لماذا اتهم الشعراء بسرقات المعاني دون الألفاظ؟
كانت قضية السرقات ضمن قضايا كثيرة في النقد العربيالقديم منها: ” الصدق والكذب ، والصنعة والطبع ”
وكان من أهم أسباب السرقات جدل السرقات الشعرية العصبية والرواية واللفظ والمعنى.
وفي تفصيلة المعاني المشتركة التي طرحها القاضي الجرجاني في كتابه: ” الوساطة بين المتنبي وخصومه ويؤيده الجاحظ المعاني” مطروحة على الطريق” سألني أحد الطلاب لماذا المعاني متاحة
للجميع من الشعراء والمبدعين؟
فأجبته:
حين أتهم المتنبي وأبو تمام بالسرقة فهما لم يسرقا أصلا، ولكنهما اتهما اتهاما فقط وإن أخذا بعض الألفاظ والمعاني وربما أحسنوا أو أساءوا
فمثلا أتهم المتنبي بسرقة بيت بشار برد:
(( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا …وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه.))
فالمتنبي قال: ((كسا الليل النهار بها دجى ..ليل وأطلعت الرماح كواكبا))
فقالوا وضع المتنبي الرماح مكان السيوف والمعنى هو المعنى.
وقالوا في بيته المتنبي الشهير:
(( أزورهم وسواد الليل يشفع لي ..
وأنثني وبياض الصبح يغر بي))
قالوا هو مأخوذ من قول ابن المعتز :
(( لاتلق إلا بليل أنت واصله
فالشمس نمامة والليل قواد))
في هذا البيت أحسن فيه المتنبي لأنه جمع بين ثمان مقابلات (( أزورهم ، وأنثني ، وبياض وسواد ويشفع لي ويغر بي))
ومما يجدر الإشارة إليه أن البحتري قد سبقه بست مقابلات
في بيته الذي يقول فيهة: (( ياأمة كان قبح الصبح يسخطها دهرا….فأصبح حسن العدل يرضييها))
وقالوا في بيت المتنبي: (( وخيل إذا مرت بوحش روضة أبت رعيها إلا ومرجلها يغلي.))
أنه مأخوذ من بيت أمرئ القيس:
(( إذا ماركبنا قال ولدان أهلنا
تعالوا إلى أن يأتي الصيد نحطب))
وكل الأبيات منقولة من غرض لآخر وليس بنفس المعاني والدلالة.
ومما قاله القاضي الجرجاني في التجني في السرقات
بيت( أبي نواس) الذي يعزي فيه محمد الأمين بوفاة أبيه:
(( نعزي أمير المؤمنين محمدا
على خير ميت غيبته المقابر
وإن أمير المؤمنين محمد
لرابط جأش للخطوب وصابر))
قال أن المهلل ابن أبي وهو أحد علماء النقد
أنه مأخوذ من قول الشاعر يحي بن حفصة وهو يعزي الوليد بن بوفاة أبيه
اوالذي يقول:
(( بكت المنابر يوم مات وإنما
أبكى المنابر فقد فارسهن
لما علاهن الوليد خليفة قلن
ابنه ونظيره فتكنى.))
فقال الجرجاني معلقا: (( أكثر مافي البيتين أنهما اجتمعا في التنهئة والتعزية فلاتشابه بينهما لافي لفظ ولا في معنى فإذا كان ذلك يعد سرقة فالكلام كله سرقة. ))
ممايدل على اابعضة ركب موجة النقد بلا علم أو دراية ويظهر تحامل البعض على الشعراء بدافع العصبية والتعصب أو الحقد والحسد فابن وكيع بكتابه الكبير يعد من أضعف ما انتقد به المتنبي.
والسرقات وقضية السرقات بين المبدعين أثبت الزمن بأنها أكذوبة لها أسبابها في النقد العربي القديم، بل إن أحد النقاد في العصر الحديث ألف كتابا أسماه: “أكذوبة التناص” بمعنى لا سرقات إلا في من يضيف إلى نفسه أعمال الآخرين شكلا ومضمونا أو يدعي ماليس له بأنها له.
وحين يأخذ الشاعر أو الكاتب معنى قديم ويطوره بمعنى ودلالة أعمق وبجدة فذلك حقه، فليست المعاني محصورة في مبدع أو كاتب بل متاحة المعاني لغير الشاعر والكاتب وحتى للأبكم
كماقال القاضي الجرجاني.
وحين اتهم المتنبي وأبو تمام وغيرهما بسرقات المعاني بالذات دون الألفاظ ليسقطوهما كشاعرين عظيمين من التجديد والتميز والشعرية والقدرات وربما التفرد والعبقرية بمعنى : أن اتهامهما لم يأتيا بجديد وإنما سرقا معاني من قبلهما، وحين نقرأ بعض كتب النقد العربي القديم نلحظ حجم التحامل على المتنبي، فالمتنبي وأبو تمام يعدان من عظماء الشعراء العرب على مر الزمن، وإنما استعملا معاني من سبقهما بصورة جديدة، وهذا ليس عيبا فقد قال ابن طباطبا العلوي في كتابه عيار الشعر” لا عيب لمن أخذ معنى سابق وحسنه بمعنى جديد.” وهذا مفهوم التناص الحديث
والمعاني يعني الدلالات والصور فهل المعنى والدلالة محصورة لمن قالها فحين اتهم المتنبي وأبو تمام ليضيق عليهما قول الشعر ويسقطان كشاعرين من عرش الشعرية لأن النقد التراثي كان نقدا متحيزا، وليس نقدا غير متحيز يقف بمستوى واحد من العمل والمنتج ويصدر الحكم فابن وكيع المصري ألف كتابا من ستمائة وخمسين صفحة في سرقات المتنبي تتبع المعاني فقط ليظهر الحقد والحسد من المتتبي، فالسرقات قامت على أساس العصبية وليس على أساس نقدي حصيف عدا بعض النقاد : ” كالجاحظ وابن سلام والقاضي الجرجاني ” والعصبية تعني لكل شاعر مناصرين وله خصوم، والبعض من النقاد القدامى شذب السرقات إلى: ” الإغارة ، التضمين، الاقتباس، الأخذ، السلخ” حتى يبرئ ساحته من التعصب وينضم للإنصاف منهم ابن قتيبة وابن سلام الجحمي والجاحظ وابن طباطبا.
والفضل في بيت سلم الخاسر أنه أتي ببيت أخف وأسرع ونقله من غرض من غرض لآخر
(( من راقب الناس مات غما.. وفاز باللذة الجسور.))
، وغضب الفرزدق ليس لأخذ البيت وإنما لخفة البيت، وتداولته الألسن أكثر من بيته .
(( من راقب الناس لم يظفر بحاجته.. وفاز بالطيبات الفاتك اللهج))
وقالالفرزدق ” سرق المعنى وصار أخف على ألسن الناس” فاعتذر منه سلم الخاسر وكان الاعتذار لكونه معلمه أكثر من أخذه للمعنى، كما أن الدلالة اختلفت فدلالة شعر سلم الخاسر كانت في المدح في حين كان شعر الفرزدق في غرض آخر.