تحظى المرأة في ديوان الشاعر عبد الباسط الكيالي (شحرورة على أغصان وعد)بقدر كبير من القصائد، التي تتلخص بقول فريد الأطرش(ياحبيبي عايز اغني لكل شيء فيك شوية..ياللي حبك م السما اجمل هدية)وبعيدا عن قوله(عايز أغني للعيون السود وخايف..يزعلوا مني الخدود واللاالشفايف) وأمام الكم الهائل من الأبيات التي حظيت بها المرأة، نجده لا يكتفي ولا يتوقف، ويظل يُقلب الغزل والمواجع مذكرا بأغنية ام كلثوم(وَإِذا مَا إَلتَأَمَ جُرْحٌ ** جَدَّ بِالتِذْكَارِ جُرْحُ.. فَتَعَلَّمْ كَيْفَ تَنْسى ** وَتَعَلَّمْ كَيْفَ تَمْحو).
عبد الباسط الكيالي، شاعر حسّاس، سريع التأثر، ومن ثم فهو قادر على التأثير في قرائه ومستمعيه، ويلخص هذه العملية عبر قوله:
بـُهرت بهمسة عبرت حدودي فأطلقت العنان إلى المداد
ولكنه الأقدر على الكتابة تحت طائلة الهجر والفراق، فيعيدنا ثانية إلى فريد الأطرش في أغنيته (أضنيتني بالهجر..ما أظلمك..فارحم عسى الرحمن أن يرحمك)، اما الظلم الذي تعرّض له شاعرنا فيتمثل في قوله:
شحرورة حطت على غصن الغضى رحلت وما القت عليّ سلاما
وثمة صنف آخر من الكتابة الشعرية التي تنبثق تحت طائلة اللقاء، وقد عبّر عنها الشاعر عبر قوله: في المشاعر أنت زهرة:تريح البصر، تشرح الصدر، تهب العطر، تمتع النظر.
وتـذكر قصائده في اللقاء بقول ام كلثوم: (ياحبيبى طاب الهوى ماعلينا ..لوحملنا الايام فى راحتينا.. صدفة اهدت الوجود الينا..واتاحت لـــقاءنا فالتقينا).
وبعيدا عن أحلام وتطلعات وتهويمات وطموحات الشعراء التي اراها دائما كلاما في كلام بعيد عن الفعل والحقيقة، تتبدى شخصية الشاعر عبد الباسط الكيالي العفيفة والطهرة والنقية والحقيقية في قوله في قصيدته التي حملت عنوان:ضبط النفس:
لجمت مشاعري عقدا ونصفا تعففت الحرام مع الحلال
وقاومت النساء بسيف طهر وجالدت الحياة بلا كلال
فما سقطت قناتي في فجور وما وهنت لاغراء الجمال
ويعترف الشاعر عبد الباسط الكيالي في ديوانه، أن معظم قصائده، لم تكن نتيجة نظرة فابتسامة فموعد فلقاء، بل معظمها من معطيات الخيال، بدليل قصيدته (صدفة)التي كتبها بمجرد نظره من شباك السيارة إلى امرأة الهمته ، وفي الوقت نفسه عطـّلت نظرتها كمبيوترات دائرة السير،فقال:
طيف التعارف ساق الغيب والقدر*في زحمة السير قد أودى بي النظر
وفي معظم قصائده، يبدو شاعرنا في قمة المقدرة على الوصف، ببعديه الجسدي المادي، والمعنوي الروحي، وتبلغ تجلياته مداها حين يعيد أسباب تالق المرأة التي يتغزل بها إلى ما منحها الكون من اسباب وأدوات، يقول:
والثغر خَضّب من فرنسا عطرها وبخور هند في الشفاف يفوح
وفي هذه القصيدة يذكر الشاعر بالإضافة إلى جزر الكناري، فرنسا، والهند..وأعتقد أنه لا يذكرها من باب السخرية، فهو جاد في ذكره للبلدانيات..وهو أيضا في قمة الصدق الموضوعي، لأنه يكتب شعرا صادرا عنه ليطلعنا على ردة فعله تجاه ما تعرّض له من إثارة تسببت في إصدار هذا الديوان.
ويربط الشاعر بين السياسة والمراة، فيقول:
وروّضت السياسة منذ يُفع وكفي لا تحيد عن الزناد
وهذا البيت يذكرنا بقول الشاعر الفارس عنترة العبسي:
(ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي)
ويبدو الشاعر في ديوانه رافضا، بل ومؤكدا أن من الرفض تولد الأشياء، يقول:
فلا الأرض أرضي ولا العصر عصري كرهت الموانئ عفت الجـُزر
ورغم أن شاعرنا ليس شاعر مناسبات، إلا أنه ينتهز فرصة مناسبة حلول العيد، ليحدثنا عن مدينته المحتلة(اللد) وقد قال في مطلع تلك القصيدة:
لا العيد عيدي ولا الأيام أيامي لما رحلت، وماتت حلو ايامي
وثمة قصيدة، هجا فيها شاعرنا الأمة العربية، ومارس جلد الذات شعرا في قصيدته التي حملت عنوان” الكرامة الميتة “والتي تحدث فيها شعرا عما اسفرت عنه حرب الخامس من حزيران لعام1967.
وضمن هجائه الفردي، أراه يخرج عن طوره، ويقول في قصيدته(يأس):
مللت من هذه الحياة ولم أجد إلا العذاب
الناس حولي أخوة والبعض منهم كالكلاب
أما على الصعيد الجمالي، فتتجلى المفارقة في قصائد الشاعر عبد الباسط الكيالي بين الشرق والغرب، وبين الصباح والمساء عبر قوله:
صباح الخير من شفتيك شرقا وفي غرب مساؤك للـــــــــيالي
ففيك ارى الصباح يحل دوما وفيك ارى المساء على التوالي
وشاعرنا صاحب الخيال المحلق المجنح، بدليل قوله:
جبت الفضاء بلا ريش أطير به أطوي البراري لا أخشى من الخطر
وتتجلى بلاغة الشاعر عبر ما فيه ديوان من تشخيص بلاغي جعله يُحيي الموت عبر قوله (أيقنت بأنك فاتحة لحياة مماة ترضيني).
أما ثقافته الواسعة ، فتجلى في قصائده التي اتكأ فيها على التراث، إوأسقط الماضي على الحاضر، وخاصة في قصيدته التي استرجع فيهاعرش بلقيس والنبي سليمان عليه السلام والهدهد.
إن استدعاء الشاعر للتراث، هو نفسه استدعاء لما يرتبط في وجدان المتلقي بظلال ايحائية معينة، وقيم روحية ووجدانية وفكرية خاصة، لأن المعطيات التراثية تكتسب لونا من القداسة في نفوس الأمة ونوعا من اللصوق بوجدانها.
وانتقد شاعرنا في قصائده المزج بين الأسطورة والدين،فقال: وشيخ يستمطر بقايا رقية، وعراف، يستدعي نجوم، وبصارة تستجلب خيلا بلا سروج وأنت لا تزالين تتقلدين ، تعويذة طفل
ورغم إبداع الشاعر المتميز والمتمكن، إلا إن روحه كانت تلتقي مع روح شعراء آخرين في أثناء عملية الابداع الشعرية، فقصيدته (البحر عيونك) تذكرنا بالإغنية التي كتبها الشاعر نزار قباني وغناها كاظم الساهر(زيديني عِشقاً.. زيديني. يا أحلى نوباتِ جُنوني)، كما أن قصيدته (موت ضمير) تذكرنا ايضا بأغنية نزار قباني والتي غناها كاظم الساهر:( إني خيرتك فاختاري).
تبرز في هذا الديوان الصورالشعرية التشخيصية، التي تقوم على إبراز المعاني المجردة، والمظاهر الجامدة، في صورة كائنات حية ، تتحرك وتحس وتتنفس، ولطالما كان الشاعر يـُكسبها تفردا وطاقة إيحائية، وحيوية وحركة ونبضا يتجاوز التشبيهات والإستعارات والكنايات، وكان شاعرنا في معظم قصائده يستحضرسلسلة من التداعيات الصورية التي يستدعي بعضها بعضا، كما أضفى شاعرنا على بعض قصائده صورا تشكيلية، وهي الصور المبنية على تنسيق مجموعة من الجماليات اللغوية سواء كانت صوتية او تركيبية او حتى دلالية.
وقد كان للشاعر عبد الباسط الكيالي معجمه الشعريي المتميز، وكانت لديه القدرة على توسيع مدلول الكلمات من خلال تحريك الخيال والتخييل وتشغيل الانزياح و الرموز وتجاوز اللغة التقريرية المباشرة إلى لغة الإيحاء، وكلما كانت حالته النفسية ترق كلما كانت ترق ألفاظه والعكس صحيح.
وبعيدا عن المباشرة، استطاع عبد الباسط الكيالي أن يصوغ عيونا جديدة للشعر العربي ، تمثلت في قصائد سهلة بسيطة واضحة بل في غاية الوضوح بعيدة عن الغموض والتعقيد والرموز المغلقة،هذا مع الإشارة إلى استخدامه أحيانا الفاظا صعبة كان يشرحها في هوامش الديوان الكثيرة.
عبد الباسط الكايلي شاعر عمودي وملتزم ببحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، ولكنه في هذا الديوان، بدا لنا أحيانا شاعر تفعيلة، وقد لعب الإيقاع دورا مهما في تنضيد موسيقاه الداخلية، وذلك من خلال تكراره لبعض الأحرف أو الكلمات ، ومن اختياره ألفاظا رشيقة متناغمة ، كانت تؤدي إلى إحداث سحر صوتي خاص يُحدث مواءمة رائعة بين الشاعر والملتقي، وبين الشاعر نفسه، وبين حالته النفسية.