لصجيغة آفاق حرة
**************
كتب : بسَّام الحروري
منذ نبوغ زرياب الأندلس مؤسس أول مدرسة للموسيقى الكلاسيكية وتفوقه على معلمه إسحاق الموصلي في صناعة عوده الخاص به ورفضه العزف على عود معلمه وعزفه على عوده بقوادم النسر أمام الخليفة العباسي هارون الرشيد
حين قدمه الموصلي للخليفة بعد أن أضاف زرياب الوتر الخامس لعوده من مصران شبل الأسد وتحولت لاحقا في قرطبة إلى آلة الجيتار التي نعرفها اليوم (الفلامنكو) ،
ماحدا بمعلمه الموصلي إلى تهديده بالقتل إن لم يغادر بغداد خوفا من أن يحظى زرياب بمكانة رفيعة عند الخليفة
وحسدا من تفوقه عليه،
منذ ذلك الحين والموسيقى تتخلق في أشكال أدواتها ومقاماتها ونغماتها وتتبلور عبر الأزمنة والأمكنة في خط أقرب مايكون إلى الخط البياني النابض
إن التناول الجاد للموسيقى التصويرية أو Soundtrack الساوند تراك كمايطلق عليها بالإنجليزية، للأعمال السينمائية العالمية أو التلفزيونية أو المسرحية أكانت درامية أم كوميدي بما فيها المؤثرات الصوتية على السواء
،تشكل حالة إنسانية ذات خصوصية وجدانية لدى الباحثين والمهتمين والمتذوقين
خصوصا وأنها تعد معادلا سماعيا أساسيا وباعثا للمخيال الذي يتطلبه الجو العام للعمل ، بما في ذلك التترات أوالشارة التي تمثل فاتحة العمل ونهايته كما أنها أي الموسيقى التصويرية تمثل كذلك للأعمال الإذاعية محورا أساسيا مساعدا لاكتمال المشهدية السماعية وإضفاء صبغة واقعية على العمل لإقناع المستمع والتحليق به ودمج مخياله في حاله زمكانية مع مجريات المشهد ليعيشه بكل كيانه وهذا ليس بالعمل الهيّن إذ يتطلب التجديد دوما من الموسيقي أو الملحن في كل مرة يتناول فيها عملا إبداعيا ما ،
وإذن ..فإن هذا الرأي ينفي بعض الآراء التي ترى الموسيقى التصويرية مجرد عامل ثانوي في العمل.
وفي السياق ذاته فقد حلت الموسيقى التصويرية في أفلام شاري شابلن وأعمال مستر بن الصامتة محل الحوار إلى جانب بعض الكلمات المقتضبة وشكلت مع بقية العناصر توليفة مشهدية أضفت فتحا جديدا للمنظومة السينمائية.
ولأن الموسيقى التصويرية لها سحرها الخاص في بعث روح الأمكنة المرتحلة في المتخيل الجمعي أو الفردي كان لزاما على الموسيقي أن يحرر هذه المشهديه من الرتابة والجمود إن وجد بهذه الروح الخفية الطاغية ،
وإذاما دارت بنا دفة الحديث عن أساطين الموسيقى التصويرية العربية وهم كثر لكن أهم من أبدعوا في هذا المجال الموسيقار عمار الشريعي الذي قدم لنا موسيقى فيلم حليم ، أرجوك أعطني هذا الدواء ، ذيل السمكة ، يوم الكرامة وأيام في الحلال .
وكذلك الموسيقي إلياس رحباني مؤلف موسيقى فيلم حبيبتي ، أجمل أيام حياتي ، دمي ودموعي وابتسامتي، والمبدع الرائع سمير كويفاتي مؤلف موسيقى أوراق الزمن المر وأيام الغضب وأبناء القهر وغيرها كذلك الفنان طارق الناصر، ميشيل المصري ، سعد الحسيني مؤلف موسيقى باب الحارة وعمر خيرت التي تتسم موسيقاه بميزة حميمية قريبة للقلب تعرفها من أول لحظة تسمعها فيها لاسيما في روائعه الخالدة كليلة القبض على فاطمة ،وجه القمر، قضية عم أحمد ، خلي بالك من عقلك ، الهروب من الخانكة،الإرهابي ،النوم في العسل، عفوا أيها القانون ، إعدام ميت، الجزيرة وغيرها من الأعمال التي أبدع خيرت في اقتناص اللحظة الفاصلة والذروات أو ماتسمى بالكلايمكس أو البيك إضافة إلى لحظة التنوير أو مايسمونها في المغرب العربي بالقطع السردي الممهد لنهاية القصة أوالعمل كل هذا أبدعه خيرت ورسم مشهديته ممسكا بمفاصل الأعمال التي قدمها موسيقيا
ولم تكن الموسيقى التصويرية شيئا يذكر في الأعمال التي قدمها الغرب لنا منذ 1895م حتى منتصف العشرينيات وظلت السينماتوجراف بمعزل عن الصوت البشري أو المؤثرات الصوتية التي تحاكي الطبيعة أو الموسيقى المصاحبة للصورة المتحركة وبحسب ماتحدث شارلي شابلن في مذكراته (أن مراكز التطوير في الأستوديوهات البريطانية والألمانية والأمريكية سعت إلى إيجاد تقنية تمكنهم من جعل الأفلام ناطقة وكان الهم الشاغل لدى السينمائيين ينصب نحو جعل صوت الممثلين مسموعا وتوجيه انتباه المتفرج إلى الصورة
والكلام معا أي إداخال عنصر الحوار إلى العرض السينمائي)
وقد أجرى رجل الصناعة السينمائية الألماني أوسكار ميستر(1866- 1943) م أولى التجارب لإنتاج أفلام ناطقة عام 1908م وإن لم تنجح التجارب بالشكل المُرضي لكنها أحدثت فتحا جديدا لدى الصناعة السينمائية وبعدها فكر صُنّاع السينما إلى إدخال تقنية الموسيقى على شريط الفيلم مع الصوت البشري الحواري وهكذا ظهرت أفلام شارلي شابلن بشكل أكثر حيوية من ذي قبل حيث انقشعت عنها غشاوة الرتابة من خلال إدخال الموسيقى التصويرية المتمثلة في العزف على آلة البيانو فقط مع بعض الجمل المنطوقة باقتضاب كما أسلفت ومن هنا فتح شابلن بفكرته آفاق رحبة من خلال تأليف الموسيقى التصويرية لأفلامه كالعصور الحديثة والديكتاتور القديم ولعل أشهرها أضواء المدينة .
وفي ذلك العصر تنبه صناع السينما والموسيقى إلى فكرة مفادها عزف الموسيقى التصويرية بشكل حي ومباشرة داخل دور عرض السينما بحيث تتواجد الفرقة مع المؤلف والمايسترو بجانب الجمهور ويتابعون أحدث الفيلم ومن ثم يتم العزف مباشرة على ضوء ماتتضمنه المشاهد الماثلة أمامهم بالموسيقى التي تؤلف سلفا ، لكن هذه الفكرة لم تستمر طويلا ومالبثت أن اختفت بعد أن صارت الموسيقى التصويرية تسجل بمفردها ثم يتم دمجها في الشريط إلى جانب بقية عناصر الفيلم وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عقب هزيمة ألمانيا فيها بدأت ألمانيا بتجميل صورتها أمام العالم من خلال إنشاء شركات ومراكز لصناعة الأفلام الوثائقية والصور الفوتوغرافية المختصرة ب(دوليج) عن الحكومة الألمانية وقد أدت هذه الجهود والمساعي
إلى إدخال الصوت والموسيقى التصويرية وإحداث قفزة مهمة في تطوير تقنية الأفلام المنتجة مما ساهم في تبلور العملية الإنتاجية السينمائية.
وفي منتصف العشرينيات جاء الموسيقي الفرنسي كاميلي ساينشيز الذي يعتبر أول من قام بتأليف موسيقى تصويرية خاصة بالأفلام بعد أن كان سابقوه من الموسيقيين يقتبسون من الموسيقى الكلاسيكية المتداولة والمعروفة في الأوساط الفنية آنذاك ثم يدمجونها في الشريط الفيلمي بحيث تتلائم مع المشهد أوالحدث أحيانا وأحيانا أخرى لا تتلائم
ممايضطرون إلى إعادة توزيعها مع الإبقاء على اللحن السابق كما يفعل بعض الدخلاء على الموسيقى التصويرية في عالمنا العربي بحسب الموسيقي السوري سمير كويفاتي وسعد الحسيني في لقاء لهم في برنامج (نادي التلفزيون) السوري
وهكذا مضت الموسيقى التصويرية في تخلقاتها إلى أن جاءت الثمانينيات والتسعينيات بموسيقى مختلفة وبحلة أكثر حداثة الا وهي الموسيقى الرقمية أو الإلكترونية المتقنة التي تصدر عن البرمجيات الإلكترونية بدلا عن الفرقة والآلات الموسيقية ومازلت مستمرة حتى اليوم ومن أشهر روادها المؤلف هانز زيمر
من خلال أعماله الموسيقية في فيلم المصارع ، رجل المطر ، الأسد الملك وكذلك الموسيقي هوارد شور صاحب فيلم سيد الخواتم والذي اقتفى خطى زيمر كما تميز في هذا المضمار الرائع جيمس هونر والذي امتلك مقدرة إبداعية ووضع بصمته بموسيقاه الخاصة والمتفردة من خلال تقمص العوالم الملائكية التي صورها برؤيا عالية مموسقة ومن هذه الأعمال ، القلب الشجاع والتيتانيك وأساطير الخريف
ولعل آخرها فيلم عقل جميل
وفي اعتقادي الشخصي أجمل من قدمتهم الطفرة الفنية العربية في هذا الجانب الموسيقي سمير كويفاتي الذي بزغ نجمه في كثير من الروائع التي قدمتها لنا الشاشة العربية بتوقيعه الموسيقي العذب والعميق بمعنى أن كويفاتي بارع في تعاطية مع درامية المشهد وروحنة الفكرة والحدث حيث يميل كويفاتي غالبا إلى الوضوح في أعماله من خلال الإبتعاد عن السوناتات التي قد لاتخدم المشهد فالعمل.
إلاحين يتطلب الموقف،
وأعني بالسوناتا هنا الدرامية الموسيقية في تحميل المشهد أكثر مما يحتمل من خلال مزاملة آلتين أو أكثر في العزف مما قد يشوش على المشاهد وبالتالي تضيع حميمية الفكرة أو الثيمة التي يود الإشارة والتنويه لها وبالتالي يتوه عن الواقعية التي ينشد إذا كان المشهد أبوي حميمي أو أسري مثلا،
كما برع كويفاتي في توصيف المواقع بلغة موسيقية دقيقة ففي الريف والغربة يصور المشاهد بلغة الناي الغالب عليه الحزن والنوستالجيا
كما يصور المدينة والمطارح الفارهة بلغة استقراطية فخمة فيدلل على ذلك بالبيانو باعتبارها الآلة الأنسب والتي لاتتواجد إلا في الفلل والقصور ،(حيث تطرقت له في مقالي السابق)
وختاما وبالمقابل فإن ثمة قلة قليلة من النقاد في عالمنا العربي من ينظرون إلى الموسيقى التصويرية العربية بأنها مازلت رهن محبسها ولم تنطلق ولربما تعزى هذه النظرة التشائمية إلى الذين تطفلوا على الموسيقى التصويرية وأصبحوا يؤلفون إلكترونيا أو بموسيقى حية دون تكليف أنفسهم عناء مراجعة العمل المقدم لهم والتأليف على ضوء دراميته أو فكرته وأحداثه .