وقفة نقدية مع ديوان أغفو في ثياب أبي للشاعر المصري ناصر رمضان عبد الحميد

لصحيغة آفاق حرة 

بقلم : الباحثة جميلة حمود

ميشغن – الولايات المتحدة )

__

-يدخل القارئ إلى رحابِ الشِعرِ من بوابتِه .. فَمهما تفاوتت مضامين الكتب يكون العنوان بِمثابة “بطاقة الهوية” للمنجز .. وفي أغلب الأحيان يصبحُ إسم الشهرة للكاتبِ على حدِ السواء.

– لِذا ، من البديهي أن يكون الجذب  لما تقع عليه النظرة الأولى الخاطفة للعينِ المثقفة ، والمترعة بالتلقائية.. هذه العين المُروَضة على الاقتطاف الدقيق  للفكرة المركزية والرؤية الشمولية لأي مُنجز إبداعي.. وأن  يكون  العنوان هو الميزان والحَكَم لِما بين المضامين السطحيةالمبسطة أوالفلسفية المعقدة .

– يقول المثل العربي

“يُعرف الكتاب من العنوان”

ويقول الأميركان:

« ‏Don’t judge a book by its cover »

“لا تحكم على الكتاب من عنوانه”.

– ومن المعروف مُجملاً..  أن أروقةَ الأدب والمنصات الثقافية هي أول من ينطلق منها أصوات التعبير عن الانفتاح والتحرر، ودعاة التغيير  والتجديد.. ونجدُ أن البعض يرفضُ كل ما هو تقليدي مُباح ويحاول استبداله بكلِ عصري متاح.

ومَن منا لا يذكر رائعة إحسان عبد القدوس

(لن أعيش في جلباب أبي) حيثُ نرى بطل الرواية يرفض الموروث السائد ويسعى لتطويرِ عيشِه بما يتلائم  مع تطور الأحداث العصرية .

– فَكيف بِنَا إذن.. بعد هذه التوطئة والعالم  يقف على تخومِ المريخ ثم يّدهشنا الشاعر ناصر رمضان بِمنجزٍ  شعري  جديد بعنوان له خاصية الجذب والتفاعل..

 

“أغفو في ثياب أبي”

فماذا يا ترى سنجد طيّ هذا الديوان..  سوى مكوناتِ ونصوص تؤكد على ثوابت التمسك بالقيم والموروثات الثقافية التي يطمئن لها الشاعر  وتهبه الراحة والسَكينة

فيقول:

….

ولي قلب

أقاسمه

هموم العمر

أغفو ”

في ثياب أبي ”

أنام غربتي

نغماً

وأغفو

وأكتب قصتي

شعراً…

وتجد أيضاً في ( جعبتهِ ما لذَّ وطاب..)

– فأية طمأنينة يستشعرها المرء  أكثر من كتفِ الأب يستند إليه في الشدائد ويستنير ببصيرته في متاهات الحياة ويأنس برضاه حتى بعد الممات ..

إذن ،  دعونا نشدُّ الرحال

إلى سَفرٍ  في سِفرٍ

تُزهر فيه براعم الحروف.  وتزدهي فيهِ النصوص بِتمثلات شعرية مُلونة أشبه بِلوحات تشكيلية شفيفة المضامين والدلالات.

– في الإطار العام نجد أن الشاعر اختار شعر التفعيلة كمنهج لنصوصه .. فهو لا يعتمد المبالغة في الانزياحات ولا الاتكاء على الرمزية والاستعارات إلا بما يخدم الصورة في المُتخيل . وأكثر ما يلفت في أسلوبه هو اعتماد البساطة والعفوية التلقائية والإبتعاد  عن الترخيم  والتفخيم.

كما نجد في هذه القصيدة :

….

أرتل سورة الفجر

أصلي بين نهديك

وأركع دونما أدري

سجودي في الهوى

فرض

وأحفظ سورة

العصر

وأقسم أنني

عبد

أقوم الليل

للسحر

أحج البيت

معتمرا

وخدك قبلة

الحجر.

هذا الاختيار الدقيق للمفردات  وتوظيف الفعل المضارع في هذه القصيدة، كما يتكرر ذلك في معظم النصوص .. أرتل ، أصلي ، أركع، أقوم، أقسمُ، أحج ..إنما يعكس انفعالات الشاعر وإصراره  على استمرارية المشاعر  و انسجام اللغة والصور أمام ناظري القارئ فَيصل بالتأمل .

– إنَّ قيمةَ التكامل الجمالي تتوقف على مقدار الانسجام الذي يمتاز به  المنتج الأدبي من خاصية الجمال والإبداع.

وهذا قصيدة نموذج

 

للبحر ذاكرة الشجن..

…..

هل تذكرين البحر؟

أذكره بلا أعتاب

فلا جدرانه سجن

ولا أسلاكه أبواب

ولا حيطانه حجر

ولا حراسه أغراب

والآف من الأحلام

فوق سفائن الذكرى

تطل الشمس

من عينيك

أرقبها تداعب

جنتي الخضرا

يهل الفجر

من شفتيك

أرمقه يراقب

لوعتي الحيرى

وأنهار من الآلآم

تحت صحائف

الذكرى

فلا أحلامنا

ترسو

ولا آلامنا تخبو

يعانق بعضها

بعضا

…..

– يُبْرز هذا النص إنجازاً فنياً وتفوقاً إبداعياً وافياً .. ويمتاز  بالإنسجام والتكامل .. من حيث الإطار الشعري  هو أقرب إلى المقطوعات التي تشبه السوناتا في الشعر الغربي.

– وبالإضافة للقصائد الوجدانية وقصائد الحب كان دائماً للشعر الوطني مقاماً مكثف الولاء في إبداعات الشاعر .

…….

ومن مصر

أنتِ النور

في حضنها

ما زلت طفلا

أرقب الدنيا

صغيرة

ما زلت عيسى

رغم أحلامي

الكبيرة

هزي إلى

بجذع حبك ..

ولماذا لا نرافق الشاعر ليعبر بك بِقصيدة تنطلقُ من نهر النيل على متنِ مركب فرعوني .. فوق هامات النخيل ..  على أمتداد الجغرافية في الوطن العربي.. إلى السهولِ  في بقاعِ لبنان.. لِيحملك النسيم وتحط بكَ الرحال في نهاية الرحلة على تلالِ فلسطين في أعلى الجليل

_ كما جاء في النص:

لبنان صوت البحر

صوت الحسن

صوت الحب

صوت الماء

صوت الناي

في همس

الأصيل

هي بلبل

الشرق المغرد

فوق هامات

النخيل

وإذا تعطرت الخلائق

فاح عطر

الأقحوان

من البقاع

إلى الجليل.

-يتسم هذا النص بخصوبة المشهدية الشعرية  وكثافة صورها المتحركة.

لبنان .. صوتٌ البحر .. الحب.. الماء .. الحسن .. الناي .. هامات النخيل .. إلى هضبات الجليل..

تتفاعل الرسومات  فتنشط الرؤيا في المخيلة.

– يقول الأديب الفرنسي بودلير أحد رموز الشعر في الأدب العالمي ” الشعر  سحر  إيحائي”

تماماً .. فالشاعر المتميز هو كما شاعرنا الناصر..  يكتبُ بقلمِ القلب فتنساب مفرداته بسهولةِ تَدّفق الماء

وتقرأ أنت بعذوبة شربها.

وعندما يسيل الشوق حبراً ويطغى الوجدان  ويتكثف في اللغة الشعرية  فإذا بالوطن والعائلة والحبيبة تصبح متداخلة في جسدٍ واحد.

الشاعر ناصر رمضان لك دوام الإزدهار .. ولنا دوام الاستمتاع بِنتاجك.

___

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!