آفاق حرة
كتب إبراهيم موسى النحَّاس:
المبدع الحقيقي ابن بيئته، يتشرَّب عناصرها، وتظهر ملامحها جلية في أعماله، ولِمَ لا؟ والمبدع مهما اتجه نحو الذاتية في إبداعه الأدبي يظل أيقونة لواقعه وانعكاسًا صادقًا له، مهما أمعن في الذاتية وغرق فيها، والروائي السكندري سامح أبو مصطفى في روايته الجديدة (البحر المسحور) يُقدِّم لنا صورة المبدع المتشرِّب لمفردات بيئته حتى النخاع، حيث تدور الأحداث في مدينة الإسكندرية ومنطقة (الأنفوشي) وحياة المراكب والصيادين وما تواجهم من متاعب وأخطار، في سرد روائي جمع بين ما هو واقعي وما هو خيالي في تفكير البعض، تبدأ الرواية بمعجم روائي يشتق كل مفرداته من عالم البحر والصيادين والمراكب فيقول في الجزء الأول: ((دخل البحَّار شاطئ الأنفوشى وكأنه يستدعى ذكرياته كلّها أمام عينيه وليرى الماضى والحاضر معًا فى مكان لا يتغيَّر بتغيُّر الزمن، فيرى نفْسَ المشهد الدائم من ورش تصنيع وإصلاح المراكب، هو هو نفْسُ المشهد الراسخ فى مُخيِّلتِهِ من مراكب كبيرة و صغيرة فى كلِّ مكان مبعثرة جديدة وقديمة، منها ما نزل إلى البحر لخدمة الصيادين، أو لمْ يكتملْ تصنيعه، كلُّها فى هذا المكان سواسية وكأنَّها مقبرة للمراكب، تقع منها وعلى جانبيها أخشابٌ ومسامير كثيرة ليتعثّر البحَّارُ، ولأول مَرَّة فى إحدى الأخشاب القديمة ولكنه لمْ يقعْ، بل ازدادَ حِرْصًا، نظر البحَّارُ إلى شرق المكان وغربه ليرى قصر الملك فاروق فى الغرب، ويلوِّحُ بوجهِهِ عنه إلى الشرق ليرى الحياة الجديدة مُمَثّله فى ثلاثة صيادين مُنهمِكِين فى الصيدِ .. ترَى عندهم سِرْبًا من الأسماكِ، سواءً اصطادوا منها أمْ لا، فهُم فى انتظار الرزق صابرين …)). لن نتعجب ولن نندهش خصوصًا إذا عرفنا أن هواية صيد الأسماك هي إحدى الهوايات الأثيرة لدى الكاتب لذا طغى هذا المعجم على مفردات الرواية طوال أحداثها، وأدَّى أيضًا لظهور شخصية الصيَّاد الكبير الحكيم الذي يُذكِّرنا ببطل رواية (العجوز والبحر) لأرنست هيمنجواي مع الفارق في تفاصيل الأحداث بين الروايتين ليكون هذا البحَّار العجوز هو مفتاح الدخول لعالم الرواية، فيقول الكاتب في الجزء الثاني: ((جلسَ البحَّارُ فى حيرةٍ من أمرهِ، المكانُ هو هو، ولكن اختفى الصيادون فى الشرق، وظهر الصياد العجوز صاحب الحواديت، وهو مَن تعلّم منه البحَّار مُعظم أعمال المِلاحة، وكان يحكي عن بحرٍ مَسْحُور)). حتى الشخصيات ترتبط بشخصية الكاتب بدءًا من الصيادين ومرورًا بالمحاسب (صالح) الذي يشترك مع المؤلف في نفس مجال الدراسة والمهنة في بداية حياته العملية، إضافة للرسام محمود الذي سيرسم كل شيء يخص الرحلة وكأنه الكاتب العاشق لهواية التصوير إلى حد الاحتراف وقد فتح استوديو في مرحلة من مراحل حياته. مِمَّا يؤكد أن رواية (البحر المسحور) تعكس بشكل رمزي جوانب ذاتية كثيرة من حياة مؤلفها حتى وإن دارت في فلك خيالي فانتازي حول الكنز الموجود في معبد بقاع البحر المسحور مِمَّا يُذكّرُنا بكنوز وآثار الإسكندرية المغمورة تحت الماء، وكذلك الكنوز الفرعونية وأسطورة حراسة الجن لتلك الكنوز الدفينة.
وتثير الرواية بعض القضايا الفلسفية منها علاقة المال بالسعادة وحل المشكلات، فيتساءل بينه وبين نفسه قائلًا في الجزء الخامس: ((هل كلُّ هؤلاء الرجال وبمختلف أعمالهم وثقافتهم يؤمنون أنَّ المالَ هو الحلُّ لكلِّ مشكلة؟ وهل قيامهم بهذه الرحلة من أجْل المال؟ المال فقط، وهذا الصالح الذى بحث عن العلم سنينًا طويلة اليوم يبحث عن المال فقط والبقيَّة بقيَّة الرجال والبحَّار هل المالُ هو مُحرِّكُهُم؟ .. ستظهر أكيد كلُّ نواياهم عندما يذهبون إلى البحر المسحور، وهناك إن وجدوا كنزًا أمْ لم يجدوا ستظهر نوايا الرجال وماذا يريدون)).
كما تعكس الرواية الشخصية المصرية الوطنية الأصيلة من خلال رفض البطل فكرة صالح ببيع الآثار للباحث الفرنسي الذي يعرفه، فيقول في بداية الجزء الثامن: ((عرض صالح فكرة تسليم المعبد إلى الباحث الفرنسى ويتسلمون هُم المكافأة وهى مليون دولار، رَدَّ عادل الغطاس: مليون دولار؟! مين حيدهملك؟ دى ناس جايه تاخد الآثار وتمشي، حَيِدُّونا مليون قفَا، ده غير إنُّهُم ممكن يسلمونا على إننا مُهرِّبي آثار.
تدخَّلَ البحَّارُ وقاطع الكل: لا، استنُّوا كلكم،أنا ماينفعش أبيع جزء من بلدي ولو بمليون دولار، وان كان احنا مانعرفش نحافظ عليها خلِّي العفاريت تحافظ عليها لغاية ما ييجي حَد من أحفادنا يحافظ على أثارنا)).
وقد اعتمد الكاتب في سرده الروائي على مبدأ التشويق من خلال التتابع الزمني للحدث الروائي وتقسيم الرواية لخمسة عشر جزءًا، ليختمها بنهاية مفتوحة رُبَّما ليشرك القارئ في وضع تلك النهاية.