لصحيفة آفاق حرة:
_______________
في صلاة العشق
سلامة عبدالحق تتعايش مع حالة صوفية إحلاليه عميقة
د. سلطان الخضور
هو الإصدار الرابع للأديبة سلّامة علي الجماعيني ” سلّامة عبدالحق” الصادر عن دار الكتاب الثقافي بإربد لهذا العام 2021 والذي حمل عنوان صلاة العشق.
لنتحدّث عن مقاصد العنوان الذي جعلناه ليقود دراستنا قبل الخوض في الكتاب, ونبدأ بسؤال نحسبه مشروعاً, هل للعشق صلاة؟ والجواب أننا إذا أدركنا مفهوم الصّلاة لغة, فإننا حتماً سنجيب بنعم.
إن للعشق صلاة, فالصلاة بمفهومها اللغوي إذ تعني الدعاء, ولدت قبل أن تعرف بمفهومها الاصطلاحي, فهي كمفردة موجودة أصلاً والدليل إذا قيل لك” صلّ على النبي” فإنك لا تقوم وتبدأ بالصلاة كم اصطلح عليها بهيئتها وأركانها المعروفة, وإنما تقول” اللهم صلِّ على النبي” , فأنت إذن تدعو الله أن يصلي عليه, وأن يثني ثناءً جميلاً على نبيّه.
ويبدو أن الكاتبة سلّامة عبد الحق أدركت المعنى فتعايشت معه بشكل دائم, ولهذا التعايش أسبابه ومراميه سنذكرها في هذا النص لاحقاً.
أما الصوفيّة في الموضوع فقد عرفها معجم المعاني الجامع بأنها ” الصدق مع الله ، والتحرر من سطوة الدنيا، وحسن التعامل مع الناس” وفي معنى آخر تعني” العبادة والزهد والابتعاد عَنْ مخالطة الناس” وهي ما تعرف بالخلوة. فهل تتوفر هذه الشروط في صلاة العشق؟ أحسبها كذلك, فنرى سلّامة صادقة في عشقها, لأن الحالة مستمرة ولم تكن حالة عارضة, فكل ما استخدمت من مفردات تشي بصدق الحالة لأنها تتعايش معها, وقد جاءت نصوصها لتقول أن كل شيء من حطام الدنيا ما خلا حب الحبيب زائل, فهي تعيش حالة عشق مستمرة, تكون بها قد وصلت إلى الدرجة الثامنة من الحب وهي حالة من التعلق لدرجة الافراط, بعد أن تخطت مراحل الحب والصبابة والهوى, والعلاقة والجوى, والخلة والكلف. وجميع نصوصها في هذا الكتاب, تشي بحالة من التمنّي الذي يسكن القلب والفؤاد ويعبّر عنه اللسان, شعرت من خلالها أن هناك تناصاً واضحاً مع شعر الحلاج في الحب الصوفي حين قال:
عجبت منك ومني / يا منيَة المتمني
أدنيتنــي منك حتى / ظننت أنك أنّـي
وغبتُ في الوجد حتـّى/ أفنيتنـَي بك عنـّــي
يا نعمتي في حياتــي/ وراحتي بعد دفنـــي
ما لي بغيرك أُنــسٌ/ من حيث خوفي وأمنـي
يا من رياض معانيـهْ/ قد حويْـت كل فنـّـي
وإن تمنيْت شيْئاً / فأنت كل التمنـّـــي
إذا اتفقنا على مشروعية هذا التناص, فإننا سنتفق على نظرية الإحلال ونعني بها في نثر سلّامة إحلال الروح بالروح, “فأدنيتني منك حتى ظننت أنك أنَّي”, تشير إلى حالة توحد جسدي وروحي حتى الانصهار, فكوّنا حالة واحدة, لتصل بالتالي إلى أن الحبيب هو كل الأماني من الدنيا, فهي تتمنى وهو كلّ التمني.
هذا بالنسبة للعنوان, أما بالنسبة للمقدمة, فقد كتبها الأديب جروان المعاني وأجاد, وفاز بالإهداء كدلالة على الرّضا, فقد أشار المعاني فيما كتب من معاني إلى العالم الصّوفي, وأشار أن ثمة خيط خفي يربط الكاتبة بالحبيب أينما حل وحيثما ارتحل, ترخي له سفر أحلامها.
وقد أشار المعاني في مقدمته إلى المصطلحات المستخدمة في الكتاب واصفاً إياها بالقوية وواصفاً لغتها بالعالية المستوى, وأن الكاتبة تمتلك أدوات الكلام المقترن بالصورة والخيال.
ويضيف جروان المعاني أن “سلّامة” تمثل المرأة القويّة الواثقة التي تستمتع بقوة الرّجل ويستمتع بحبها, وأنها تعتبر الحب حالة حرّية, وتشكل في كتابها حالة متوازنة من الجمال والقدرة على امتلاك ناصية المعنى واللغة.
وكأني بالكاتبة ما زالت تنتظر عودة للحظات من السعادة عاشتها, لكنها لم تكتمل لأن القدر اختطفها من بين يديها, فما زالت مشدوهة ومندهشة, تحبس أنفاسها لتطلقها حين العودة إليها, فها هي تعيد رسم صور لتلك الحالة, صور تتعايش معها بشكل دائم لتؤكد من خلالها على معاني الإخلاص والوفاء المقترنة بالإحلال الصوفي لتنتهي بشخصين كانا يتحدان ويتشكلا في واحد.
“يوميّا تأتي إلي, كعصفور ندي, يحوم حول شباكي, ألقمه حباً وصبابة, وأنذر له عمري كلّه, أتوضأ بماء عينيه, وأصلي في محراب قلبه, أنبش كوم العمر, أهدهده وأوسع له مكاناً فيه, وأبني له مملكة في قلبي…, يا من ترصف الأحزان قلبه, تعال واعزف حزنك على أوتار قلبي.” هذه الصور تقول أن حزن الفراق مشترك, وأن أمل اللقاء يعيش في القلبين, ينطق به أحدهما لغياب الآخر.
وها هي تحت عنوان” زحام” وزعت مفرداتها كبقية مفردات الكتاب على هيئة قصيدة النثر, – ولها الحق في ذلك – ففي كثير من الأحيان تحسبكَ تقرأ قصائد. نراها هنا تعيش حالة من التأملات الحالمة الممزوجة بالأمل, تعصف به لحظات من الحزن والقلق الذي يصل حد الأرق, نجدها فيما سيأتي من كلمات, ترى الحبيب دائم التشكل, ولا ترى معنى لأي من الوجوه والأماكن والأسماء والأشياء دونه.
ويتوه وجهك في الزحام,…, أنثر حزني على مصاطب الأيّام…, أتلبك كثيراً ويداهمني القلق, وأدور في فلك أحلامي, فلطالما بحثت عنك في عيوني, ولطالما تجاوزت في بحثي عنك كل العيون, كل الأماكن, وبقيت وحدي, فلا وجهاً أتعبده ولا زماناً يغريني بالمكوث فيه.
وتستحضر الذكريات, التي أحالت ربيع العمر إلى خريف, واكتست حروفها باللون الرمادي بعد الفراق, لتجد نفسها في ذات النص في دائرة التيه, لكنه تيه محمود لأنها كالنجمة تستقر وتدور في فلك الحبيب.
” وأمضي خريفاّ معتقاً, رمادي الحروف, يتهادى على سنام جملٍ, في صحراء التيه, لعلّي أراك هناك شجرة صبّار.” وما الصبار إلا شجر شوكي يتحمل قساوة الظروف, ويعيش على الندى, ويلسع شوكه من لا يجيد التعامل معه.
وتستمر سلّامة في مناجاتها في” أوهام ليل” لتكشف في هذا النص عن حالة كانت مألوفة لديها, لشخص ألفته, بادلته حباً بحب, وهو الزوج الذي رحل مبكراً وترك أكواماً من الذكريات, لتعبّر عن حالة من الألم, علّها تعبُرَ إلى سويعات من الأمل, وفي لحظات من الانتظار قاسيات, تهيء نفسها وكل الأشياء, – المقعد والموسيقى والأزهار والشموع -, وتستعدُّ لساعة اللقاء, لتتّحد روحها بروح من أحبّت, وتعيش لحظات من الخيال, ترى عقارب الزمن متوقفة على وقع لقاء حميمي, ليبدأ النص بذكرى السهر, وينتصف بسؤال ينم عن عدم اليقين” هل ستحضر هذا المساء؟ ولينتهي باليقين الملوث بالحرقة والعتاب” تعدني كما دائماً ولا تأتي”.
أساهر ليلك الطويل وأمني النفس بحلو الغرام, أهيئ مقعدنا المفضل وقليلاً من الموسيقى, أعطّر المكان وأملأ قواريراً من زهر النرجس … وأنتظر, هل ستحضر هذا المساء؟ سأرتدي فستاناً أحضرته لي ذات غرام… أنتظر بفرح عمري, وأنتبه أن عقارب الساعة فقدت مداراتها, تعدني كما دائماً, ولا تأتي”.
وتستمر في التعبير عن معاناة الفقد في جوف الليل وآهاته, وتكتب تحت عنوان “آه يا ليل” لتقيم تناصاً مع آهات أم كلثوم التي كتب كلماتها بيرم التونسي ولحنها زكريا أحمد, ولأنها طويلة نقتبس منها:
” طول عمري بخاف من الحب وسيرة الحب, وظلم الحب لكل أصحابه…واعرف حكايات مليانة آهات…ودموع وأنين والعاشقين ذابوا وما تابوا… طول عمري بقول لا أنا قد الشوق وليالي الشوق ولا قلبي قد عذابه… وقابلتك لقيتك بتغير كل حياتي, ما عرفش ازاي حبيتك, ما عرفش ازاي يا حياتي, من همسة حب لقيتني بحب…فات من عمري سنين وسنين … أهل الحب صحيح مساكين… إلا عيونك إنت. دول بس اللي خدوني, أمروني أحب, لقيتني بحب”
فنجد سلّامة عبد الحق تقف على تناص آخر مع السيدة فيروز في ” ليلية بترجع يا ليل” من كلمات الأخوين رحباني وألحان فيلمون وهبه, نقتبس منها. ” ليلية بترجع يا ليل وبتسأل ع الناس… ليلية العينين السّود بيطلوا يبكوني, غزلوني على صوت العود غنيي و غنوني, قلتلي خبيني بقلبك وانسيني, يا زهر القناطر فتح هالميل وهالميل, أنا مش سودا بس الليل سوّدني بجناحو, مرقوا الخيالة عالخيل تركوني وراحوا, ندهتلن راحوا لا وقفوا ولا ارتاحوا, معهن حبيبي ما سمعني بعدوا وبعدوا الخيل”
فها هو نصها يتقاطع مع نصين مشهورين, نترك للقارئ الكريم حريّة الاستنتاج.
تقول سلّامة:” وليل أزاح سواده بكفٍّ ونام, وعلّق على غرّة الشمس قبلة من فم الغمام, أعزف اسمك في مهب الريح وأسير صوب معبدك حاملة أفلاكي بيدٍ والأخرى أجرها خلفي, تحرث بيداءك, تحرثني معك, هل مررت من هنا؟… واسمع صدى صوتك يملأ صقيع قلبي, غربة ما بعده غربة, وأنا أحلق عالياً على ضباب أوهامي… فيا أيها المعذب بي, دع عنّي أحلامك هذا المساء, وقم نتوضأ بماء السماء”,.
فنجدها تحلق في فضاءات الليل لينزاح, وتبدأ بقبلة إشراقة الصباح, لكن ما تراه سراب, متسائلة عن حقيقة ما كان, لتكون الرؤيا وهم, والغمام قد يمطر ليجعل لهما فرصة للوضوء بماء السماء” هل مررت من هنا؟”
وفي النص الذي يليه الذي عنونته” بكامل ألقك” تخفف الكاتبة من حالة المعاناة قليلاً والتي لا تعدمها ولا تعدم الأمل باللقاء, وتقر أن الطيف الذي يشاغل تفكيرها هو حلم, لكنها على علمها باستحالة الحدث, تترك الباب موارباً, لعلً حلماً يأتي بحلم وبليلة تذوب بها وهي تعاقر فيها خمر الحبيب, وتسهر حتى الفجر تتسامر وبوحه وتكثف كل حالات الشوق التي في نظرها لا تضاهي دقيقة في حضور صمت من أحبت.
” وتختصر الشوق في عينيك أدمعاً ولا تسكبها, حينها ينهمر المطر, وتصبح كل الطرق غلى قلبك مهجورة,… فكيف بربك لو غفت في عيونك أدمعي… فمنذ زمن لم تعد تصلني رسائلك, ولم أعد ارتشف قهوتي على طريقتك…لكن يمكنك التسلل مساءً, فالباب موارب, وضوء قلبي ينوس في انتظارك, فهل لي أن أحلم بليلة أعاقر فيها خمرك, وأسهر حتى الفجر أسامر بوحك.”
نصوص الكتاب زاخرة بمفردات الشوق والحنين والألم والأنين, وفيها من العواطف والأحاسيس ما يكفي لنص يرادف كل نص, نصوص زاخرة بوقع المفردات ذات المعنى, وبجمال البديع والمغنى, وقعت كل مفردة منها في مكانها الصّحيح, لتعطي صورة لموقف يغني عن الحديث, هي نصوص أدبيّة سامقات, وتعبيرات حالمات, تنبش ماض غائر, وتذيبه في مستقبل حائر, إلا من حلم بالذكرى زاخر, مالت في معظمها إلى النثر المشعور وتحلت بالسّجع والجناس.
…..
إربد – الأردنّ