أدب السجون واحدٌ من الاتجهات الأدبيّة في الموروث العربيّ ، والحديث منه خصوصًا ، ورغم أنّ ارهاصاته ممتدّة الجذور ، كما عند الحطيئة وفراخه ، وأبي تمّام وحمامته وغيرهما ، إلّا أنّ فضاء السجن تجلّى تجليًا كبيرًا في أدب المحدثين ، لا سيما في الرواية ، التي بحكم بنيتها وسرديتها أتاحت له مساحة شاسعة ؛ لأنّ هذا النوع يحتاج لفضاء أكبر من الشعر القائم على التكثيف والإيجاز ، فأصبح هذا الاتجاه مرتبطًا بالرواية .
عبد الرحمن مُنيف (1933-2004م) يرصد في روايته ” شرق المتوسّط ” أثر ومخرجات السجن على النزلاء ، فيتتبّع الأثر الذي خلّفه السجن في البطل (رجب إسماعيل) وهو أثرٌ نفسيّ أنتجته العذابات الجسديّة ، إضافة لخيبات أخرى وجدانيّة وعاطفيّة ، كتخلّي محبوبته (هدى) عنه ، وموت أمّه عذابًا وشوقًا لرؤيته حرًا خارج قلاع الموت الحي ، وتوقيعه الورقة الملعونة ، فالرواية تبدأ من حيث النهاية ؛ نهاية السجن ، إذ إنّ القارئ يتوقّع أنّ نقطة البداية هي الولوج إلى تلك القضبان ، لكنّ منيفًا يشرع بروايته التي أرادها جديدةً في كلّ شيء من على متن الباخرة(أشيلوس)التي أقلته إلى أوروبا طلبًا للعلاج من الروماتيزم ، ثمّ عاد وأضاء عوالم ومتاهات السجن بواسطة تقنية الاسترجاع “flash bake”.
بنى منيف روايته على مسارات ثنائيّة ، في تناوب بديع ، فالرواية المكوّنة من ستة فصول ، روى رجب ثلاثة منها ، والأخريات سُردْن على لسان أخته (أنيسة) ، وكلاهما راويان مشاركان للقصّة نفسها ، فرجب عندما يتحدّث ، يتحدّث عمّا أصابه ، وكذلك أنيسة تتحدّث عن أخيها وما ألمّ به ، دون التطرّق لأحوالها الاجتماعيّة مع زوجها وأولادها ، واختصّت الجانب النفسيّ فقط ، بينما تولّى رجب سرد العذابات الجسديّة والنفسيّة كلّها.
وثمّة تناوب آخر في جزئيّات البطل المحوريّ رجب ، وذلك عندما كان يسرد ماضيه الأليم ، فيتحدّث في بادئ الأمر إلى (أشيلوس) ثمّ فجأة ينتقل للحديث عن عذابات السجن ، في عمليّة ربط سرديّ بقرائن نفسيّة ، فيأخذ المشهد من ظهر الباخرة ، ويسقطه على ما مرّ به في المعتقل ، فيتذكّرها ويوازن بينها وبين ما رآه من حريّة على متن الباخرة ، وهذ جزءٌ يسيرٌ ممّا في أوروبا ، لكن هاجس السجن ظلّ يتربّص به ، لا يدع له شمّ رائحة الحريّة رغم البعد الجغرافيّ على الأقلّ.
الفضاءات الجغرافيّة والزمانيّة كانت مبهمة ، وكذلك الجلّادون ؛ ليرمز لكلّ طواغيت الشرق العرب ، وليتحدّث بلسان كلّ شرقيّ مسحوق ، أو ليترك للقارئ البحث عن زمان الحدث ومكانه والتنبؤ به ، وذلك عن الطريق التعميم الجمعيّ ، مع أنّ المكان الروائيّ معروفٌ في خطوطه العريضة ، فالمكان مكانان ؛ أحواض شرق البحر المتوسط و أوروبا ، والزمان مقسوم على فترتَين قبليّة وبعديّة؛ قبليّة بفعل الاسترجاع ، وبعديّة في إطارالسرد العام ، بمجمل خمس سنوات وما يربو عليها.
الشخوص أيضًا على صورتَين ، حامدٌ مسالمٌ ، لا علاقة تربطه بالسياسة ، ثمّ ثائرٌ غير آبهٌ لتبعات السجن ، بلّ محرّض لرجب على العناد وعدم العودة ، فيصبح نزيلًا بديلًا عن رجب، وهدى محبّة عاشقة مُخلصة ، ثمّ تتحوّل رويدًا رويدًا لتصبح غريبة، فتتزوّج وتنسى رجبًا ، والأم اللائمة لابنها على ما يقوم به في صغره وحرّيته ، ثمّ تصبح السند والداعم الرئيس له في السجن ، والموصية له بالوفاء والقوّة وتموت على ذلك ، كما أنّ رجبًا ظهر بصورتَين متناقضتَين ، حالة القوّة والعنفوان ، ثمّ الانكسار والهزيمة ، وأيضًا شخصيّة الأخت المتهوّرة والطائشة أحيانًا في ظل وجود الأمّ، انقلبت تسعين درجة ، حيث تسلّمت الحقيبة التي كانت تشغلها الأم، إذ إنّ الصورة الثانية كانت سلبيّة في معظمها ، إلّا صورة الأنثى أمّا وأختًا .
لم يكتفِ مُنيف بالتناوب في البناء السرديّ فحسب ، بل امتدّ إلى التقنيات الفنيّة ، بين الاستباق (الاستشراف ) والاسترجاع ، ففي الفصل الذي كان يرويه رجب ، كان الاسترجاع منارة على دهاليز الماضي القريب والبعيد ، بينما كانت أنيسة تستشرف الحدث قبل حدوثه ، كالسفر إلى (مرسيليا) تمّ يأتي به رجب لاحقًا كحدث في موضعه التسلسليّ ، الأمر الذي يشير إلى تعدديّة السجن ؛ سجن السياسة ، وسجن النفس في زمنَين متلاحقَين وغير متباعدَين .
إنّ السرد القائم على هذا الثنائيّات يستبطن موازنة ما بين الشخصيّات وأحوالها ، ويعين الكاتب على تقديم صورة نمطيّة عن مآسي السجن وتبعاته على المساجين وذويهم ، فالثنائيّة الضديّة أو الموازية عنوانٌ كبيرٌ في رواية شرق المتوسّط ؛ لأنّ من خصائص أدب رصد لنفسيّات المساجين قبل وأثناء وبعد السجن ، فقد استطاع عبد الرحمن مُنيف أن يؤسّس لهذا الاتّجاه ، بل يؤسّس لهذا الفن ويوطّن أركانه ، ليصبح ديوان العرب الأوّل.