النص:
عمت مساء أيها الغريب
وطاب مساء ليلك الوحيد
متأخّرا يجثو على ركبة صمتك
ويدنو بك حليما
وعلى مقاس كل نهاراتك الغائمة
يأتي إليك
وبكفّه المغرورقة حياء يمدّ لك
بأستار الفجر على عجل..
ما أكرمك يا ذا الليل
القراءة
سأشرع في استنطاق هذه الومضة الشعريّة وأنا لا أعلم ما ستبوح به ولا ما سيكون من أمر العلاقة بين مظهرها ومخبرها.
تبدو للوهلة الأولى حوارا أحاديّا بين متحدّث لا يكشف عن نفسه “الشّاعر” و ” الغريب “.
” الغريب ” عبارة تحمل تركيبة متضادّة بين مبنى يَرِدُ معرفةً ومعنى يفيد التّنكير، ليتأطّر الحوار مع طرف معلوم مجهول، مألوف مستجدّ. وهو ما يسِمُه بالغرابة قبل الغُربة.
الاحتفاء بهذا الغريب يأخذ حجما استثنائيّا إذ هو لا يتوقّف عند عبارة ترحيب واحدة بل عبارتين: “عمت مساء ” و ” طاب مساء ليلك”، عبارتا ترحيب تتكرّر فيهما كلمة ” مساء ” ويبدو أنّ صورة المساء ستنسدل على باقي القصيدة فتصير ” نهاراتك غائمة ” ويصير للفجر ” أستار ا ” وتتكرّر كلمة ” اللّيل ” مرّتين، إضافة إلى ” أستار ” و ” حياء ” بما فيهما من إيحاء بالعتمة.
بحثتُ طويلا عن النّواة التي تحرّك مفاصل هذه الومضة فلم أجد أهمّ دورا من ” ليلك الوحيد ” الذي سيوصف بالحال ” متأخّرا ” ثمّ يكتسب شرعيّة تملّك الأفعال من قبيل: ” يجثو ” و ” يدنو ” و ” يأتي ” و ” يمدُّ “. وهو ما يخلق علاقة تتّسم بحركة خفيّة بين “الغريب ” و “ليلك الوحيد “.
وبالرّجوع إلى أفعال النّواة:
ـــ ” يجثو على ركبة صمتك ” تتبيّن صورة مركّبة من عناصر عديدة: ” يجثو ” بما فيها من تعبير عن الثّقل + ” صمتك ” بما فيها من تعبير عن تعطّل الكلام+ “ركبتك” بما هي دليل على تمفصل ما بين عنصرين. وقد وردت كلمة ” ركبتك” كمفصل في حيّزها من الجملة وفي دلالتها كواصل بين ” يجثو ” و ” صمتك ” باعتبار اشتراكهما في الدّلالة على عجز ما.
ــ ” يدنو ” وهو فعل يختزل شعورا أكثر من دلالته على حركة لأنّه جاء بمعنى التقرّب خاصّة وقد دلّت الحال ” حليما ” على ذلك المعنى الوجدانيّ. إلاّ أنّ حرف التّعدية يبدو غير محكم لأنّنا إن قلنا “يدنو بك” فعلينا أن نذكر مفعولا ثانيا بالضّرورة: ” يدنو بك من كذا “. وعليه فالأسلم أن نقول ” يدنو منك حليما ”
ـــ ” يأتي إليك ” بمعنى يسعى إليك، وقد ذهبتُ إلى هذا المعنى لما في بقيّة الجملة المتعلّقة بالفعل من فيض تعلّق وجدانيّ في ” على مقاس نهاراتك الغائمة ” التي تخرج بالنّهار من وضوح الواقعيّ إلى غموض النّفسيّ.
ـــ ” يمدُّ ” فعل محوط بحالين: ” وبكفّه المغرورقة حياء ” …. ” على عجل “، وهو تأكيد لما ذهبنا إليه آنفا من نزوع القصيدة إلى التجرّد الوجدانيّ والتطهّر العاطفيّ على خطى مريد صوفيّ.
غير أنّ حرف التّعدية يحتاج إلى تعديل ” يمدُّ إليك بِــــ ” حتّى تصبح للمفعول الثّني ” أستار ” دلالته المشبعة المتناغمة مع سائر ظلال معنى المساء.
تنقفل الومضة على جملة تعجّب يفاجئني موضوعُها باعتبارها جاءت تمجّدُ اللّيل/الظّلمة/أعماق النّفس، لتؤكّد حركة الانكفاء/الارتداد/الرّجوع إلى الذّات، تمجيدا يجبرنا على استئناف القراءة من البداية بحثا عن فهم مختلف حاول الشاعر أن يوجّهنا إليه.
الاّ أنّني وددتُ لو أنّ حرف النّداء كان: ” يا أيّها ” عوضا عن ” يا ذا “، لأنّ ” ذا ” يستعمل نعتا للوصف لا للنّداء. الاّ إن كانت الشاعرة تقصد تعيين وتخصيص ” الغريب ” بأنّه ” ذو اللّيل ” أي صاحب اللّيل.
ختاما:
قرأت الومضة مرّات ومرّات، وها أنّني أفكّكها بحثا عن “غريب ” ما تتألّف صورته من انصهار المتحدّث فيه، وقد استطعتُ رؤية بعض ملامحه وهو حائر، في الزمان بعيدا عن زمن حياة النّاس في مطلق اللّيل، وفي المكان دون قيد رغم ما يبدو من تعطّل ” ركبتك ” عن الحركة.
حيرة تراوحت قرائنها بين الوجوديّة والصّوفيّة فماحت إلى الثّانية بحكم هيمنة المعجم الوجدانيّ الأخلاقيّ: ” حياء ” و ” أستار “. إنّها إلى ذلك حيرة الأنثى/الأمّ، وما يجعلني أذهب إلى ذلك هو ما ساد الومضة من عتمة تتحرّك ضمنها العناصر، وهو إطار لا يمكن أن يكون غير رحم يعيش حركة نموّ ما استعدادا لمخاض فولادة.
استعملت عبارة الشّاعر عبر هذه القراءة، أمّا الآن فيمكنني أنّ أعود على أعقابي فأقول ” الشّاعرة ” وقد صرتُ متأكّدا أنّ الكاتبة أنثى. وهذا دليل آخر لما سبق أن بيّنته في دراسات أخرى من كون علاقة الشّاعر باللّغة عموما هي علاقة تتّخذ بعدا جنسيّا عميقا وتقوم رمزيّا على اللّقاء/ العشق/الفناء ومنه الحمل ثمّ الولادة. القصيدةُ في كلّ الأحوال نتاجٌ/وليدُ علاقة بين الشّاعر واللّغة لا محالةَ.