بقلم: منال الشربیني
مقدمة: تقدم قصة مرزوق، من حي الخلیفة1 صورة حیة لحي شعبي في القاھرة، مع ما یحمله من تناقضات اجتماعیة وثقافیة، و تعكس تفاصیل الحیاة الیومیة، مشیرة إلى تعقید العلاقات الإنسانیة والأخلاقیات، وفیھا یتجسد توظیفه الأحداث الواقعیة، والشخصیات النمطیة من أجل تسلیط الضوء على كل من الصراع الداخلي والخارجي الذي یعیشه أھل الحي. ومعروف عن معصوم مرزوق أنه كاتب یتبنى توجھات نقدیة اجتماعیة؛ تعكس أعماله التفاوت الطبقي، الفقر، والظلم الاجتماعي في المجتمعات العربیة. تنتمي القصة إلى المدرسة الواقعیة2 حیث تصور تفاصیل الحیاة في حي شعبي مزدحم بالقضایا الاجتماعیة والمشكلات الیومیة. وفیھا یسدد ضربات نقدیة واضحة تتعلق بالفقر والظلم وتضارب الأخلاق.
من منظور النقد التفكیكي الذي طرحه الفیلسوف جاك دریدا، تعج “حي الخلیفة” بالرموز المتعددة مثل “الشیخ التائه”، “حسونة المقص”، “أم زغلول”، و”المأمور”. كل ھذه الشخصیات تمثل حالات نفسیة واجتماعیة ُتظھر ھشاشة العلاقات الاجتماعیة والانھیار الداخلي للقیم.
وأرى، من نفس زاویة دریدا أن النصوص قابلة للتأویل إلى ما لا نھایة، ولا یوجد معنى واحد مطلق للنص3، ومن ھنا، ألج إلى عالم مرزوق، م. حي الخلیفة.
ما إن تصفحت القصة وقعت عیناي على ھذه الفقرة: “…ویعرفه الكبار بإسم ” الشیخ التائه ” ، والسر في ھذه التسمیة مات في اعماق أول من أطلقھا علیه ، وھو رجل مجھول ، وأحیاناً ینادونه ” یاجربان ” ھازئین به رغم أنه لا یحك جلده ولا یھرش .. ینفحونه من حین إلى آخر بعض القروش ، یتقبلھا غیر شاكر ، ناظراً في عین المتصدق بتحد ..”
1 مرزوق، م. حي الخلیفة. 3 Derrida, J. (1997). Of Grammatology. Johns Hopkins University Press.
2 Lukács, G. (1971). The theory of the novel. MIT Press
تعتبر شخصیة “الشیخ التائه” امتدادا لسلسلة طویلة من الشخصیات الوجودیة في الأدب العالمي. حیث یشترك مع شخصیة “المغترب” في روایة “الأجنبي” لكامو 4 في الشعور بالغربة والعزلة عن المجتمع. كلاھما یواجه صعوبة في التواصل مع الآخرین، ویشعر بعدم الانتماء إلى أي مكان.، ویشبھ أبطال سارتر 5 المتمردین الذین یرفضون القیم الاجتماعیة التقلیدیة ویبحثون عن معنى خاص بھم للحیاة. كلاھما یختار الحریة الفردیة على الرغم من العواقب، ومع الإنسان المتأمل في فلسفة نیتشه6 في البحث عن المعنى
والھدف وراء الحیاة. تلعب اللغة دورا حاسما في بناء شخصیة “الشیخ التائه”، وتعمیق فھمنا لھا إذ یحمل اسم “الشیخ التائه” دلالات عمیقة، تشیر إلى حالة الانحراف عن المسار الطبیعي للحیاة، فقدان الھویة والمعنى. وعكست اللغة البسیطة والمباشرة في وصف الشخصیة عمق العزلة التي یعیشھا؛ عملت عبارة ” الحقیبة الجلدیة، ولقب “یا جربان”، على تعزیز عمق الشخصیة وتضمینھا معان إضافیة. وعلى الرغم من بساطة اللغة، إلا أنھا تحمل في طیاتھا قدرا من الشعریة، مما یضفي على الشخصیة بعدا روحانیا فقد جاءت اللغة كأداة لبناء الشخصیة من ناحیة التعبیر عن العواطف والمعاناة التي یعیشھا “الشیخ التائه”، و بناء ھویته الشخصیة، وتحدید سماتھا الممیزة، ولكن، ُترى كیف یمكن أن تتغیر شخصیة “الشیخ التائه” لو تغیرت الظروف المحیطة به؟ ویقول الكاتب أیضا: ” لعنت ولطمت وسبت سنسفیل جدود الكفرة والظالمین والترام ومخترع الترام و … انتعشت تجارتھا في غیاب رجلھا ومعه رجال المباحث ، وأجرت بعض التعدیلات علي العربة فأضافت إلیھا لوحین من الزجاج واشترت باجوراً أكبر .. أصبح المأمور أحد زبائنھا ومعه بعض المخبرین الذین یتطفلون علیھا من حین لآخر … تذكر زوجھا الراحل أحیاناً : – كان … یضیع رزق العیال علي الحشیش .. – أیامه سوداء .. – بركه إن ربنا زاحه …”
4 عمرأ. )2023(. شخصیة المغترب في روایة الأجنبي: تحلیل نفسي. في معلي )المحرر(، دراسات في الأدب الفرنسي )الصفحات 120-145(. دار الكتب الجامعیة: القاھرة.
5 Noiré, G. (2010). Dire la vérité au pouvoir. In Les intellectuels en question (pp. 101). Agone: coll. « Éléments ».
6 Belliotti, R. (2013). Jesus or Nietzsche: How Should We Live Our Lives? Rodopi. pp. 195-201.
لم ا تزل ھذه الفقرة تعكس حالة المرأة المصریة، حیث تتجسد معاناة المرأة وصبرھا وقوتھا في شخصیة “أم زغلول” فقد تحملت المسؤولیة بعد وفاة زوجھا، وواجھت تحدیات الحیاة بصلابة. واستطاعت أم زغلول أن تتأقلم مع الظروف الصعبة التي فرضتھا علیھا الحیاة، حیث حولت عربتھا إلى مصدر رزق لھا
ولأولادھا. الرمزیة في “الكرشة” ھنا لیست مجرد طعام، بل ھي رمز للكفاح من أجل العیش، والصعوبات التي تواجھھا المرأة العاملة، وتنتقد القطعة الأدبیة بعض العادات والتقالید المجتمعیة، مثل لجوء المرأة للعمل في مھن قد تكون غیر مرغوبة اجتماعیاً، وتأثیر الفقر على حیاة الناس. و یظھر في النص صورة عن المجتمع الذي یعاني من العنف والظلم 7، حیث یموت زوج أم زغلول بسبب صراعه مع السلطة، رغم أنه ھو في حد ذاته یمثل الظلم والسطوة والعنف واللا مسئولیة والأنانیة وفق شھادة أم زغلول ضده: ” …تذكر زوجھا الراحل أحیاناً : – كان … یضیع رزق العیال علي الحشیش .. – أیامه سوداء .. – بركه إن ربنا زاحه …” رغم كل الصعوبات التي تواجھھا، تظھر المرأة كقوة قادرة على الصمود والتحدي، لكنھا لم تذكره بخیر في تناقض بین مع لطمھا وصراخھا وثورتھا على المأمور وتعقیبھا على موته: “كان بیضیع رزق العیال على الحشیش، أیامه سودة، بركة إن ربنا زاحه”، في تجسید لمعاناة نفسیة عمیقة مع زوجھا حیا ومیتا. أم زغلول، وھي المعادل الموضوعي للمرأة العاملة عموما، رغم الصعوبات، تستطیع بمفردھا أن تبني حیاة جدیدة لنفسھا ولأولادھا. أما في ھذه الفقرة المفصلیة، یقول معصوم عن المأمور: “…ابتسم في ھدوء .. تصور مذبحة القلعة ، الرصاص یحصد الممالیك .. تساءل : من أي إتجاه قفز مراد بك بحصانه ؟ .. تطلع إلي النوافذ البعیدة .. خلف أي نافذة قتلت شجرة الدر زوجھا بالقباقیب ؟ .. عاد ینظر إلي الناس .. عیونھم مطفأة ذابلة ، أعوادھم ناحلة ضامرة كأنھم تائھون .. و …” تقدم لنا ھذه الفقرة التأملیة لمحة عمیقة في نفسیة شخصیة المأمور، حیث تكشف عن تناقضات داخله وأفكاره المعقدة. یظھر المأمور كشخصیة متناقضة، فھو من جھة یمثل سلطة القانون والنظام، ومن جھة أخرى یحمل في داخله رغبة في العنف والسلطة. ویبرز ھنا التناقض النفسي 8 الذي یعانیه المأمور من
7 Marx, K. (1992). Capital: A critique of political economy. Penguin Classics. 8 Freud, S. (2003). The Unconscious. Penguin Books.
خلال صراع داخلي، عكسه المونولوج الداخلي، الذي تمزق بین دوره كحام للقانون، ورغباته الشخصیة. فھو یظھر اھتماما بالتاریخ الدموي لبلاده، ویتخیل نفسه في أحداث الماضي، مما یشیر إلى وجود جانب مظلم في شخصیته. فھو من ناحیة یرتبط بالسلطة؛ كونه مأمور القسم، ومن الأخرى، یظھر كشخص فاسد یستغل منصبه لتحقیق مصالح شخصیة، و رغم وجوده وسط الناس، یشعر بالعزلة والوحدة، وھو ما یتجلى
في نظراته إلى الناس وكیف یصفھم بأنھم “عیونھم مطفأة ذابلة”. ترمز أماكن بعینھا مثل القلعة، وحقبة تاریخیة مثلتھا سلطة الممالیك، وشخصیة تاریخیة مثل وشجرة إلى جوانب مختلفة من التاریخ والسلطة والعنف. كان مراد بك أحد أمراء الممالیك، وقد لعب دورا ھاما في تاریخ مصر. اشتھر بشجاعته وحكمته، وكان من أبرز قادة الممالیك في معاركھم ضد الغزاة. أما شجرة الدر فقد كانت سیدة قویة وعاقلة، تولت مقالید الحكم في مصر بعد وفاة زوجھا. اشتھرت بحكمتھا وقدرتھا على إدارة الدولة في فترة صعبة. لعبت دورا مھما في مقاومة الغزاة المغول9. تحلیل الشخصیات: الشیخ التائه: شخصیة غامضة ومعزولة تسعى وراء المعنى الروحي، تحمل في داخلھا عالما خاصا لا یفھمه الآخرون. تجسد ھذه الشخصیة البحث عن الھویة والمعنى في عالم مليء بالغموض، وھي تعكس شعورا عمیقا بالغربة والعزلة. أم زغلول، معادل موضوعي للصمود والتحدي في وجه الظلم والفقر. تجسد قوة المرأة المصریة وتعبر عن معاناة الشعب وخاصة الطبقات الفقیرة. ھي أم الأمة التي تكافح من أجل مستقبل أفضل. المأمور: یجسد السلطة القمعیة غیر مبالیة بمعاناة الشعب. یمثل الفساد والبیروقراطیة في النظام، ویسعى لتحقیق مصالحه الشخصیة على حساب الآخرین. حسونة المقص: یرمز إلى القوة الجسدیة المادیة التي تسعى إلى السیطرة على الآخرین عبر العنف والطمع، وھو شخصیة سلبیة تتجه نحو التدمیر بد ًلا من البناء. حسونة المقص ھو رمز للعنف والقوة الغاشمة التي تسعى للسیطرة والتدمیر. یجسد شخصیة سلبیة تعكس انتشار الجریمة وانعدام العدالة في المجتمع. رمزیة العبارات: “لیل في أزقة حي الخلیفة لیس كأي لیل .. أنه ثعباني له كل یوم جدید”: ھذه العبارة ترسم صورة قاتمة عن الحیاة في الحي الشعبي، حیث الخوف والقلق یسیطران على النفوس. “الحقیبة الجلدیة”: كما ذكرنا سابقا، تمثل ھذه الحقیبة الغموض والأسرار التي یحملھا الشخص الغامض. “مسجد الرفاعي”: یمثل مكانا للراحة والسكینة، ولكنه أیضا مكان للتأمل والتفكیر في معنى الحیاة.
.ابن تغري بردي، تاج الدین. )1968(. النجوم الزاھرة في ملوك مصر والقاھرة. القاھرة: دار الكتب المصریة 9
“الكرشة”: تمثل الصراع من أجل البقاء، وكیف أن الناس یضطرون إلى القیام بأعمال قد لا یرضون عنھا من أجل العیش. “المقص”: یرمز إلى العنف والقوة الغاشمة. الخلاصة: تدور أحداث القصة في حي شعبي مليء بالتناقضات؛ الھویة، الثقافة، والجنس10، حیث یتداخل الواقع بالأسطورة. اللیل یلف المكان بغموضه ویكشف عن صراعات نفسیة عمیقة تعاني منھا الشخصیات. تنتھي القصة بنھایة مأساویة تكشف زیف الأحلام المادیة، مؤكدة أن الحیاة ملیئة بالتناقضات، وھي تجسد القضایا الإنسانیة المعقدة، من صراع الطبقات إلى البحث عن الھویة، في مجتمع یعاني من الفساد والعنف.
10 Eagleton, T. (2013). Literary theory: An introduction. University of Minnesota Press.