من سلسلة قرأت لكم:
شرفني الشاعر والأديب الأكاديمي المثقف د. إبراهيم أبو طالب بأن منحني فرصة أن أقرأ مجموعته الشعرية والتي ضمت بين دفتيها سبعة دواوين له، كتب قصائدها ما بين الأعوام 1991م وحتى 2023م، وهي فترة تقترب في طولها من ثلتي عمره إذ هو من مواليد الحيمة الخارجية محافظة صنعاء في العام 1970م. حاصل على الدكتوراه في الأدب الحديث، وهو أستاذ مشارك في جامعة الملك خالد في السعودية.
المجموعة من إصدارات دار عناوين بوكس في القاهرة لصاحبها الكاتب الأديب والقاص صالح البيضاني.
قدَّم للديوان الأول الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح، وقدَّم له أيضا الأديب والإعلامي علي أحمد السياني، ولأنه باكورة إنتاجه فقد ظهر بالمقدِّمتين لتعزيز حضوره في المشهد الشعري اليمني، أما وقد أثبت ذاته فقد جاءت كل الدواوين الستة دون مقدمات؛ فما عاد بحاجة لها.
وهو من الديوان الأول قد أظهر ذاته كشاعر يكتب القصيدة البيتية (العمودية) ويميل إليها بحكم ثقافته العربية ذات الخلفية التقليدية، وإن كان قد قدم قصائد كثيرة نُسجت تفعيليًّا (سطريًّا). وبالرجوع إلى مجمل قصائده في المجموعة أجده يتفوق في كثير من القصائد التفعيلية لا سيما في ديوانه الأخير، ولكنَّني أراه أكثر تفوقًا – بالمُجمل- في الشعر العمودي، وأعزو ذلك إلى تأثره بالثقافة العربية التقليدية التي نشأ في كنفها.
والقارئ لأشعار د. إبراهيم أبو طالب يستطيع أن يدرك تمكُّنه من أدوات الشعر من خلال تعدُّد مواضيع شعره أولًا، ومن خلال تعدُّد استخدامه لبحور شتى ولمجزوءات البحور. فقد كتب القصيدة ذات القافية والروي الكاملة، وجاء بالتصريع وبغير التصريع. كما أننا نجد دواوينه حافلة بكل أنواع تقنيات الشعر من انزياحات دلالية وتركيبية وتكرار وغيرها من الجماليات الفنية التي منحت أشعاره كثيرًا من الجمال، كما أن لغته تميزت باللفظ الجزل غير المعجمي، وتميَّزت كذلك بالانسيابية من غير ما تكلف أو صناعة.
وفي شعره الرومانسي أحسستُ مثلًا وأنا أقرأ له قصيدة (على شرفتها) في القسم الأول من ديوان (ملهمتي والحروف الأولى) أن روح الشاعر الكبير محمد عبده غانم تحضرني، وترفرف حولي روح الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان في شعره التفعيلي كما في قصيدته (سابع مرة).
ومن العسير أن نعرِّج على كل ما حفلت به الجموعة في ثناياها، لكنني سأحاول أن أضع أمامكم بعضا من انطباعاتٍ خرجتُ بها من قراءتي لهذه الدواوين.
ففي الديوان الأول (ملهمتي والحروف الأولى): قسَّم الشاعر هذه الحروف إلى ثلاثة حروف أو أقسام، الأول أطلق عليه (حرف البداية) ويجد القارئ فيه النفس الرومانسي واضحًا، وإن كان هذا النفسُ مبثوثًا في كل دواوين المجموعة. يتضح هذا من خلال الحقول الدلالية لعناوين الديوان (الحب الأول، عين الليل، لا تغضبي، ربة الشعر، قلب، وعلى شرفتها)، وإن تضمَّن بعض القصائد الواقعية مثل: (المدرس، ظاهرة، والواسطة).
يقول في قصيدة (لا تغضبي):
لا تغضبي فهواك أبقى……. ودعي الخلاف لكل حمقى
أنت النعيمُ لروضةٍ……. رقصَ الربيعُ بها ورقَّ
وشدا الجمالُ بعطرها…… أملًا وأحلامًا وصدقا
أما القسم الثاني: (حرف الإلهام) فيكاد لا يختلفُ كثيرًا عن القسم الأول من حيث رومنسيته ولغته وصوره؛ لقرب العهد بينهما وواحدية المرحلة الزمنية التي كتبت فيها القصائد، وإن كنتم تجدون نقلة واضحة السمات والمعالم في قصائده للأعوام 1996- 1998م.
أما في القسم الثالث (حرف القصيدة)، فمنذ القصيدة الأولى (مدد) يتأكد لكم كيف تخطَّى الشاعر مرحلة القسمين السالفين ليقفز؛ وليلج إلى مرحلة جديدة كانت خطوته فيها أوثق وشاعريته فيها أعمق. والقصيدة (مدد) من نتاجاته للعام 1997م، إلا أنَّه افتتح بها القسم الثالث من الديوان الأول، وأحسب أنه رأى فيها ملمحًا يؤكّد شعريته. ونزداد تأكدًا حين نقرأ له قصيدة (يسألونك عن سبأ).
وفي الديوان تتجلّى أرواح شعراء التفعيلة الكبار أمثال: أمل دنقل، وصلاح عبد الصبور، وأحمد معطي جازي، وكذا عبد العزيز المقالح.
وفي هذا الديوان تبرز بعض القصائد التي تنحو منحى مدرسة الديوان العقلانيَّة.
“هذه فطرة الإله برانا… وابتلانا بها شقيًا سعيدا
خلق الحب والجمال لدينا….. وهو من روحه عليًا مجيدا
فإذا لم يهزك الحسن فاعلم… أن في جانبيك وحشًا عنيدا
أنت لاشك ميت القلب فانٍ… لا ترى في الحياة رأيا سديدا”.
في ديوانه الثاني (وردة من مقام الصِّبا) قصائد طغت فيها الرومانسية، ولا عجب فبالرجوع إلى تاريخ إنتاج الكثير منها نجدها للعقد الأخير من القرن الفائت، وقد وسمَها الشاعر في عنوانه الفرعي الشارح بأنها (ديوان العشرين، 1991- 1996م)، والعشرون من العمر هي سن الشباب واللوعة والغرام، وتفتق الأحلام، وهي تتوازى مع قصائد الديوان الأول من حيث الإنتاج لا الإصدار، ولذا (فقد تشابهت قلوبُها).
الديوان الثالث جاء حاملًا العنوان (أنشودة للبكاء) وهو من إصدارات 1999م. يحفل الديوان بقصائد تفعيلية نقرأها فتنتعشُ فينا ذكرى الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح، وهي قصائد تبتعد عن رومانسيات ووجدانيات الديوانين السابقين، وتقترب كثيرًا، حتى في قصائدها العمودية من المدرسة العقلانية الديوانية -إن صح التعبير-. هنا نجد معجمًا جديدًا ومفردات جديدة لم نعهدها فيما سبق.
في قصيدة (صنعاء) يقول:
“في (الباب) ننفض سوءة الشكوى
وندخلُ في صفاء الدهشة الكبرى
على لغة السَّماء
ونطوف في صنعاء
كي نتأمل (الياجور) يروي قصةً
آياتها ذاك التفرد والبقاء
ونشيدها في الروح تعزفُهُ
المآذن
والنوافذ
والنساء”.
ولعلكم قد لاحظتم معي هذه الهندسة الصوريَّة النازلة هبوطًا في الخاتمة.
عنوان الديوان الرابع كان (تنويعات مسافرة) وهو من إصدارات 2010م. بدأت قصائده في العام 2001م. النفس الرومانسي عاد مرة أخرى حتى في قصائد التفعيلة، ويبدو لي أن روح الشاعر تتواءم مع هذا النمط الرومانسي، وليس في هذا ما يعيب بالطبع؛ فلقد عرف الشعر العربي منذ عصوره الأولى شعراء ما كتبوا إلا الشعر الرومانسي وقد عرفوا به، وأبدعوا أجمل القصائد الخالدة.
غير أن شاعرنا د. إبراهيم أبو طالب لم يفعل مثلما فعلوا، بل نحى نحو القصائد الوطنية والقومية والاجتماعية أيضًا، فالديون حافل بقصائد مثل: (روح بلقيس، يا قدس، على أطلال العرب، وقصيدة غزة العز). وفي هذه القصائد نجد مدرسة الديوان حاضرة في رصانة الكلمات، وقوت التعبير، وواقعية المعاناة، وإن كان يهتم بالتصريع على طريقة المدرسة الإحيائية.
يتحدّث عن القدس فيقول:
آهٍ عليها وما يجدي تأوُّهنا… وذلّها يطلبُ المليارَ بالنخوةْ
تستنجدُ الصمتَ تبكي في مرابعه… وهل ييفيدُ البكا مَن طبعه القسوة
لا تصرخي لن يجيب اليوم معتصمٌ…. ولا صلاحٌ ولا من يسمع الدعوة
“صلاحُ” أيامنا لا شيء يصلحه……. يلاعب الغيدَ يُسقى الريقُ والقهوة.
وجليٌّ أن الشاعر في قصائد هذا الديوان قد نضج شعريًّا وفكريًّا، واستطاع أن يثبت شعريته لاسيما في القصائد العمودية التي أوضحت تمكُّنه من خلق التصاوير والأخيلة الجميلة والمدهشة، ومن خلال لغة رصينة وأفكار متعددة متنوعة. وإذا تتبعنا تواريخ القصائد وجدناها تتسارع نحو الأعوام 2006-2007م، مما يعني أنه قد قطع سنوات من العمر استطاع خلالها أن يزداد تجربةً وثقافةً.
وننتقل للديوان الخامس (حين يهب نسيمها) الصادر في العام 2012م، وهو ديوان تُظهِر قصائدُه الشاعرَ متأثرًا بالربيع العربي والثورات العربية المصاحبة له؛ وقد وصفها بـ “تأملات في يوميات الثورة” (حلم الشباب الصادق، قبل أن تقتله الأحزاب المتشاكسة) إذ حوى الديوان الكثير من النفثات الشعرية قصيرة الطول، وهي نفثات تفعيلية تذكرنا بالشاعر أحمد مطر وأضرابه من حيث سهولة اللفظ، ومباشرة المعنى؛ لتتواكب مع أجواء المرحلة، وإن كان هذا قد جاء على حساب شعريتها.
يقول مثلا في قصيدة (وعد):
سنقلع الفساد
من كلِّ ركن في البلاد
نبدأ بالأوتاد
وننتهي بغاية المراد
ليس الوزير وحده
بل حارس الوزير
وصاحب الوزير
المرتشي الخطير…
وكما في قصائد عدة منها: نكتة للتأمل، الخيام، التغيير، حشود وغيرها.
والديوان كله تفعيلي عدا قصيدة واحدة هي قصيدة (وطني) التي استهلَّ بها الديوان وكأنها مقدمة له تبين أجواء الديوان من بعدها.
أما الديوان السادس (من دفتر العمر) الصادر في العام 2014م، فإن الشاعر يعود فيه إلى القصيدة العمودية الرومانسية، ولقد تعدَّدت مواضيع القصائد بشكل لافت، فلا نكاد نجد موضوعًا طاغيًا، بل نجد القصائد موزَّعةً بين مواضيع شتى، فمن إنسانية إلى اجتماعية إلى ذاتية مرورًا بالمواضيع الدينية التي تتجلَّى فيها براعة الشاعر، وترتسم فيها سلطنته الشعرية إن جاز التعبير.
وفي هذا الديوان بلغ الشاعر الأربعين من عمره ؛ لذا نجده في قصيدة (الأربعين) يقول:
“ربِّ أوزعني” تجلى شكرها… في سجود الروح في صدق اقترابي
أربعين العمر مرحى إنني….. قد سمت نفسي على كلِّ الصعابِ
أربعين العمر فجرٌ حالمٌ….. في عيون الليل قد أدركتُ ما بي
أربعينيٌ، ولكن ها هنا….. في سنا الوجدان يختالُ التصابي.
أما الديوان السابع والأخير (وطني يا جرحًا يؤلمني) فمن الواضح من عنوانه أن قصائده من نتاج أعوام ما بعد الحرب التي تشهدها البلاد منذ أكثر من تسع سنوات، وقصائد الديوان وإن كان كثير منها قد حملت الهمَّ الوطني، إلا أنه ضم قصائد تفعيلية كثيرة لمواضيع دينية واجتماعية، وضم عددًا من المرثيَّات. وبقراءة قصائد الديوان نجد نقلة جبَّارة في كتابة الشاعر للقصيدة التفعيلية تنم عن اكتسابه خبرة في كتابتها، وتؤكِّد من جديد علو كعبه في الشعر العمودي والتفعيلي.
يقول:
“سلامٌ على ليلِ هذي المدينةِ
حين يلفُّ الظلامُ تفاصيلَها المثقلات
ويشعلها الحزنُ
والحقدُ
والدمُ
والصرخاتُ الأليمةُ
على أنفسٍ لم ترَ من جمال الحياة
سوى البؤسِ
والقهرِ
والجوعِ
وتاريخ أحزابها الفاشلات”.
الديوان السابع هو مسك ختام المجموعة، وقد جاء حين بلغ الشاعرُ الخمسين من عمره، يقول في قصيدته (الصدى والمدى):
ذهب الشباب وزهرتُه… وأتى المشيبُ وحكمتُهْ
خمسون عامًا قد مضت… والقلبُ خفَّت صبوتُه
وها نحن قد وصلنا إلى نهاية المجموعة التي حملت قصائد متنوعة في موضوعاتها، وفي بحورها، وفي اتجاهاتها، وفي تركيبها.
قصائد حملتنا على أجنحة الخيال إلى عوالم جدّ ممتعة ورائعة.
يأتي الفهرس فالسيرة الذاتية كمختَتم للرحلة، ثم وفي الغلاف الأخير نقرأ هذه الأبيات المنتقاة:
“وطني أحبك رغم كل متاعبي
مذ كنتَ
في هذا الوجودِ
وجودي
أودعتُ في محرابِ عشقك
قُــــبلةً
وبعثتُها
في العالمينَ نشيدي
لو لم أوّحد خالقًا متفردًا
لجعلتُ نحوكَ
قِبلتي
وسجودي.