداية ، إلى مقاربة بعض تركيباتها الإيقاعية والبلاغية .
فعلى مستوى الإيقاع تضمنت بعض النصوص جرسا خارجيا في مقطع ” 11 .وعد الجليد ” من نص ” سنجاب إتشوتا ” في القافية المشكلة من ياء وتاء : ” وقتئذ جف طوفان أسئلة كاويه … تمزق خيبتها ظلمة عاتيه ، وأيقن أن كل كائن في الرابيه … ” ص 18 ، وفي المقطع الثالث من نص ” مثل التفاتة ثكلى إلى الوراء ” حيث يستخدم الشاعر روي الدال : ” لم تمتثل لعصا الأجداد تؤدب تقطيبة الأحفاد … ” ص 26 ، وروي العين في مقطع ” هامشان ” : ” ناكثا دمل عشق ضاع … وفيافي الهزائم والأوجاع … ” ص 57، وآخر ، أي جرسا ، داخليا تمثل في تكرار نفس الحرف مثل السين في : ” طوفان أسئلة … أيقن أن التوجس يسكنها مثلما يسكنه ، وأن شظايا السلالة … وتوقظ شمسا، ليست سوى صيد … ” ص18 ، مما يخلق رنة داخلية تبدل شكل الإيقاع وتنوعه ؛ مع ما خلقه استعمال حرف الراء في ( الأزهار والأنوار) وتناغمه مع الهمزة من نوتة موسيقية أخاذة ، وحرف الميم في اطراده وتتابعه : ” لم يلملم مثله باقة ورد طريه … ” ص99 ، وحرف الراء ، في تعالقه وتقاطعه مع القاف : ” ويقطف ثمرا مرا حين تحترق الأوراق … ” ص 105، ومن الناحية البلاغية وردت عناصر من قبيل الطباق : ” كلما اقتربت منه ابتعد ” ص 6، وما يشكله من تقابل بين فعلي القرب ( اقتربت ) ، والبعد ( ابتعد ) ، وبين التآخي ولاختصام في : ” تطعمها درر تتآخى وتختصم … ” ص 56 ، والشك واليقين : أمام كل باب بين الشك واليقين … ” ص 131 ، والجناس في قوله : ” ويذبح براعم القصيد من الوريد للوريد … ” “ص20 ، مع ما تضمنه من إيقاع تجسد في حرف الدال المكرر ثلاث مرات وما يكرسه ذلك من تواشج وتلاحم بين عناصر إيقاعية وبلاغية ، وهو ما يتوالى في : ” ربما اشتعلت البصيرة صدفة عندما انطفأ البصر … ” ص37 ، حيث تداخل الجناس( البصر، والبصيرة ) مع الطباق ( اشتعلت ،وانطفأ ) وتماهيا في انسيابية تعبيرية ، وتجانس جمالي رغم ما وسمهما من تضاد ؛ وقول الشاعر في مقطع ” أيها الأعمى ” من نص ” مزولة في ظلمة النزول ” : بين غياب عاقل وحضور غافل في جحر العدم … ” ص 117 ، الغياب والحضور كطباق ، وعاقل وغافل كجناس ؛ وما يضفيانه على النص الشعري من تعبير جمالي ، وبعد رمزي ودلالي . و عنصر التشبيه كمكون بلاغي مقترنا بالأداة تارة : ” أتسلل كالفجر في خفة ” ص 6، ومجردا منها طورا : ” فإذا بالأقلام أقواس طيعة… ” ص 25 ، أو في استعمال ، أكثر سعة ، وعمقا : ” ورأى قوائم ناحلة كقوائمه ” ص 17 ، بصيغة مزاوجة عنصر الطباق ( قوائم / قوائمه ) ، وهو أسلوب تنزع له نصوص المجموعة المحكومة برؤية جمالية متكاملة الأطراف الفنية ، والمكونات التعبيرية . ويظل العنصر المجازي الأكثر سريانا في أوصال المجموعة ، بحيث يخترق جل النصوص ، ويسهم في فتحها وانفتاحها على آفاق جمالية ودلالية ورمزية متشعبة الأبعاد ، متنوعة المسلكيات ممتدة من أول نص ” سنجاب إتشوتا ” : ” كان يقرأ مسودة الغد في خفقان الظل … ” ص 5، فيصبح للزمان مسودة ، وتغدو للظل ارتعاشة ( خفقان) ، وهما صورتان نحتتا بصياغة تنم عن عُدَّة تزخر بالأدوات والإواليات الأساسية لفعل الخلق والابتكار الشعري في أرقى صوره وأشكاله ؛ إلى آخر مقطع ” تهليلة تعيسة ” من آخر نص “مزولة في ظلمة النزول ” : ” راكبا عاصفة تطل من فج الرجوع !” ص 134، فامتطاء العاصفة ، مع ما تعج به من قوة قادرة على الاجتثات والاقتلاع وإقرانها بفعل يجسد نوعا من النظر (تطل )من مكان ذي حمولات رمزية متعددة (فج) مرتبط بفعل النكوص والإدبار ( الرجوع ) ، مع ما يستدعيه ويلزمه من مقدرات معرفية أدبية متعددة المراجع والمشارب . لِتَطّرِد وتتوالى الصيغ البلاغية على شكل استعارات غزيرة في جل نصوص المجموعة ، بحيث لا يكاد يخلو منها أحدها ، من قبيل : ” ولا يحزنه في منتصف الليل تثاؤب الشتاء … ” ص 9 ، من استعارة التثاؤب لليل ، والشَّعر للنسيم : ” ظلت البتلات تمشط شعر النسيم ” ص 12 ، وارتداء الجمر للجليد مع تضمين خاصية الطباق : جمر / جليد : ” ارتدى الجمر جليدا فضل الطريق نحو الحطب … ” ص 33 ، والحدس لجبة اليقين : ” شاهدة على ارتداء الحدس لجبة اليقين … ” ص 39، وانتعال الأسطورة ، بحمولاتها الرمزية ، للغمامة وما تحبل به من دلالات عديدة كمصدر جود وعطاء : ” أسطورة تنتعل الغمامة … ” ص92 ، وعبور الوشاية للحديقة ، وما يحيل إليه ذلك من إشارات قيمية ، ودلالات سلوكية تحط من قيمة الواشي ، وتزدري مكانته داخل المجتمع ، وارتباطها ، أي الوشاية ، بعنصر التشبيه : ” كوشاية تعبر الحديقة ” ص 104، في إشارة لشكل انتشارها وتداولها بين الناس عبر فعل ( تعبر ) .
ورغم ما قمنا به لإبراز ما تحفل به المجموعة من زخم جمالي تجسد في صور شعرية ، وصِيَغ تعبيرية تنضح جمالية وبلاغة إلا أنه لا بد من الإقرار بصعوبة إيفائها ما تستحق من قراءة مستفيضة تقوم على حسن الاستنباط ، وعمق الاستقراء والتمحيص لما يطبعها من توالد ، على مستور الصور الشعرية ، موسوم بسعة الخلق ، وسلاسة وانسيابية التشكيل والصياغة . كما أن هناك جوانب أخرى مثل السؤال الذي اخترق الكثير من نصوص المجموعة بدءا من مقطع “4 . سنديانة” في أول نص ” سنجاب إتشوتا : ” أتراك تغبطني كما أغبطك ؟ ” ص 8، باقتران ، حسب مارسمه الشاعر من نسق تعبيري ،بطباق : تغبطني / أغبطك ، وحوار في : ” قال لي آسفا : كيف لم أدرك أن للمغار حجابا…؟ ” ص 13، وفي مقطع ” 10.خراب ” مصحوبا بحالة حزن تم تصريفها عبر البكاء : ” قال لي صاحبي باكيا : لم لا تتورم أيامي ؟ ” ص15 ، مع استخدام مكون الاستعارة ( تورم الأيام ) حيث يلتئم السؤال بالحوار بالمجاز لرسم صورة متعددة المرامي والمقصديات ، بل يتعدى ذلك ، أي السؤال ، للتقاطع مع قضايا وجودية / ميتافيزيقية مثل الحياة والموت : ” وهب أن الحياة هي وخز الأشواك الضروري … فما الموت إذن ؟ ” ص 32 ، عنصر الحوار الذي أثث نصوص المجموعة في أكثر من صورة ومشهد ؛ فمنذ البداية يرد في مقطع ” 2. سيل في أول نص ” سنجاب إتشوتا ” : ” وقال لي ساخرا : ها أنت ترى أيها النحات أن الناعورة ماكرة … ” ص6 ،لينتقل من مجال إبداعي ( النحت ) إلى مجال عقدي ديني على لسان القديسة : ” قالت لها القديسة ذات ابتهال … يتهيأ لي أن هذا القطار مثل حبكما تماما … ” ص 100 ، حوارية تتوسل بالسؤال لاجتراح عتبات آفاق بلون المغايرة والاختلاف .
وعلى مستوى الموضوعات يحفل المتن الشعري بموضاعات منها ما هو تاريخي / قومي في إشارة إلى اتفاق أوسلو الموقع بين إسرائيل وفلسطين : ” نحن رتبنا الوليمة في أوسلو ” ص 45، وما تضمنه من قرارات مجحفة ساوت بين الضحية والجلاد : ” كي تغني الضحية والجلاد أغنية واحدة … ” ص 46، والإشارة إلى نيرون إمبراطور روما ، والذي اقتران اسمه بحدث حرق روما: ” وعلى نيرون في بلاطه الضخم السلام … ” ص 70 ، وتاريخي عقدي : ” . أأنت من جزيرة ما زالت توأد فيها البنات ؟ ” ص 69 ، لما عرف عن العرب من عادات ضمنها عادة وأد البنات ، وهو فعل جبه الإسلام وحرمه . وذكر بلقيس ملكة سبأ ، وقصتها مع النبي سليمان : ” جدتي بلقيس كانت في حضن الثريا تنام … ” ص 70، وعرقي بخلفياته العنصرية ، سواء من حيث الانتماء : ” لقد اعتقدت في البداية أنك عربي جلف يدنس قدس صلاتي … ” ص 66 ، أو من حيث اللون : ” أن تحلق في صدر الباص قهقهة زنجية … أو تصدح أغنية سوداء طليقة ” ص 72، في تكريس مفارقة مؤسسة على طبيعة اللون : ” أمام أعين شقراوات واقفات منهكات … ” ص 73 ، لتحديد مفارقة مصدرها اللون ( سوداء ، شقراوات ) ، وما ينم عليه ذلك من نظرة استعلاء حبلى بنزعات كراهية واحتقار ، وفي منحى آخر تعكسه معاناة ناتجة عن الهجرة بالنسبة للمواطن المكسيكي : ” ذلك المهاجر نفسه هو هذا المكسيكي الذي لا يزال حاملا صليبه على ظهره يرسم السوط ناموسه الدموي ” ص 80، بتصوير جمالي ذي حمولة عقدية ( حاملا صليبه على ظهره ) ، وما يتعرض له من تنكيل واضطهاد ( يرسم السوط ناموسه الدموي ) . وما يفتأ الشاعر كذلك ينقل صورا ومشاهد من واقع يعج بمظاهر تكشف تفاقم أورام مجتمع غارق في الطبقية وما تفرزه من حالات عوز وفاقة لدى فئات عريضة مثل ماسح الأحذية ، وبائع السجائر بالتقسيط مقابل نموذج أرستقراطي ( حافر مكابر ) يعيش حالة يسر ورفاه : ” ماسح أحذية في المدخل يُقعي أمام حافر مكابر… يهمس في أذن قرين يبيع السجائر بالتقسيط : تبا لجزمات لامعات … ” ص 46.
فمدونة ” مثل التفاتة ثكلى إلى الوراء ” الشعرية تجربة إبداعية صادرة عن حس جمالي متعدد الصيغ والأساليب ، عميق الأبعاد والدلالات . بحيث تتشابك عناصره وأدواته التعبيرية بموضوعاته ، وتتداخل في تلاحم واندغام عبر صور ولوحات غنية ومتشعبة مما يصعب معه الإحاطة الشاملة بمكوناتها ، والخوض في أغوار خباياها الزاخرة بأشكال الخلق ، وأنماط الابتكار.