بقلم: الدكتورة هيام حسين ( مصر )
تجولت كثيرا بين قصائد معنونة ب: “كلمات مبتورة” فأخذت على عاتقي مهمة البحث على المستأصل والمبتور حتى وصلت لرؤيا تختلف تماما عن إسقاطات العنوان. فقد أدركت انه سيقوم بجبر الكلمات المستأصلة وأنه لملم كل كلمة مبتورة ليبرزها في محتوى يجعلها تبدو كلمات رئيسة في شعره. فجمع كل مبتور من حوارات وأسئلة و سلوك لا نستطيع طرحه أو سؤاله لمن يهمه الأمر و لذا فكلماته المبتورة صنفتها لثلاث فئات:
١] نفسية إنسانية ٢] دينية عقائدية ٣] وطنية انتمائية .
أما النفسية الإنسانية تلك التي تعتري النفس من مشاعر حزن، حب، انكسار و على سبيل المثال: ( الغربة-صلاة الليلك) وفيها يتحدث الشاعر عن مشاعر مختلفة تعترم النفس وتسكنها وذكريات ينسب لها كل جميل و حاضر يهزمه ليتركه فريسة للحزن، وغربة ربما تكون تارة اغتراب عن وطن وتارة أخرى اغتراب للنفس) وعند التصريح بما يختلج النفس يصطدم الشاعر بمجتمع ينصب نفسه قاضي و جلاد لكلمات الشاعر فبعضهم يصفه بالجنون وآخرون يرمونه بالمجون. ولكن الشاعر أبى ألا ان يحطم مثلث العيب( تايوهات) اعتنقها المجتمع واعتمدها الفرد رغم أنها تراود كل فرد في كل الأحوال.
وأما التصنيف العقائدي الديني فكلمات الشاعر المبتورة تلك التي يستنكرها كل رجل دين متعصب و تظهر دوما في احاديث المتشددين الذين لا يرون من الدين سوى جنة و نار ويرفضون النقاش او التفكير، وهنا طرح الشاعر وخصوصا في قصيدة ” إلى صديقي الحنبلي وايضا تمرد(بالطيع مع افكار اخرى) فقد تطرق الشاعر بالرمز بالاسم والصفة ف “حنبلي” تقصد الإمام أحمد بن حنبل احد أئمة الإسلام الأربعة و صاحب اكثر المذاهب الدينية تشددا هذا إشارة إلى إسم صاحب المذهب، أما “حنبلي كصفة” فكل شخص متشدد لا يسمح بحوار أو نقاش نطلق عليه سمت الحنبلي. ففي القصيدة يرفض الشيخ أسئلة الشاعر ويوضح الشاعر ان النقاش في هذه الأمور (من وجهة نظر الشيخ) ستوقع السائل في المحظور و قد تؤدي به إلى الإلحاد. و ربما الشاعر نفسه رموه بذاك الذنب لتساؤلاته الكونية الكثيرة متناسيين أن مذهب الشكية لديكارت (١) يوصل لليقين و لولا تساؤلات الانبياء و الصديقين لتلك التساؤلات لما توصلوا لليقين ليس تشكيكا ولكن تأكيدا على سلامة الفطرة : فسيدنا ابراهيم(٢) عندما ظل يتنقل بين كل ما هو فريد وواحد ليعبده تتبعا من الكواكب للشمس توصلا للإله الواحد الأحد، هل اشبع ذلك نهمه لإدراك الحقيقة؟ ابدا بل جعله يطلب من الله أن يراه حتى يطمئن قلبه، و موسى الذي وعد الخضر بالتزام الصمت و عدم السؤال عندما سأله عن خرق السفينة و بناء الجدار و قتل الصبي وانتهى عدم صبره على الصمت بأجوبة منطقية تساعده على الإدراك، (٣)و سيدنا محمد صل الله عليه و سلم عندما طلب الوحي منه ان يقرأ فرد ما أنا بقارئ ، ومن خلال تتبع الادلة المختلفة سأصل لأصل قصيدة تمرد التي فيها يتخذ الشاعر من حب الوطن و الإنتماء إليه عقيدة ترسخ قيمة الوطن كقيمة الدين فسرد كل ما كان للأنبياء من تساؤلات و ما أتى به للرسل من معجزات مثل القرآن الكريم او عصا موسى…الخ وتمسك كل منهم بدين الحق و الواحد الأحد فرغم وثنية مكة و تعذيب اهلها للنبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه قال فيها: ” والله أنك احب البلاد عني ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت” وعندما فتح مكة اعتبر فتحها والرجوع إليها فتحا مبينا و نصرا (٤)عظيما. إذا كان هذا شأن الأنبياء مع الله الخالق البارئ فما بال رجال الدين يكفرون من سأل ويردون بالتكفير على من يسأل؟ أوليس نهج القرآن تفكير وتدبر و تفقه؟ اوليس الحوار يرد ببيان و منطق أنفع و أجدى من الصد و الحجوم عن ال رد واستسهال التكفير لوصد باب المعرفة؟ ابتلينا بذلك مع ان البحث و التفسير يؤديان للإدراك والمعرفة على عكس ما ينجم عن حنبلية الطبع والعزوف عن التفسير؟ العزوف عن التفسير إما لجهل أو تكاسل عن البحث عن الحقيقة. وبناء عليه فقد كانت قصيدة إلى صاحبي الحنبلي قصيدة جامعة لكلمات بترها الحنبلي و جبرها الصوالحة وتمرده على القراءة جاءت كلمات تجبر استئصال الجزع وتسرب اليأس للنفس و كانه يمني نفسه بأن الجبر سيأتي قريبا كما جاء للعابرين بأسئلتهم من قبل و كانه يصر على تتبع نهج الله من البحث والحوار والنقاش كما قال سبحانه و تعالى لنبيه الكريم: ” ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
فالدعوة إلى دين الله تكن بالحكمة وإمعان العقل والدليل والبينة والجدال في قاموس أوكسفورد المترجم :
مُحاجَّة ومُناقشة بين أَشخاص لهم آراء مُخْتلِفة، صِراع في الأَفكار ومُعارضة في المجال العَقْليّ. “جِدالٌ لُغَويّ”
اِعْتِراض على أَمْر، عدمُ التَّسليم به ومُناقشتُه.
“أَطِعْ بلا جِدال”.خِلاف، نِزاع.
ولذا فالجدال امر محمود إن كان الغرض منه ترسيخ وتوضيح و معرفة ويكون مذموما إن كان عقيما او كان بغرض التسويف أو تضليل عن الطريق الأمثل. هذا منهج الله و كلمته في كتابه العزيز . ارى ان قصيدتي تمرد و إلى صاحبي الحنبلي مثال جلي على دعوة الشاعر لإمعان العقل و فتح نوافذ للحوار والنقاش دون أن يقمع فكر او يصادر على تساؤل فذلك ما سخرهم رب العالمين لفعله.
ونأتي للقسم الإنساني و فيها يعبر الشاعر عن حالات نفسية تشكل وجدانه، فمن منا لم يمر بلحظات حب او كره او غضب او يأس، من منا لم تشقه الايام من لعنة تحول الظروف و من منا لم تغربه افكاره عن محيطه، وربما عن نفسه أيضا فقد تدفعنا افكارنا احيانا للانعزال عن المجتمع لأننا ان صرحنا بها سننبذ، من منا لم يكسره موقف او لم يخذله قريب او لم يتجاهله صاحب؟!!!
إن الصوالحة بكلماته المبتورة ابدع في خلق كيان من جسد معافى علته مجتمع و آفته حكم يصدره بشر و علته في عقول تأبى إلا ان تقتل الكلام وان تسيء تأويله… شكرا جزيلا للأستاذ محمد صوالحة لإرساله تلك الكلمات المجبورة بقلمه والممهورة بفكره.
د. هيام حسين
مراجع:
١] فلسفة ديكارت ومنهجه، تأليف: مهدي فضل الله، ط3-1996-بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر
٢] القرآن الكريم- تفسير ابن كثير- تفسير سورة الأنعام- آية ٧٨ – المصحف الإلكتروني
٣] أسئلة سيدنا موسى و الخضر المصدر: الإسلام سؤال وجواب
٤] تفسير ابن كثير- النصر ١
٥] القرآن الكريم- تفسير ابن كثير- سورة النحل- الآية ١٢٥