حديث الكتب – حامد أحمد الشريف
عمل روائي مميز لم يخل من الإثارة السردية
05/08/2021
لا أعلم سبب تجاوزي اللغط الدائر حول جائزة البوكر العربيّة وتشكيك البعض في نتائجها، عندما قرّرت قراءة الرواية الأخيرة الفائزة بهذه الجائزة، وهي رواية «دفاتر الورّاق» للروائي الأردني جلال برجس، المنشورة في عام 2021، عن طريق دار نشر المؤسّسة العربيّة للدراسات، وتقع في ثلاثمئة وثمانٍ وستّون صفحة من القطع الصغير. قد يكون السبب قناعتي بمستوى الفكر الأردني والثقافة الأردنيّة. هذا المستوى الذي أظهره بشكل كبير برنامج «بنك المعلومات»، عن طريق الدكتور عمر الخطيب – يرحمه الله – في استضافاته المتميّزة تلك؛ أو لأنّني لا أميل كثيرًا للأحكام المطلقة، وأنظر إلى الحياة بطريقة نسبيّة، ممّا يجعلني مؤمنًا تمامًا بأنّ هناك – غالبًا – شذوذ عن القاعدة يُظهر لنا النجاح والفشل.
لم تكن البداية مشجِّعة مع النهج الذي اتّبعَتْه السرديّة في ميلها، كغيرها من الروايات العربيّة المستنسَخة، إلى الغموض والتشتيت المصطنَع. بيد أنّني لم أحفل بهذا الأمر، وتجاوزته بحثًا عن اللُّبّ. فذلك الغموض، على أيّة حال – وكما بدا لي لاحقًا – لم يكن مستهجَنًا، بل كان منسجمًا تمامًا مع البناء والهيكليّة التي وضعها الكاتب لروايته، وقد لا تصلح إلّا به. فهذا النوع من التشتيت استلزمته العقدة في بنائها وحلّها، وصولًا إلى النهايات المقرَّرة، وإن كنت شخصيًّا، بسبب كوني من عشّاق الواقعيّة الروائيّة، أميل للبداية التي تُدخلني في عمق الحكاية مباشرة، وتعتمد الإثارة والتشويق المرتبطَيْن بالحدث، بعيدًا عن التكلُّف الذي نراه في كثير من الأعمال ويُفقدُها قيمتَها. ذلك بالطبع لا يعني بأيّ حالٍ التقليلَ من قيمة هذا النوع من الأعمال، طالما ارتبط نقدُنا بالذائقة. فقيمة الأعمال – كما هو معلوم – تظهر عند إخضاعها للأسس والمعايير التي وضعها النقّاد الكبار الأوائل والتي تُستخدَم لبيان قيمتها الروائيّة والأدبيّة.
الغلاف، وهو العتبة المهمّة لأيّ كتاب، اعتمد الرمزيّة في تصميمه، بغية شدّ القارئ. وأظنّه نجح في ذلك كثيرًا، عندما لجأ إلى إظهار لوحة الفنّان الإيطالي العالمي ليوناردو دا فينشي المعروفة بـ «الرجل الفيتروفي»، على إحدى الصفحات المفتوحة، بالإضافة إلى الرجل الآخر – وهو غير واضح المعالم – الذي يحمل ريشة كبيرة توازي حجمه تقريبًا، ويظهر كأنّه يتسلّق مدرّجاتٍ مصنوعةً من بعض الكتب المشرّعة، وهو ما يشير إلى أنّ محتويات هذه الكتب اسطوتنته، وربّما لم يعد يفقه شيئًا في الحياة غيرها.
أراد الكاتب بهذا الوصف أن يعبِّرَ عن بطل العمل إبراهيم الورّاق. فالريشة تعبّر عن الكتابة التي اتّخذها معظم أبطال العمل وسيلة للتعبير عمّا يجوس في أنفسهم من صراعات ورغبات. ويأتي اللّون الأزرق الذي خيّم على الغلاف، خيارًا موفَّقًا، لما له من سيميائيّة تنسجم تمامًا مع سيرورة الأحداث وتناميها، والهدوء الكبير الذي كانت عليه. ولعلّه أراد بالفعل الإشارة إلى الثقة والكرامة والذكاء والسلطة والسيطرة التي ينسبها عادة المنشغلون بدلالات الألوان، إلى هذا اللون.
إنّ هذه المعاني جميعها كانت من أساسيّات هذا العمل الإبداعي. اشتغل المؤلّف عليها كثيرًا – كما سيظهر لاحقًا -. ذلك لا يعني بالطبع تجاهل نقطة جوهريّة استوقفتني طويلًا، تتعلّق بدلالات وجود اللوحة العالميّة «الرجل الفيتورفي»، إذ وجدْتُ صعوبة كبيرة في ربطها بالمحتوى، فهي تُستخدَم عادة للإشارة إلى عصر النهضة، أو الحياة العصريّة التي جسّدها هذا الفنان من خلال لوحاته، وكذلك تخلق رابطًا بين الفنّ التشكيلي والعلم – وهو الاتّجاه الذي برع فيه دا فينشي – إذ تُستخدم كذلك في الطبّ، نسبةً إلى إشاراتها التشريحيّة الظاهرة في الرجل العاري. كما يمكن الحديث عنها انطلاقًا من نظريّة النسبيّة التي أتى على ذكرها هذا الفنّان، وحاول إقناع الجميع بها، وخلّدها من خلال هذه اللوحة.
كلّ هذه الأمور لم أستطع ربطها بخطوط العمل البنائيّة الواضحة، ولم يكن هناك علاقة صريحة بمرض «الشيزوفرينيا»، أو ما يُعرف بـ «انفصام الشخصيّة»، الذي أظهرت الرواية إصابة البطل به؛ في وقت أغفلت لوحة الغلاف ما يميّز لوحة دا فينشي من كتابات مقلوبة لا يمكن قراءتها إلّا عن طريق المرآة، بينما ظهرت الكتابات المدوّنة على صفحة الكتاب واضحة ويمكن قراءتها. على أيّة حال، قد يكون هدف الكاتب الإشارة فقط إلى الحياة العصريّة التي نعيشها، بمشاكلها المتنوّعة. وهي تُقبل بالطبع من هذا المنظار، بالرغم من ضعف دلالاتها. ولكن، بعيدًا عن المقصد من وجودها، أظنّنا نتّفق على أنّ الفيصل هو فهمنا الصحي.
عن ( صحيفة اليمامة السعودية )