كتب إبراهيم موسى النحَّاس:
الشاعر في دروب الحياة يرى ببصيرة عقله وتكوينه الثقافي وحِسِّه الإبداعي ما قد لا يراه آخرون, من هُنا يأتي دور الشاعر في المجتمع, وتظهر قيمة الشعر المعرفية والجمالية في الحياة, وفي ديوان ((على هامش النبض)) للشاعر كمال عميرة يقدِّم لنا نموذجًا لتلك الأبعاد المعرفية والجمالية, تلك الأبعاد المعرفية التي ترتقي بالهامش ليحتل صدارة المشهد, وينتقد المتن- من واقع سياسي واجتماعي- ليحيله إلى هامش, ويسمو بالكتابة سموًّا تجلّى في طرح ذلك السؤال المعرفي الوجودي حول وظيفة الشعر وكنهه وأهميته, فيقدِّم لنا كلَّ هذه التساؤلات الشائكة مقترنة بإجابته عليها في تصدير الديوان بتقديم شعري من تأليفه حمل عنوان “مقدمة لا بُدَّ منها” يقول في جزء منه:
((أكتبُ…..
كي أنسجَ من خيوطِ الشمسِ تباشيرَ الفجرِ الذي يلوِّنُهُ الغروبُ… ويرميه لعُمْقِ اليَمِّ والشفق الذارف دَمْعَهُ..
فتحتُ اليراعَ.. سينبتُ دومًا حرفًا للفرح… يسندُ ظهرَهُ لطهر الأمواج والجبال….
لكل الأشياءِ الحلوةِ في صدري..
علّهُ يدركً لونَ الماءِ..
سآخذُ دَوْمًا رائحة الخوفِ…
عجينَ البدايةِ…. لهفة الاندهاش…
صرخة الألم… لأواصلَ المَسِيرِ.
ولو علي رئتي..))
ينبع هذا البُعْد المعرفي والجمالي من رَفْض الذات الشاعرة المثالية هذا السقوط المريع في قيم الزمن على حدِّ تعبيره في قصيدة “حرفُكِ شوكة في القلب” حيث يقول:
((خرافية النبض أنتِ..
ملائكية الوجع
تتشعَّبُ فيكِ الأبجدية
تخرجُ من كهوفِ الانتظار
شلالات من حَرْفٍ مُتدفِّقٍ
مُتسارِعٍ..
يُنبئ بتساقطٍ مُريع لقيم الزمن..))
إنَّه هذا الشاعر المهموم بالوطن وقضاياه, ذلك الوطن الذي دفع الشاعر لينثر حروفه وردًا من أجله, ليتجلى الحُب العظيم للوطن رغم قتامة المشهد أحيانًا في قصيدة “نشيد القبَّرات” وبدايتها بتلك الآه المؤثرة في نفس المتبقي حين يقول:
((آه يا بلادي الحبيبة
قالها المجنون وانزوى..
يرسم أطيارًا في قفص الرّيح
يرسم وجعًا بَرِّيًّا يطلعُ من غفوته
كما قصبِ السُكّر
يصعدُ فيه نحو قمر مشنوقٍ
جاء يشرق فلم يجد أفقاً
والقادمون على أجنحة الغربانِ
يمتشقون غيما خائفاً
يخيطون لنا كفنًا
مَرْويًّا بالضحكات)).
وتظل الذات الشاعرة متمسكة بالأمل وبالمستقبل المشرق الجميل الذي يليق بكل هذا الحُب لذلك الوطن الذي يستحق ما تحمله له القصائد وصاحبها من هذا الانتماء، هذا الأمل الذي ينبثق نوره في قصيدة ” ” حيث يقول:
((تعالي نجلس القرفصاء على أرصفة الحلم
نعلم طيور عشقنا
كيف تُحَلّق وتُغرِّدُ في غابات القلب
مؤمنين بأنَّ ما مضى لن يعود..
وأنَّ ما سيأتي سيكون مورقا كالصدى
شاسعا كالمدى
عابقا كالشذى))
كما نجد توظيف السؤال الذي يحمل في حقوله الدلالية بين وجع الذات وألمها مع الإحساس الواعي بهموم هذا الوطن، فيقول في قصيدة” تيهٌ في الممالك”:
((ماذا أفعلُ ؟؟
وذئابٌ كُثرٌ تتجمهرُ حَوْلِي
كي أنفى
ودَمِي.. فوق قميصِ الوقتِ
ينظرُ حَوْلِي
وأنا فِعْلٌ..
يضيعُ بين ذئابِ المشفى
أحملُ أحلامًا تسخرُ مِنِّي
أحلامًا مشرعة علي الأنباء
طفحت عُمْرًا..
ثم انطفأت منها الأسماءُ
تحت رماد مدن منثورة وجعًا
تداخلت فيها الأشياء)).
وعلى مستوى الخيال نلمس توظيف الشاعر للصورة الشعرية الجديدة المبتكرة كتلك الصور الشعرية في قصيدة “تأتين كأحلام شاهدة” والتي يقول فيها:
((أركض نحو التلّ المُمتدِّ….
مسمارًا في جسد الدمعة…
أقترض زادًا للفلوات…
ألتقط نبضًا مخلوطا من إسفلت الطرقات..)).
من هنا فنحن أمام شاعر يحمل رؤية معرفية تجاه واقعه ومجتمعه في قصيدة جاءت مفعمة بحب الوطن وتقوم على توظيف السؤال الذي يعكس القلق الوجودي في قصيدة طويلة قامت لغتها على روعة الخيال والتجديد في الصور الشعرية.