لصحيفة آفاق حرة
كتب :أحمد البزور
ولد الشَّاعر عمر واصف أبو الهيجاء سنة 1959م، في إربدَ، إحدى محافظات شمال الأردن، وهو عضو رابطة الكتّاب الأردنيين، والاتّحاد العامّ للأدباء والكتّاب العرب، وفرقة مسرح الفنّ في إربد. يعمل محررًا في القسمِ الثّقافيّ في جريدة الدّستور، وقد أصدر العديد من الدّواوين الشّعريّة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: خيول الدّم 1989م، وأصابع التّراب 1992م، ومعاقل الضّوء 1995م، وأقلّ مما أقول 1997م، وقنص متواصل 2000م، ويدك المعنى ويداي السّؤال 2001م، وشجر اصطفاه الطّير 2004م، وغيرها(1).
شجرٌ اصطفاه الطير
بدايةً، نشير إلى أنّه ليس من السّهولةِ بمكانٍ أن يمسك القارئ الرّؤية النّصيّة في نصوص أبي الهيجاء الشّعريّة، تمامًا كما يتضح من الوهلة الأولى في عنوان الدّيوان.
من هذا المنطلق، يمنح الشّاعر عمر أبو الهيجاء عنوان ديوانه الشّعري بعدًا فنيًّا وجماليًّا، ورغم أنّ العنوان جملة مكتملة الأركان، إلّا أنّه لم ينجح في إيصال المغزى والمضمون. من هنا، يكمن حضور الذّات المتكلِّمة في ظلّ غياب الآخر. وإذا ما قفزت عيوننا إلى إهداء الشّاعر للديوان سنلاحظ بأنّ خيطًا يشير إلى المرأة، بحيث ندرك بأنّ الشّاعرَ عمر أبا الهيجاء يقدّم نصوصهُ الشِّعريّة مخاطبًا المرأة في قوله: إليكِ حيثُ تكونين. وتأويليًا، إنّ المرأة رغم حضورها في الإهداء تشكّل محورًا غائبًا وحاضرًا في الوقت ذاته، وبهذا، تتجلّى ثنائيّة الحضور والغياب. على ما سبق، يهدف المقال تفسير جدليّة حضور المرأة وغيابها في نصوص الشّاعر عمر أبي الهيجاء كونها تعدّ ظاهرة تستلفت النّظر، وعلى هامش الموضوع، تجدر الإشارة إلى أنّ حديث الشّاعر عن المرأة ليس بالأمر الجديد عند الشّعراء قديمًا وحديثًا.
ثنائيّة الحضور والغياب
تنطوي نصوص الشّاعر عمر أبي الهيجاء الشّعريّة على تجاذب وتداخل بين الثّنائيتين، ولا فاصل يقطع بينهما: الحضور والغياب، كما وتحتل المرأة مساحة واسعة في خطاب أبي الهيجاء الشّعريّ انطلاقًا من ترددها في نصوصه، إلى جانب أنّها تمثّل المحور الموضوعي والدّلالي الأكثر ظهورًا. والسّؤال المطروح في هذا الصّدد، يكمن في تحديد طبيعة علاقة الشّاعر بالمرأة، ومن زاوية نظر أخرى يمكن التّساؤل بسؤالٍ أكثر تحديدًا، عن كيفيّة تمثّل المرأة في النّصوص الشّعريّة وفق ثنائيّة الحضور والغياب.
بناءً على ما تقدّم، فإنّ النّصّ الشّعري الموسوم بعنوان “بين يديها” يعدُّ مثالاً ساطعًا على جدليّة حضور المرأة وغيابها في الوقت ذاته، حيث يقول أبو الهيجاء:
امْرَأةٌ مَلأى بِالبُرُوقْ
وَأنَا مُطْفَأ.
فِي اتّسَاعِ قَلْبِي
يَدُورُ العَالَمُ
وَدَمِي شَاخِصَةُ
المُرُورْ
أُرتّبُ كَطِفْلٍ قَلْبِي
بَيْنَ يَدَيْها
وَأُغنِّيْ
عَلَى مَهْلٍ أشْرَبها
وَأظَلُّ
ظَمَآن”.
إنّ الضّميرين: المتكلِّم والغائب يحضران في النّصّ السّابق؛ تأكيدًا على تلازميّة العلاقة بين حضور المرأة وغيابها في الوقت ذاته.
على هذا الأساس، تنهض نصوص الشّاعر عمر أبي الهيجاء على ثنائيّة الحضور والغياب، كما وتحضر الذّات الشّاعرة بقوّة في النّصوص الشّعريّة، وهذا ما نجده في نصّ “تهيئة للسّيف، أغنية للبداية”، حيث يقول:
سَمَّيْتُكِ الطّلقَةْ
نَبْضًا لِهَذَا الجِسمْ
سَمَّيْتُكِ الرّحلةْ
لُغةً تُخَنْجِرنُا
سَمّيتُكِ الطّائِر
أرْضًا لِهَذَا الدَّم.
تحليليًا، فإنّ الذّات الشّاعرة في معظم نصوص أبي الهيجاء ترزح تحت وطأة الوحدة، والاغتراب، والإقصاء، وتعاني من حالة القطيعة مع الواقع، لتتسم في أحيانٍ كثيرةٍ بالانعزاليّة، وكثيرًا ما تلوذ بنفسها بحثًا عن البديل والخلاص، وتتخذ من الحلم والخيال وسيلة للفرح والابتهاج، يقول في نصّ “برد الكلمات”:
كَثِيرًا أُرَقّصُ
يَدَي فِي الفَرَاغْ
وَأغمّضُ عَيْنَيّ
عَلَى مَسَاءَات مُجَللةٍ بالصّدَفْ
غَيْرَ أنّ يَدِي
تَمْتَدُّ ابْتِهَاجًا
كَي تَزُفَّ إِليَّ مِنْ فَضَاءِ المَعْنَى
وَرْدَةَ
البُكَاءْ.
وفق منطوق النّصّ الشّعري، تحضر المرأة في نصوص أبي الهيجاء الشّعريّة على شكل استغاثة ونداء، والنّاظر في النّصّ الشّعريّ الموسوم بـ عنوان “بلاغة الرّوح”، سيلاحظ بأنّ المرأة في النّصّ الشّعريّ تمثّل معادلاً موضوعيًا لإحساس الذّات باغترابها وحرمانها، وعلاقة الشّاعر بالمرأة علاقة تفيض بالعذاب والحرمان، وكلّما غابت المرأة في الواقع ازداد حضورها في وجدان الشّاعر وشوقه للاقتراب منها، ليجسّد استحضارها تخفيفًا من وطأة الشّعور بالوحدة والغياب، إذ يقول:
تَعَالِي
رَأَيْتُ الصَّمْتَ يَثْقُبُ خَاصِرَتِي
مَنْ يَقْتُلُ فِيّ الوسْوَاسِ الخَنَّاسْ
تَعَالِيْ
أدْمَتْنِيْ أشْلاءُ الجِرَاحْ
وَغَافَلَنِي الحُرَّاسْ
إنّي أَدْمَنْتُ فِيْكِ بَلاغَةَ رُوحِي
وَعَلَى مَدْخَلِ القَلبِ
قَرَعْتُ الأجْرَاسْ.
إضافةً إلى ما سبق، تظهر ثنائيّة الحضور والغياب في نصّ “عطر الذّاكرة” وفق رؤية ممعنة بالقتامة والسّوداويّة، حيث يقول:
لَمْ أكنْ وَحِيْدًا
حِيْنَ مَرُّوا فَوْقَ وَرْدِ الجَسَدْ
كُنْتُ الكَثِيْرَ الكَثِيرْ
وَكَانُوا ظِلِّي
صَارُوا لا أحَدْ.
إنّ المرأة الغائبة الحاضرة، في نصوص أبي الهيجاء الشّعريّة تجتاح مساحة ذاكرة الذّات ولا تفارقها، كما تحتل مكانة في وجدان الشّاعر، في المقابل، لا يستطيع البوح بأحاسيسه ومشاعره علانية؛ نظرًا للقيود النّفسيّة والاجتماعيّة، والتي تحول دون الوصول واللقاء بها، يقول في نصّ جيم الجسد:
كَأنِّي أَمْرُقُ
بِلا خَوْفٍ أوْ وَجَلٍ
للأَزْرَقِ الأنْثَوِي
لا أُغْنِيَةٌ تَمُرُّ بِالبَالِ
وَلا امْرَأَةٌ تَأتِي فِي الحَالْ
كَثِيْرُ الْلَعْثَمَاتِ أَنَاْ.
وبالتّأويل، نجد أنّ الذّات الشّاعرة تقف على حافة التّردد والبوح والخوف، وتقف موقف الخجل والاستحياء، وبهذا، تتمثّل علاقة الشّاعر مع المرأة بعلاقة غير متبادلة ولا متكافئة.
إنّ تكرار المرأة في نصوص أبي الهيجاء الشّعريّة يدلل على أنّها تستحوذ وجدان الشّاعر، لتبدو علاقته بالمرأة في الواقع والحقيقة أشبه ما تكون بالقطيعة، يقول في نصّ حصرم الوجد:
يَا أنْتِ
يا امْرَأةً تَنْبُتُ فِي حُصْرِمِ الوَجدْ
إنِّي أدْعُوكِ
وَإنْ أتَيْتِ
اقْرَئِي كَثِيْرًا
قَوْسَ الشَّاعِر
وَلا تَنْحَنِي لِلسّهَامْ(2).
وبالنّتيجة، فإنّ الشّاعرَ عمر أبا الهيجاء يؤطّر العلاقة بين حضور المرأة وغيابها في نصوصه الشّعريّة من منطلق إطار الجدليّة التّكامليّة، بحيث يجعل حضور المرأة على مسافة منعدمة بينها وبين غيابها.
وأخلص من هذا الموضوع إلى القول: بأنّ المرأة تحتل مساحة الدّيوان الموسوم بعنوان شجر اصطفاه الطّير للشّاعر عمر أبي الهيجاء من خلال الاستدعاء المستمرّ لها، ويمكن رصد المرأة في النّصوص الشّعريّة انطلاقًا من ثنائيّة الحضور والغياب، وقد اتّسمت هذه الثّنائيّة في علاقة جدليّة عكسيّة، مما لا يمكن الفصل بينهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
• إحالات
(1) انظر، معجم الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، ط1 ـ 2014م، منشورات وزارة الثّقافة، ص201.
(2) عمر أبو الهيجاء: شجر اصطفاه الطّير، 2004، منشورات أمانة عمّان.