تكمن العبقرية في خلق ما يُسمى بإنتاجية الجاذبية لشد انتباه القارىء لما يُسرد من القول و عدم إعطائه فرصة التخمين أو استنتاج المعنى الماورائي السردي، و ضمن هذه الجاذبية ما يسوقه السارد من عوالم تنفتح بعالم النص الكشفي، ومن هنا تكتمل الجاذبية في اختزال التساؤلات التي تكشف عن دلالة النص و مكنونه.
“لا ادري كيف اخترقتني كلمات تلك المرأة الأمية…”
“أين أزوره يا أمي ؟ أين يقيم ؟ وهل له مكان يتواجد فيه لتتم زيارته ؟ .”
منذ بداية القراءة و بالتحديد من العنوان نكون فكرة عن المضمون لكنها تظل غير مكتملة ما لم ندخل غمار النص و نحاول استنباط المغزى.
“رحلة إلى الله” لما اختار الكاتب رحلة و لم يختر مثلا “رجوع” أو “عودة إلى الله” ؟ نعلم جيدا أن معنى “الرحلة” هو الإنتقال من مكان إلى آخر، وحده العنوان يُولّد عندنا عدة تساؤلات من بينها هذا السؤال: “إن نوى الكاتب الآن الرحيل إلى الله، و الإنتقال إلى معية الله؟ فأين هو الآن و بمعيّة من؟
هواه؟ أم تغافله و انشغاله؟ أم مع شيطانه كما يدعي؟ (كلمات اخترقت قلبي ، استقرت في وجداني ، هزت شيطاني وأربكته ، قريني الذي عجزت كل حيله عن طرد أو انتزاع تلك الكلمات وذلك الوجه بملامحه الملائكية من ذهني).
و نحن نحاول الإجابة عن هذه التساؤلات تتكون لدينا علاقة اشتهاء متبادلة بين الكشف و المضمون، نتلذذ القراءة و ننسى تماما محاولاتنا في البحث عن مكنون النص بل و نكتفي بمتعة القراءة التي تزداد بعد الإنتهاء من كل فقرة.
في تصرف لا إرادي منه نجد الكاتب محمد صوالحة يقاوم نفسه و قرينه.. يحارب شيطانه فجأة و بلا مقدمات، مقاومة نتجت عن بضع كلمات وجهتها له والدته، كلمات قليلة لكن وقعها كبير و أثرها في النفس عميق، كلمات زلزلت كيانه و أخرست شيطانه..
كل هذه المقدمات تفجِّر داخلنا أسئلة كثيرة نتاجها القلق النفسي الذي تولّد من خلال صدى الكلمات.. كلمات لها ثقل و وزن، لها طاقة نورانية مشعة تبعث في النفس الإرتياح و القلق معا، الأمر الذي يدفعنا إلى طرح السؤال الناتج عن القلق،
سؤال لابد منه، يفرض نفسه بقوة (إن حاول الكاتب الآن أن يتغلب على شيطانه و يوافق والدته التي تدعوه لمرافقتها في رحلة إلى بيت الله الحرام و هو بالنسبة له يعد بمثابة عودة و رجوع إلى الله. السؤال الآن: هو الآن و هو يوافق على مرافقة والدته يهزم شيطانه و نحن ماذا عنا؟ متى سنهزم الشيطان؟ و لو جزمنا فرضا بهزيمة شياطيننا فهل نحن في طريقنا الصحيح إلى الله؟ )
أسئلة كثيرة نعلل أجوبتها بالصمت البعيد عن السكون و الثبات، إنه صمتٌ بإمكانية التحول و تكليم الذات، محادثاتها، جزرها و تأنيبها.. في صمت.
ليس لنا بعد هذه الصحوة الفجائية للضمير سوى أن نلتزم الصمت بدورنا و نتابع القراءة، أما كاتبنا محمد صوالحة الذي فجر فينا كل هذه المشاعر و شوقنا لخوض نفس الرحلة إلى الله فقد إلتزم هو كذلك الصمت متأملا، راجيا و راغبا في الوصول إلى بيت الله (التزمت الصمت وبررت رفضه ورحت أتأمل الرحلة منذ أن انطلقت حتى تلك اللحظة … فقط أريد أن أصل إلى أرض الله…. بيت الله … أريد أن أتعرف إليه … أريد أن أراه … لم أر من الطريق شيئاً إلا ما كان يسمح لي به نور الحافلة) .
هكذا يأخذنا الكاتب في رحلة معه إلى تلك الطاقة النورانية داخل كل واحد منا نُفسح لها لتخرج و يملأ نورها الكون ، يأخذنا معه للتفكر و التأمل.. في كتابة تصنف ضمن أدب الرحلة، يأخذنا من نقطة انطلاق ثابتة “حديث والدته” صعودًا إلى سلم الفكر المقرون بالمشاهدة، مشاهد لا نهائية يصورها الكاتب، قد تساعد على الفهم لكنها لا تفضي إلى الظاهر الخفي في النص ، و خفاياه “النص” كثيرة و عميقة إذ يتجاوز الكاتب «أناه»، ليندمج داخل الكون بكل سعته و رحابته، يسبح في ملكوت الله بحثا عن نفسه، عن روحه، روحٌ وليدة اللحظة، روح رغم عنادها إلا أنها الآن ضعيفة أمام الحق، أمام النور الرباني و الحقيقة المطلقة.