لصحيفة آفاق حرة
قراءة في كتاب : كنت في الرق
هارب من الدولة الإسلامية.
الكاتب: هادي يحمد.
الناشر: دار نقوش عربية – تونس-
ط ٣ . ب د ف . ٢٠١٧م.
كتاب كنت في الرقة – هارب من الدولة الإسلامية، هو نتاج لقاء بين الكاتب هادي يحمد والمقاتل السابق في الدولة الاسلامية – داعش – محمد الفاهم، حيث سمع هادي يحمد لمحمد الفاهم، و أعاد سرد التجربة أقرب للرواية، حيث تعتمد على صيغة المتكلم أحيانا ولغة المخاطب احيانا اخرى، انا- انت. كما اعتمد الكاتب على سرد التجربة على مرحلتين:
الأولى تبدأ من ذهاب محمد الى سوريا هاربا من تونس الى ليبيا ثم الى اسطنبول في تركيا ومنها الى الحدود السورية وهناك التحق بداعش. والثانية هي عودة إلى طفولة محمد ونشأته وكيف وصل الى ما وصل اليه ليكون سلفيا جهاديا ويعتقل ومن ثم يذهب الى سوريا ملتحقا بداعش.
نحن هنا في القراءة سنعتمد على سرد تجربة محمد بتسلسلها الزمني منذ طفولته حتى عودته هاربا من الرقة ودولتها داعش الى تونس بلده الأصلي.
محمد الفاهم شاب من مواليد مدينة نابل في الجنوب التونسي، من مواليد ثمانينات القرن العشرين، عاش في بيئة إجتماعية متدينة بشكل تقليدي. عاش طفولته بحيوية فائضة، طفولته الأولى عاشها مع عائلته في ألمانيا حيث كان يعمل والده. كان ينوس بين تدين تربى عليه و طفولة ومراهقة فيها كثير من طيش الشباب، لكنه لم يصل الى مرحلة تورط فيها بأي سلوك محرّم اجتماعيا ودينيا. في ذلك التاريخ بدأت الصحوة الدينية تظهر وتتوسع من تبعات الصراع العالمي في افغانستان الذي اعتبر صراعا اسلاميا ضد الكفر، وتطوراته التي توسعت بانتشار دعوات سلفية جهادية انتشرت في العالم العربي والإسلامي، وتوسعت تلك الظاهرة بعد الاطاحة بالتجربة الديمقراطية الجزائرية في تسعينات القرن الماضي، التي وصل عبرها الاسلاميين الى البرلمان الجزائري، وبعد ذلك اطاحة الرئيس التونسي بن علي بحركة النهضة الإسلامية التونسية التي فازت بالانتخابات النيابية ايضا. هذا غير الاحتلال الأمريكي للعراق وظهور القاعدة واندفاع الشباب التونسي للذهاب للجهاد هناك. في هذه الأجواء الاسلامية المتصاعدة نشأ محمد، كان يمتلك صوتا جميلا، ويجوّد القرآن في صلوات التراويح في مدينته، كان يتتلمذ على مشايخ جهاديين، تشرّب الدعوة وأصبح ملتزما ويتوق لدور جهادي في العراق في مواجهة الامريكان بعد احتلاله عام ٢٠٠٣م، أو أي مكان آخر في العالم. تابعه وامثاله الامن التونسي ايام بن علي واصبح مدرجا على لوائح الإسلاميين السلفيين الجهاديين وتم اعتقاله لكثير من المرات، وكان يخرج في كل مرة أكثر جذرية واكثر ايمانا بضرورة العمل الجهادي في تونس وفي غيرها من العالم. لم يكن يؤمن بالعمل الجهادي ضد النظام التونسي على عكس البعض، لكنه كان يؤمن بالعمل في أماكن أخرى بمواجهة أمريكا تحديدا.
حصل الربيع العربي بداية من تونس، كان ذلك بالنسبة لمحمد طور جديد في حياته وحركته. الثورة التونسية لم تصل الى هدفه هو وهو سيطرة الإسلاميين الجهاديين على الحكم في تونس لكن ما حصل كان أفضل من ذي قبل. لقد كان أحد أهم تبعات الربيع العربي المتسلسل في تونس ثم مصر ثم ليبيا ثم اليمن ثم سوريا. هو انتشار أعداد كبيرة من السلفيين الجهاديين دعاة ومقاتلين، على ارضية انها ارض صراع مع أمريكا، وامكانية ان يصلوا للحكم فيها، حيث كانت قد ولدت القاعدة منذ عقود وأصبحت تنتشر في كل بقاع العالم، خاصة بلاد الأزمات في العالم الإسلامي.
تطور الصراع في العراق بعد الاحتلال الأمريكي له عام ٢٠٠٣م ، واستمرار السيطرة والتبعية له ولو ظهر أن هناك حكومات عراقية منتخبة برلمانيا. تقاسم اتباع امريكا بعض السنة والأكراد وإيران عبر الأحزاب الشيعية التابعة لها السلطة في العراق، مما ادى لظهور مقاومة عراقية خاصة في الأوساط السنية ومدنها الرئيسية، وتطورت حتى سيطرت عليها، القاعدة التي تمددت في سوريا بعد ثورتها التي واجهها النظام المستبد المجرم بشكل وحشي، وظهرت القاعدة في سوريا، التي أصبحت جبهة النصرة بعد خلافها مع قاعدة العراق، ونتج فصيلين الدولة الاسلامية في العراق والشام التي أصبحت الدولة الإسلامية داعش المنتشرة في سوريا والعراق، حيث حصل بينهما صراع سلطة وهيمنة على المواقع. وصراع مع الجيش الحر الذي ضم الفصائل الثورية التي واجهت النظام وحررت كثيرا من المدن والبلدات من سيطرته. وكذلك صراعه مع النظام السوري في مواقع أخرى.
في هذه الأجواء الدولية والعربية نشأ محمد واصبح من كوادر السلفيين الجهاديين، وحاول ان يذهب الى العراق ايام الاحتلال الامريكي له، لكنه كان يصطدم بمنع النظام إعطائه جواز سفر. ودوام اعتقاله و تعذيبه والتحقيق معه، على فترات متتالية. الى ان قرر ان يغادر الى سوريا للالتحاق بصفوف الدولة الإسلامية داعش، حيث أصبح له ولامثاله الدولة التي يبغي ويتوق ليحارب في ظلها، ويبني دولته الإسلامية، أو يستشهد وبالحالتين هو راضي النفس والروح.
غادر محمد في عام ٢٠١٤م تونس هاربا عبر الصحراء الى ليبيا التي كانت قد انتصرت ثورتها منذ سنوات، لكنها وقعت ضمن الصراعات القبائلية والتدخلات الخارجية وتغلغل الجهاديين الإسلاميين بحيث توجد داعش هناك ايضا. محمد ينسق مع من سبقه من التونسيين الذين سبقوه إلى بلاد الشام سوريا. ومن طرابلس في ليبيا الى اسطنبول التركية بالطائرة وفيها تم استقباله من شبكة متكاملة تابعة لداعش ومن كل الجنسيات الإسلامية رعته واهتمت به وبغيره، وساعدته حتى وصل إلى الحدود السورية التركية، حيث دخل الى تل ابيض التي كانت قد سيطرت عليها داعش وتمددت الى مدن اخرى.
كان يتوق محمد ليحمل السلاح ويقاتل في صفوف الدولة الاسلامية، لفت نظره قوة الاجهزة الأمنية لداعش، وهيمنتها على كل شيء. كانوا مقنعين، حققوا معه حول كل شيء حياته، وأخذوا كل وثائقه، واعطوه اسما حركيا، كان قد اختاره سلفا “أبو زكرياء”، والتحق مباشرة بأصدقائه الذين كانوا قد سبقوه بالالتحاق بداعش.
استقر في الرقة عاصمة الخلافة، والحق لكتيبة سيف الدولة الخاصة، كان له مشاركات في معارك كبيرة، سواء في العراق على أطراف مدينة الموصل، وسوريا حيث شارك في معركة السيطرة على مدينة تدمر، والسيطرة على الفرقة ١٧، ومنبج وسد تشرين والطبقة وغيرهم من المدن. عايش عنفا ودموية لم يستطع أن يهضمها ويتقبلها. خاصة تجاه الاسرى الذين ذبحوا بالمئات في الفرقة ١٧ وغيرها.
لفت نظر محمد أن حركة داعش على الأرض محكومة بقرار القيادة البغدادي ومن حوله، وإن معارك كبيرة تخاض ضدها في كل مكان، وان تدخلا دوليا قد بدأ بالحرب ضدها لاستئصالها.
كان التمدد السريع لداعش قد بدأ ينحسر بدء من عام ٢٠١٤ م و٢٠١٥م حتى ٢٠١٦م. حيث انهزمت بعد أكثر من مئة يوم من معاركها لاحتلال عين العرب كوباني، كانت الضحايا من داعش بالالاف وتبين ان أغلب المعارك غير مدروسة، ولا أفق استراتيجي لداعش، وبدأت تعيش ايامها الاخيرة من حيث التوسع والسيطرة على الارض، قبل ان تتحول الى كيان مهزوم، ولا يبقى منه إلا خلايا نائمة.
لفت نظر محمد الهيمنة المطلقة للاجهزة الامنية في داعش، وان اي نقد او تساؤل أو اعتراض، قد يودي بصاحبه الى التهلكة، حيث الاعتقال ثم القتل، الكل محكوم بقاعدة “السمع والطاعة” ، التي تمنع اي نقد او اعتراض.
كما عايش محمد مراجعات فكرية عميقة، فقد التحق بداعش وهو يحمل إيمانا مطلقا بأن ما يفعله صحيح في الدنيا والآخرة، لكن مراجعاته وحواراته مع الآخرين، جعلته يشكّ بصحة مواقفه العقائدية، وأن أي اجتهاد في أي مسألة جهادية، هناك ما يناقضها ويختلف معها، ولكل من الأدلة المستنبطة من القرآن والسنة، ما يدعم اجتهاده، توصل أخيرا إلى غياب اليقين في أي سلوك جهادي. وبالتالي قد يكون هدر حياته دون معنى وقد يكون على الطريق الخاطئ ويخسر الدنيا والاخرة.
اقترن ذلك مع غياب وضوح الرؤية: إلى أين تسير داعش؟. ومن يتحكّم بمسارها دوليا وإقليميا ؟. وتخدم مصلحة من ؟. كما وضح ان كل العالم تحالف ضدها وهناك حرب استئصال لها. هذا إضافة موضوع الدموية في التعامل الداخلي في داعش، وكذلك مع الاخرين، وقتل كل معترض أو مختلف او متسائل.
وهكذا لم تمض على وجود محمد في أرض الخلافة أكثر من سنتين إلا وقد انقلب حاله على كل المستويات. فلا يقين ديني لدينه بأن ما يفعله والآخرين في حربهم صحيح وبالتالي داخله الشك والشبهة والخوف من الموت العبثي والمجاني له ولغيره. وغياب أفق لداعش، وتكالب العالم عليها. ووقوعها ضحية دمويته داخليا وخارجيا وهيمنة الأمنيين داخلها وعملهم لمصالحهم الخاصة.
عند ذلك أصبح هاجس محمد ان يهرب من هذه الحرب وينجو بروحه عام ٢٠١٦م ، وذلك بعد مضي سنتين على التحاقه بالقتال في صفوف داعش…
هنا تنتهي حكاية محمد الفاهم مع داعش…
في التعقيب عليها نقول:
الكتاب يؤكد ان لم تكن داعش وقبلها القاعدة، وليدة فراغ سياسي ومجتمعي وفكري وديني، بل هي نتاج ازمة عميقة تطال الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي والإسلامي، أساسها المظلومية السياسية والاستبداد والاستغلال والتخلف والفقر، دول تستعبد شعوبها، جعل البحث عن الخلاص بالنسبة لشبابها ينضح من موروثه الثقافي والديني الممتلئ اجتهادات اسلامية تدفع للثورة على الظلم، وأخرى تحبذ العودة لعصر الإسلام الأول، وتطبيق الشريعة، ووقوع كل ذلك في حبائل التخطيط الاستراتيجي الغربي لاختراق العالم العربي والإسلامي منذ احتلال السوفييت لأفغانستان في سبعينيات القرن الماضي واستثمار المشاعر الإسلامية ضد السوفييت في معركة الغرب معهم. و لخلق صراعات داخلية مجتمعية ودعم الانظمة واختراق ثورات الربيع العربي بعد ذلك، وتبرير الانقضاض على هذه الثورات والقضاء عليها. وهكذا كانت داعش طوق النجاة للنظام السوري بعد ثورة شعبنا ٢٠١١م. وكذلك للنظام العراقي التابع لأمريكا بعد احتلال العراق، وتحول الاهتمام الأمريكي والغربي للقضاء على داعش وترك النظام السوري يقتل في الشعب السوري ويشردّه ويدمر مدنه وبلداته.
كذلك يعيدنا الكتاب الى ضرورة التنوير الديني الإسلامي وحل مشكلة السياسة في المجتمعات الإسلامية، وإعادتها لمسؤولية الناس ورؤاهم السياسية والصالح العام، واخراج الإسلام من حيز النشاط السياسي إلا بصفته دافعا للخير والعمل العام والحض على التمسك بثوابت المجتمع ومقاصد الشريعة التي هي مصالح العباد في المجتمع.
احمد العربي
٢٠ . ٥ . ٢٠٢٢م.