– استــهلال :
نستطيع القول : إن الاستعارة شجرة متأصلة ؛بعمق ؛ في
الصحراء . و الأدلة على ذلك
غير معدومة . ولأن الإستعارة أرقى حالات التعبير الكلامي
عن الوجدان وعن الفكر ؛فإنها
في هذه الحالة ؛تكون قد أطرت حضور المعنى في التاريخ
وفي فعل الإنسان . ولكونها
خلاصة فنية راقية للفكر و التفكير فإن الشعر سيظل اللغة
السامية الأولى التي لن
يطولها المحو أو النسيان .. ولأن الصحراء فضاء شاسع لا
يعترف بالفراغ وإن كان جزء تراه
العين ؛ومع ذلك فإن الفراغ ليس حاضرا البتة فيه ؛ وإن
حضر فإنما للإمتلاء بحكمة البيداء.
هنا يتلاقى التأمل ؛من خلال الشعر؛ و رحابة المكان ليكون
الإبداع ديدن الحياة .
1- الشعر فاتحة الحياة:
ليس الشعر ماكان تنظيرا من كلام حراسه و مبدعيه على حد
سواء ؛ ولكن الشعر نفس
من أنفاس الحياة .أي أن الحياة في أصلها أنغام موقعة على
أنامل اللغة . وما استقام
منها ؛من الروح الإنسانية و تعالى في الأفق ؛ أضحي معلوما
حد الاسطورة .كان
لزاما أن يصير له شأن كبير في الحياة . فقد تجاوز هذا
الحضور أن يكون مجرد تكرار أو
استعادة لحظة ماضية . بل صار أنشودة الحياة ترى مطرها
قادما من الذات ومن ما
وراء الذات . فكان الشعر, في هذه اللحظة ؛تجاوزا للعتمات ؛
بما هو خلاص و منعطف
للفكر و الوجود الإنساني .
ولأن الشعر يعلم عشق الحياة ؛ فقد كان المغزى منه أن يقود
إلى معرفة الإنسان ؛
والتحقق من هويته ،وأن يكون سؤاله الحقيقي في الحياة ؛
فاستطاع الشعر أن يشيع
في العالمين أن الفن أساسه الحقيقة ،وأن الحقيقة جميلة في
ذاتها و في ماهيتها ،
وأن الشعر ، نفسه، قوة جمالية تحقق فرادة في الكون ،
وتفضي إلى دلالة على التفكير
السوي . وأن الأصل أن نكتب بعشق وجودنا . أي أن
استحضار الغياب في الآن ،وكتابة
الآن غيابا هو تعميم العشق في الحياة ،وفي الخيال ، وبذلك
يتلبس العشق الحياة ،
فتكون كتابته شعرا تجسده كلمات وأيقاعات .
2- الصحــــراء معقل اللغة :
للصحراء ،في أفهام الناس ، توصيفات شتى وتمثلات
متباعدة ،لعل أهمها أن الصحراء
مكان قاحل ، منتهي الصلاحيات ،الحياة فيه شظف
و مسغبة . و من ثمة فإن الفكر
أو يقاربه مظنة وقياس لا قياس له. لكن الحق غير ذلك بتاتا ،
فالصحراء ملاذ الكلام ،
و حاضن اللغات . فيها يستوى التلفظ على حد الصفاء ، وتنمو
الكلمات على منبع
البساطة . وينبني المعنى على العمق و التغور بين الشمس
والظلال .
تمنح شساعة الفضاء التأمل الواسع للأنسان أن يرى ملء
البصر فضاء غير مشقوق
ولا مكسور . وأن يعمل البصيرة ، وليس البصر ، في التتبع
والاستنارة بالموجود كي
يعلم ، بالفطرة ، ما انطمر و غاب عن إدراك العين . في
الصحراء ، وحدها ، يتعلم بالعين
والأذن من دون تفاوت بين السمع والبصر . يقر في سمعه ما
تراه عينه ، ويتصور في
عينه ما تدركه أذنه . فكانت الحافظة أو الذاكرة قوية عن
روية و تمكن .
ولأن الصحراء فيض كبير من الزمن .بل أن زمنها مختلف عن
كل الأزمنة فقد كانت اللغة
هي الأداة الوحيدة لتقييد ذاك الزمن ،وتدوينه على كف
الحضور لا العبور .
يظهر هذا المعنى في قول طرفة بن العبد البكري عن الموت :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ……….. عقيلة مال
الفاحش المتشدد .
أنظر كيف رأى الشاعر البدوي الموت وكيف قلب فيها النظر :
الموت يعتام (يختار) الكريم
الجواد لأنه لا يملك إلا نفسه وليس لديه ما يذخره ليبقيه
للموت ، ولكن البخيل
المتفحش من كثرة حرصه على المال فإن الموت إن زاره يجد
ما يرزئه فيه لحرصه على
ماله . ولذلك يموت الكرام ويبقى اللئام ..وكثيرة هي الشواهد
الدالة على تمثلات الزمن
عن أهل البدو شعرا ونثرا .
ولأن اللغة مسكن الوجود ، كما يرى هيدغر ، فإن الصحراء
ظلت المعقل الأرحب لهذا
الوجود.أي فيها كان الاستقرار الأول للكلمات و الأشياء ، وإن
ظل ديدن الإنسان فيها
الترحال و التنقل بحثا عن الحياة ، وتجديدا لأنفاس الروح .
وقد أملت العلاقات الجامعة
بين الإنسان والحيوان ,مفترسا كان أم أليفا ؛ أن يستأنسا في
العيش ، وينتظما في
تكاملية للحياة , و أن يقتربا في الوجود . ففي الصحراء لا
وجود للصراع من أجل البقاء أو
النفي من أجل الحياة . فيها التساكن والتجاور على حد
سواء . يقول الشاعر القديم :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب بالذئب إذ عوى …… وصوت
إنسان فكدت أطـــير.
تظهر هذه العلاقة الجامعة بينهما الأريحية و التودد لا التنافر
أو التنابذ .. وهي وضعية لا
تكون إلا الصحراء تكاملا و تواطؤا .
3- في المعنى وكتابة المستقبل :
لن يكون المعنى محصورا في الانتماء الضيق لهذا الفضاء أو
ذاك ، ولكنه مبثوث في كل
أرجاء الإنسان . أي أن المعنى صناعة إنسانية وليست ظلا
لحيز معين . ففي المعنى
يكبرحجم التفكير بصوت عال و متزن عن المستقبل . أي
المعنى سيظل حضورا بين
الثقافات .. ثقافة البحر ، و تقافة الصحراء، ثقافة المدينة ،
وثقافة البادية . هذا الحضور
لا يعيش في زمن الحياة فحسب , وأنما يعيش في الأبدية .
أي أن التقوقع و كل أشكال
التطرف ، وكذا كل علميات المحو للعولمة لن تكون قادرة على
طمس الجمال الآتي من
سدرة الشعر ، سدرة الإنسان . وبالتالي فكل أشكال العتمة
التى تأتي قسرا لن يكون
في مقدورها عسكرة الفكر والوجدان لصالح الخراب أو شيوع
الغبار على العالم .
إن الشعر ،بما هو جمالية إنسانية ، والصحراء ,بماهي فكر
منفتح ،وحدهما القادران على
إعادة ترتيب شؤون الحياة , و البناء المناسب في الزمن
و المكان الدالين على كلام وقول
نبيلين .. ليعرف الأنسان حدوده ، ولتكون كلماته شواهد على
نبوغه وحضوره المائز بين
الكائنات .. من ثم استحق سجود الملائكة له لأنه المعجز
بكلمات ربه .. ( وعلم آدم
الأسماء كلها …) الآية .