في كلّ أمر من أمورنا الحياتية ميزان نزن به ما نريد معرفة كتلته أو حجمه أو ثقله، حتى اللسان له ميزان في الكلام لا يتجاوز حدوده، وعلى ضوئه نقيس المسافة النفسية في كوامن النفس. وبين فلسفة الحب وانعكاس الأذى على الفرد من أيّ طرف لم يتوقع منه حدوث الأذى يومًا، فهل هناك مسافات بين الحب والأذى؟.
قد يكون السؤال مفاجئًا للبعض، وللبعض الآخر صادمًا أو مبهمًا وليس فيه أيّ وضوح، فما هي المسافة المقصودة؟.
لعلّ المسافة هي الحدس والشّعور الداخلي، أو بذلك البعد الذي كوّن مسافة لا يفهمها إلّا الحاذق أو المتضلّع بمثل هذه الأمور، ولا يشعر بها أيّ شخص سوى بإحساسه العابر، فذلك من يقيس المسألة بالمسافة التقليدية، ونحن لا نأخذ بذلك المنظار، فالأمر يختلف اختلافًا كبيرًا، لا سيّما إذا عرفنا بأنّ الحب مرتبط بشيء حقيقي ومحسوس، وقد يرى البعض بأنّ ذلك لا يمكن إدراكه بالعقل أبدًا ولا حتى شرحه بالمنطق، فهو أمر أبعد من ذلك بكثير.
وفي الوقت ذاته ليس سهلًا تفسير ذلك لذوي الثقافة المحدودة، أو ما نسمّيها الثقافة الضحلة، فالأحاسيس هنا لها أبعاد فلسفية عميقة، وهو ما يرسمه الحب الحقيقي المتمكن في كوامن النفس، وقد شرحه فلاسفة اليونان حيث كانت لهم وجهة نظر أعمق، فهم يرون مسافة الحب ما هي إلّا دعائم أساسية للفلسفة.
وعلى ذلك شرعوا في وضع النظريات، ومن ثم طوّروا تلك النظريات من مفهومها المادي إلى مفهومها الروحي.
الحب هنا ارتباط بالحكمة والجمال الحقيقي بدءًا من الاندماج المادي في أجساد الأفراد، حتى الانجذاب إلى الأرواح ثم الاتحاد في بوتقة واحدة، وهذا هو التفسير الفلسفي القديم.
وهو بلا شك يختلف عن الحب الأفلاطوني، وعن الحب الرومانسي، فالصّلات مختلفة، وحدس الأرواح لا يتوافق مع بعض في البوتقة ذاتها.
وإذا تركنا أفلاطون وسقراط والإيروس جانبًا؛ لأننا نناقش الحسّ والتطوّر وكيف له أن يأخذ بالأرواح مستوى من وسيلة الارتقاء والتطوّر في توجيه العقل نحو الحب الذي لا يخالطه أذًى مطلقًا.
إنّ تصنيفات فلاسفة اليونان وغيرهم نحو الفضيلة وجوهر الحب النقي الذي لا يشوبه أذًى هو في مكامن الروح والتواصل مع الوجود، وإلّا ليس هناك من حب يخالطه عداء يصل في مستوى الضدّ.
إذًا الفضيلة هي ترجمة الروح في شكلها المادي كما يراها الفلاسفة الإغريق. أما إذا كانت تعني التماثل الذاتي فهي حسب وجهة نظر أفلاطون فقط.
وقد تكلم فلاسفة العرب عبر العصور، وكلٌّ له وجهة نظر، شأن فلاسفة الغرب القدماء وحتى المعاصرين، ولكنّ الحديث حول مسافة الحب، وهل يتحول إلى عداوة، وما هي حدودها، وهو كلام يحتاج إلى شرح مطوّل وإن كان أغلبه يدخل في علم النفس.
قال جبران خليل جبران:
*(المحبّ لا يؤذي قلبًا أحبّه مهما كانت الضّغوطات).*
وعلى هذا الأساس تكون أحاسيس الحب لها مسافات محدودة في الحب ولها أسس، وهذا الأساس لا تهزمه الرياح العاتية أمام تقلّبات الدهر، بمعنى لا يتحول إلى كراهية أو ينقلب إلى أذى.
يعبّر الجاحظ عن الحب في كتابه: (النساء) و (رسالة القيان): بأنّ الشعور العقلاني؛ هو البعيد عن اللهو، ولابن حزم الأندلسي رأي آخر عن الحب في كتابه: (طوق الحمامة)، ولكنّه يوصف المعاناة بقوله:
*(جميع أنواع الحب قائمة على المنفعة الحسّية وهي أمر بديهي وسريع الزوال).*
أما ساندرا سراج فتقول:
*(لا تراهن على لين قلبي، إنّ به قسوة تفزعني أحيانًا).*
وتلك القسوة هي رسوم سوداوية كانت في الأساس مبيّتة في النفوس، وأحسبها كذلك ما لم تكن عكسية تمامًا، فكثير من الحب تحول إلى كراهية من مجرّد هفوات لا تكاد تذكر، وقد قادني لهذه الكتابة حدث صغير جدًّا أحدثه زوج فقتلته، وهي حكاية واقعية حدثت في إحدى الدول العربية خلال الأيام الماضية، وبذلك أسدلت تلك المرأة المسافة على الحب بينها وبين زوجها والخبر لم يوضح تاريخ الوئام بينهما ولا حجم مسافة الحب، وهذا يظلّ على عدم وجود كتلة من الودّ، وأنّ المسافة معدومة تمامًا.
أما بالنسبة للآخرين فقد تكون المسافة قريبة جدًّا منهم، ويكون اليقين القابع في أعماقنا أنّ صلتنا بالطرف الآخر هي عدم وجود أيّ مسافة تذكر لما في العلاقة من سنوات ممتدة من التقارب، وبالتالي تنتهي تلك المسافات، فليس لها موقع في العلاقات أبدًا.
وبما أنّ طرفًا منهما أحدث خللًا سواء أكان مقصودًا أو غير مقصود، فلم تعد الأمور كما هي بل تنتهي المسافات لسوء الفهم الذي حدث.
وتعجب من القرار السّريع الذي تم اتخاده من ذلك الطرف، وتتوالى الأسئلة وجميعها بصيغة الدهشة.
يقول جلال الدين الرومي:
*(إن طفت على قدميك حول الكعبة ألف مرة فالحقّ لا يقبل طوافك لو آذيت قلبًا)،* إذا آذيت قلبًا، ولست أدري كم مرّة تم توجيه الأذى، فهل هو مرّة واحدة أم اثنتين أو أكثر، ولكن المهم أنّ هناك أذًى، وبغضّ النظر عن عدد المرات، فمن يتعمّد الأذى للآخرين يكون قد أنهى مسافات الحب التي كانت ممتدّة بين القلوب وإن كانت ممتدة لسنوات طويلة جدًّا من الودّ.
__________
منتدى النورس الثقافي الدولي بالقطيف.