بقلم:علي أحمد عبده قاسم( اليمن )
صدر مؤخرا عن مؤسسة أبجديات الثقافية التنموية ديوان ” شراك غزالة” للشاعر/ نبيل قاسم الحياسي
ضم الديوان بين دفتيه ثماني وعشرين قصيدة في ثلاث وستين صفحة من القطع المتوسطة ؛لفتتني نصوص الديوان والتي جاءت بوحا شاعريا وعاطفيا صادقا وأود أن أقدم في نصوص الديوان رؤيتي النقدية المتواضعة وعند قراءتي لأي عمل
يروق لي دائما التعريج على العنوان لأقرأه فهو يعكس بالنسبة لي احترافية المبدع ويعكس شيئا من قدراته الإبداعية لاسيما والعنوان اللافتة التي تشير إلى أهمية المنجز وأهمية المضمون الذي يحتويه وعليه ومن خلاله يحدث الاشتباك مع النص ومحاورة دلالته والتي تصل أحيانا حد الصراع ومن خلالها يذاع المنجز الإبداعي وينتشر أو العكس جاء عنوان الديوان ( شراك غزالة ) وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره ( هذا شراك غزالة) أو نستطيع التقدير ب( إنه شراك غزالة)
فإذا كان الشرك : المصيدة وحبائل الصياد أو الكمين أو الفخ الذي قد يقع فيه الطير أو حتى الحيوان او غير ذلك ، فإن الشرك كمين يوضع بطريقة متعمدة لتقع فيه الفريسة عنوة فالشرك تحول من مصيدة إلى صائد فقد استلب الروح التي وقعت فيه وتحتاج إلى مخلص ومنقذ بلا جدوى.
وإذا كانت الغزالة ذلك الظبي الجميل المميز بالنفور والشرود والعند والحذر والجمال فقد تحولت الغزالة من ذلك الظبي أو الريم إلى معادل رمزي للمحبوبة وللحياة وللحلم وحتى للوطن والشراك لم تعد تلك الحبائل الحقيقية والكمين والفخ المادي بل إنه ذلك التأثير الذي يشبه السحر الذي وقعت فيه الروح والمشاعر بلا خلاص وتتحول تلك الحبائل وذلك الفخ إلى ما هو أشد فتكا منها فقد استلبت الروح وتحولت الروح بمشاعرها أسيرة فيها ومسجونة بتأثيرها الذي لاخلاص منه.
جاء العنوان متسقا ومتوائما مع مضمون نصوص الديوان الحب والعواطف وبوح الذات المحبة تجاه من تحب وإن كان الغزال قد وظف كثيرا في الشعر العربي من قبل والذي منه:
( ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك في الأشهر الحرم)
ومنه قول الشميري :
إن قلبي للهوى والوصل حن
أين مني ذلك الظبي الأغن
ورعى غزالا نافرا
طرفه يكتب آدابا وفن )
وقال آخر :
( خذوا بدمي من هذا الغزال فإنه.. رماني بسهم مقلتيه على عمد)
وقال شاعرنا: في تأثير وقيود غزاله
( ضوء من الدر الأنيق هنا رسا
يهدي البشاشة مانحا منواله
لنناجي الأنغام بوحا صادحا
يجري مع العزف الطروب خلاله
هي بهجة للعين لكن في الهوى
نصابة دجالة محتالة
لكن قلبي في هواها لم يزل
إلا أسيرا لم تفك أغلاله
فاحذر ولوج الحب دون دراية
تغدو كسبع في شراك غزالة))
وبذلك تحولت الغزالة من مصيدة إلى صائدة وتحولت رمزا للنفور والحذر والتأثير والعفة ورمزا للمرأة القوية.
فجاء متناغما مع مايعتري المشاعر من احتراقات ومتناغما مع المضمون ومنسجما مع عمود الشعر العربي ومعجمه اللفظي.
أما إذا انتقلت القراءة إلى الصورة الشعرية
فإن الصورة الشعرية ذلك التخاطب الروحي مع الأشياء والمحسوسات والمجردات وتخاطب يرسم المواقف والحياة والذات والرؤى والأحلام ليتأتى من ذلك التحاور رسما مختلفا وخلقا فنيا متميزا خاصة والصورة يجتمع فيها قوة الخيال وعمقه وتلاحمه بالمحسوسات والمجردات لترسم معبرة عن العواطف والمواقف والرؤى والأفكار والآمال والأحلام في لوحة عميقة من الإبداع المدهش لذلك فالصورة الشعرية هي المقياس وعنصر التمايز بين شاعر وآخر خاصة وأنها علاقة لغوية تحول الحقيقة إلى مجاز وخيال مؤثر يرتبط بالحقيقة ويعبر عن ماوراء الحقيقة.
وإذا تأملنا في الصورة فإننا سنلحظ سيطرة الصورة البيانية من تشبيه واستعارة وكناية وإن قل التشبيه في الديوان لأنه يعد مقارنة بين طرفين إذا درس التشبيه فإنه في ثنايا بعض النصوص مرتبط بالصور الأخرى ليكون أكثر قوة من ذلك:
(( أنت للحب أنس كل محب
ينشد الوصل للحبيب حلالا ))
ويقول:
(( هي بهجة للعين لكن في الهوى نصابة دجالة محتالة
ولكم شدوت بحبها مترنما
فتنمرت وتمردت مختالة))
ويقول في مفهوم الشعر : (( هو ثورة الكلمات يوقظ ماغفا
في عمقنا من ذكريات نائمة))
ومماسبق يلحظ سيطرة التشبيه البليغ والذي يعبر عن مدى الاحتراق وقوة هيجان العواطف وبخطاب مباشر (( أنت للحب أنس كل محب، هي بهجة للعين ، لكن في الهوى ، نصابة دجالة محتالة)) فالتشبيه البليغ يجسد اللواعج والاحتراقات الداخلية وقد حذف أداة التشبيه ووجه ليعطي قاسما مشتركا بين الذات المحترقة والذات المتمردة ليرسم مايشبه الصراع النفسي
وجاءت بعض التشبيهات المرسلة كمثل : ( فاحذر ولوج الحب دون دراية
تغد كسبع في شراك غزالة) ص٣٠
سيطرة التشبيه البليغ في قصيدة شراك غزالة للتمدح والاحتراق وجاء التشبيه المرسل الأخير ليفك شفرة المعاناة التي وقعت فيها الروح فقد تحولت القوة ضعفا لاسيما والذات لم تخض تجربة سابقة في الحب
وإذا كانت الصورة القديمة تعتني بالتجسيم من خلال رسم الحياة وأشيائها فقد قيل عنها (( إنك لتجد الجماد فيها ناطقا والأعجم فصيحا والسواكن متحركة ) فهي بعث الحياة في الجمادات ومن خلال التشبيه يلحظ القارئ صراع مابين طرفين طرف انهزم وذاب حبا وطرف متمرد نافر حذر يشعل الأعماق حنينا وأشواقا واغترابا وهذه من ميزات الغزال النافر الحذر وبذلك أعطى الخطاب سمات خلقية للمحبوبة وشخصية قوية فهي في الهوى( دجالة ونصابة ومحتالة ) على وجه المجاز مابين القوة وعدم الاستسلام.
وإذا انتقلت القراءة إلى الاستعارة فإن النصوص تفيض بالاستعارات سواء مكنية أو تصريحية ومنها
ومنها: (( لكن قلبي في هواها لم يزل إلا أسيرا لم تفك أغلاله))
فالهوى تحول سجنا وهو المعنوى ليتحد بالحسي الأغلال على سبيل الاستعارة التصريحية والصورة تكشف ثمة سجن معنوي تعانيه الذات حقيقة ويفتقر للإنقاذ والخلاص بالاجتماع بالحلم ( إلا أسيرا لم تفك أغلاله)
ويأتي باستعارة أخرى
(( من رقة الحرف رق الحرف وانشرحا
يجري بثوب الهوى والطهر متشحا
يطوي المسافات مشغوفا بلذتها
سكران من فيضها الراقراق كم منحا)) ص١٣
فإذا كان التشبيه يحافظ على وضوح طرفيه وتمايزها فإن الاستعارة التحام وتوحد يمحى فيها الحدود وتتوحد بالماديات والماهيات .
فالقلب يجري بثوب الهوى متحدا بالزمن وتحول إلى إنسان يركض في وضح النهار وهذا الاتحاد والتماهي يظهر الفرحة مشهرا للحب في عز النهار دون خوف بل بفرحة تشبه فرحة طفل في يوم عيد ومن خلال الصور نلحظ العلاقات المتفاوتة ثمة علاقة حب حقيقية فمرة ( دجالة ونصابة) وأخرى( القلب يجري بثوب الهوى)
وتأتي الاستعارة الأخرى في ( يطوي المسافات مشغوفا)
هذه الاستعارة فيها إثارة وجمال فكيف يطوي القلب المسافات ويجتمع بطي المسافات الشغف واللذة) فثمة تلذذ باحتراقات الحب وثمة هيام وتحليق بموقف رقيق بلغ مستوى عاليا من التحليق بلغ أيضا حد السكر باستعارة جديدة في ثنايا الصورة ترسم مقدار السرور والفرحة والتحليق من موقف شفيف ورقيق من الغزالة الحبيية.
وإذا تأملنا الصورة فقد جاءت قوية في الاستعارة وفيها مشهدية وفيها إثارة ودهشة ومصداقية لكن في التشبيه جاءت الصورة عادية كمثل ( هو ثورة الكلمات يوقظ ماغفا) فالقصيدة والشعر فعلا هو ثورة الكلمات ولا إضافة في هذا
أما في العنصر الإيقاعي الموسيقي فإذا تأملنا ااموسيقى الخارجية من وزن وقافية وحرف روي فإن النصوص جاءت متقنة مما يدل على حرفية عالية حيث تنوعت البحور الشعرية ولايخفى على أحد أن الإيقاع الموسيقي أيضا يدعم رؤية الشاعر ويدعم رسالته من الكلمات والصور والتراكيب المبثوثة في ثنايا البحر سواء في الموسيقى الخارجية أو الداخلية وبالعودة للنصوص فقد جاءت بعض النصوص من البحور التالية على سبيل المثال لا الحصر :
– نص روح من البحر الخفيف
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
( تمنح القلب رقة وجمالا
ونسيما معطرا وظلالا))ص٢١
– نص ” رقة الحروف” جاء من البحر البسيط ( مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن)
(( من رقة الحرف رق الحرف وانشرحا
يجري بثوب الهوى والظهر متشحا))
– وجاء نص أيام الطيب من البسيط أيضا
(( يا أعدل خفف بعض تأنيبي
أنصف فؤادي ودع للشوق تهذيبي)) ص٨
– وجاء نص ( جسر التواصل) من الكامل
( إن كنت لي خبرا أكن لك مبتدأ
أو جئتني حالا أتيت مؤكدا )) ص١٠
ومن الملاحظ أن الوزن والتفاعيل متقتة حتى في حروف القافية فاحيانا يستخدم ألف الوصل ويلتزم بحرف الروي في القصيدة ليس فحسب التزم بالتصريع في بعض القصائد كما في ” رقة الحروف” وبذلك التزم الديوان بالعمود الشعري وزنا وقافية وحرف روي وربما جاء بقافية صعبة كما في لامية ( شراك غزالة)
أما الموسقى الداخلية والتي تأتي من التجانس والترادف والتكرار والتوازي والاشتقاق فقد جاءت في بعض واضحة فمن حيث التجانس التصريع في نص رقة الحروف( انشرحا ومتشحا)
– الترادف كمثل
(جئتني؛ أتيت) ( أنت للحب، أنس محب) ويعد هذا أيضا تكرارا
– أما التوازي فقد جاء واضحا في نص سراب وهو النص الرومانسي الرمزي الذي خرج كثيرا عن التقليدية ومن ذلك التوازي( ملوعات؛ منهكات الموجعات ،، الطامحات ، الخراب، السراب ، العذاب)
وظف الشاعر كل قدراته في خلق موسيقى مؤثرة وجاذبة وتتظافر مع المضمون والرسالة لتقدم قصيدة متناغمة متكاملة
أمالتناص فقد تعالق الشاعر مع كثير من النصوص ففي نص( أيام الطيب) تعالق مع المتنبي في بيته الشهير
( يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام
وأنت الخصم والحكم)
وتعالق مع المتنبي في بيته الشهير ( كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا )
وتعالق مع الشاعر السوداني محمد أحمد محجوب حين نزل الأندلس ” أسبانيا ”
(( نزلت شطك بعد البين ولهانا
فذقت فيك من التبريح ألوانا)
والشاعر يقول ( كم لوع الشوق للأحباب وجدانا
وفجر البين في الأحشاء أحزانا))
الديوان يعد باكورة مهمة وانطلاقة مميزة للشاعر لما فيه من سبك وحبك بارع
يدل على شاعر سيكون بصمة وأتمنى عليه أن يخرج من شعرية الذات إلى شاعرية الحياة وهموم الإنسان وأثق فيه وبقدراته