لصحيفة آفاق حرة
قراءة في رواية “ما زلت أبحث عن أبي” للروائيّة ابتسام شاكوش.
د. سلطان الخضور
برزت أهمية الرّواية التي كتبتها الرّوائية “ابتسام شاكوش” والموسومة بـ “ما زلت أبحث عن ابي” برزت أهميتها من خلال تعرضها لقضايا اجتماعيّة مهمّة, و في هذه القراءة سنتطرق للعديد من النقاط التي نحسبها مهمّة للمتلقي وللمرسل.
اشتملت الرّواية على فصول ثلاثة كان الأول لوضع المتلقي في مشهديّة الشخوص وأحوالهم والثاني حمل أجواء التأزيم والحبكات فيما حاولت الكاتبة في الفصل الثالث امتصاص الأزمات إلا أنها أبقت الشخوص على حالهم ولم تخرجهم من الأزمات التي وضعتهم فيها.
استوقفني العنوان كثيرًا, وهو العتبة الوحيدة التي يمكن استخدامها للولوج إلى كنه الرّواية, وظننت قبل القراءة أن البحث كان عن أب مفقود لا يعرف مكانه, أو عن أب مضى عن هذه الدنيا وحال غيابه دون معرفته, لكن الذي كان, أن الأب في سفر دائم ومتواصل, وأن البحث كان عن الاحساس بالأبوة وما يتطلب من مشاعر وأحاسيس والتزامات, وما تحمله الأبوّة من معاني الاستقرار والطّمأنينة, لا عن كينونة الأب.
بالإضافة لاسم بطلة الرّواية وهو” بيداء” ومن معانيها الصحراء, وكأن البطلة بسبب تدخلات الأم العصبية دائمًا لم تترك لها ما تقدّمه لنفسها أو لأسرتها, تمامًا كالصّحراء القاحلة التي ليس لديها ما تقدّمه سوى أعشاب جافّة لإبل سارحة, ومن الممكن أخذها على أن الشمس إذا بادت غربت وإذا غربت حل الظلام في الاصقاع التي تصلها اشعتها, وفي المعنيين انسجام بين الاسم والفعل الذي ينتجه, فبيداء البطلة كانت مكبلة بأصفاد سببتها سلوكيات الام اللامبالية من جهة والعادات والتقاليد التي تستدعي احترامها من جهة أخرى, إضافة لمشاعرها التي كبتتها في مرحلة الطفولة والصّبا تجاه كل من يحيط بها من البشر ويبدو أن لها من اسمها نصيب.
وما استوقفني أيضًا طريقة كتابة “أبي” في العنوان, حيث بدت الكلمة مهزوزة لا تنسجم مع ما سبقها من كلمات, تمامًا كما الأب الذي بدا متحللًا من التزاماته, ولم يكن يومًا منسجمًا مع أسرته, ويبدو أن اهتزاز الكلمة يشير إلى اهتزاز علاقة الأبوّة, واستطيع كمتلقي لمفردات هذه الرّواية أن أعزي رغبة الأب في الغياب الدائم عن أسرته لأسباب ثلاث:
الأول, ظن الأب أن حل المشاكل لا يكون إلا بالمال, متناسيًا الجوانب المهمة في الحياة وهي المشاعر والأحاسيس والحنان الذي يتوق له الأبناء حتى لو كبروا. أما الثاني فهو عدم انسجام الزوجين, فبدلًا من البحث عن حل إيجابي والتفكير في تربية الأبناء, كان الحل هو هروب الاب إلى الأمام وخروجه من المشهد, بانفصال غير معلن وهو سغر الأب الدائم لدرجة جعلت أفراد أسرته يظنون بعدم وجوده ويبحثون عنه, أما السبب الثالث, فهو تغول الأم على الأب والدفع به بعيدًا لأن لها اهتمامات أخرى, وهو أشبه ما يكون بالغياب القسري, لتتحكم ليس فقط بالوقت بل أيضّا بسلوكياتها وسلوكيات أفراد أسرتها, وهذا ما فعلته أيضًا مع ابنها” محمد” عندما طلب الزواج في محاولة لتغييبه عن المشهد, وللخلاص من كثرة أسئلته ومعارضاته,وردّه أبوه من حيث أتى. لأنه لا يريد أن يتحمّل مسؤولية وجوده بالقرب منه.
والسؤال الأهم هنا هل بالضرورة أن يحدث غياب الأب عن المنزل تفككًا أسريًا؟ والإجابة ستكون بالنفي, فليس بالضرورة أن يكون غياب الأب الطويل عن بيته سببًا في تفكك الأسرة, فكم من أم نجحت في تربية أبنائها بسبب سفر الأب أو غيابه الأبدي عن الدنيا, أمّا في هذه الّرواية فالأم التي لم تعرف من الأمومة إلا اسمها هي السبب, هذه المرأة التي استمرأت الخروج من المنزل لفترات طويلة لتلقي الدروس الدينية على حساب اسرتها, وبتوتّرها الدائم وشتمها المستمر لزوجها وأبنائها واتهامها لمن يعارضها بالكفر, وتمنياتها باستمرار لأبنائها بالموت, هذه الأم التي إن اجتمعت مع صديقاتها تجلجل بالضحك, وفي المنزل لا تعرف إلا العبوس, قد مثلت الأم النشاز, حين ظنت أن الدروس الدينيّة أهم من تربية الأسرة فضنّت على أبنائها حتى بالحنان, وحرمتهم من الأمومة بالإضافة للأبوة التي افتقدوها. هذه الأم التي لم تكترث لانحراف بعضًا من ابنائها, والتي كانت تشتمهم وتشتم اباهم وأعمامهم وتقوم للصلاة, تحسب أن النجاة في الاستماع للدروس الدينيّة حتى لو تحللت من المسؤوليّة, ولم تدرك أن الدين مليء بالطاقة الإيجابيّة ومفرّغ للطاقة السّلبيّة؟ أليس الدين صمّام أمان ورادع عن الانحراف؟. ولم تكتف بذلك, بل هي أيضًا تدّعي أن الخير الذي يصيب بعض صديقاتها هو بفضل دعائها لهن, وأن السّوء إن حصل هو بفضل دعائها عليهن, فإذا سمعت من النساء أن فلانة حبلى تذهب إليها وتخبرها انها رأت بشارة في المنام أنها كذلك, هذه الأم التي تلازم مجالس الذكر تكذب وتعيش بوجهين, هذه الأم المتحللة من المسؤولية تذهب لصلاة العشاء قبل وقتها بكثير, ثم تحاول زيارة الصّديقات فتعود خائبة لأن كل منهن مهتمة بالتزاماتها مع أفراد أسرتها, يبدو أنها تتغافل عن قول الله” كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”
دفعتنا الرواية لطرح مسألة العقوق, فهل يسير العقوق باتجاه واحد من الأبناء للآباء؟ أم يمكن أن يكون له وجوه أخرى؟ أليست هذه المرأة امرأة عاق لزوجها والذي وصفته بغير المتدين, وقالت أن الله سيدخله جهنم والتي كانت ترى أن واجبه يقتصر على توفير النقود والانفاق على اسرته, ولأبنائها الذين تركتهم للشارع, ألم تكن سببًا في عقوقهم لها نتيجة إهمالها لأسرتها ولتربية أبنائها بحجة التحاقها بمجالس الذكر, التي لم تتعلم منها ما ورد في الآية 9 من سورة الإسراء”, ﴿ إِنَّ هذأ الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ ثم, أليس الله هو القادر على تصنيف العباد بين مؤمن وكافر؟ أليس الدين سلوك؟ هذه الآية أشارت إلى أن الأجر الكبير للذين يعملون الصالحات, لا إلى من يتعلمونها فقط, لقد أصابت السيدة إنصاف مديرة المعهد الذي عملت به بطلة الرواية لفترة من الوقت, وزوجة الاستاذ رشاد قدوة البطلة، حين قالت أن التديّن الحقيقي هو” التقوى, والتقوى صلة بين العبد وربه في السّرّ والعلن وأن جزاء العمل من الله.
ونتيجة لما ذكر, فقد ناقشت الرّواية التفكك الأسري, وقد تساءلت بيداء ذات يوم, ” لمن أعد الطعام؟ في بيتنا لا غداء يجمعنا ولا عشاء, أختي فاطمة وأخي عامر يأكلان عند خالتي ويراجعان دروسهما هناك” وعبرت عن حالة البؤس التي تعيش حين قالت” أنا لا أراني مع أخي سوى فردتي حذاء عتيق, رمت بنا أمي بين مهملاتها… عسانا نتمكن من السير بأقل قدر ممكن من العثرات” وأمي تعتبر أن ما تقوم به هو التديّن وأن معظم الناس غارقين في الجاهليّة.
هذا, وقد ناقشت الكاتبة أيضًا مسألة الضمير الإنساني وغيابه, من خلال طرحها لما جرى في المعهد الذي عملت بطلة الرّواية به حديثًا, فقد أحالت المعلمات غرفتهن إلى حلبة للرقص, عندما غابت المديرة لسبب طارئ وتركن التلاميذ دون تدريس أو حتى رقابة, إضافة إلى استهزائهن ببيداء كمديرة بديلة, حتى وصلت الأمور إلى الاشتباك بالأيدي وشد الشعر, عدا عن التهم التي سمعتها من المعلمات واللاتي تدور حول حبها لصاحب المعهد, وهو مؤشر على أن الرقابة الداخلية التي يمثلها الضمير غائبة عن هذه المجموعة من البشر, وأن من الناس من لا يردعهم إلا العقاب الدنيوي الفوري.
وقد ناقشت الرّواية عند تعرّضها للعلاقة بين بيداء الطفلة ومعلّمها الاستاذ رشاد, مسالة القدوة المقرونة بالحب, فقد كان المعلم هو قدوتها, وما زالت تذكر كيف أن المعلم أوقفها على طاولته وأصلح لها طريقة لبس حذائها لمّا كانت طفلة, من هنا تكونت بذرة الحب, وبقيت تتمنى لقاءه إلى أن حصل, واصبحت معلمة في معهده, ولم تستطع إخفاء مشاعرها تجاهه حتى باتت حديث المعلمات واتهامهن لها بأنها تريد أن تأخذه من زوجته, والحقيقة أننا نعزي سبب هذا التعلق لحاجتها للحنان المفقود, والذي لم تجده عند الأب ولا عند الأم ولا عند الأقارب, وما زاد الطين بلّة ظن الاستاذ أنها تريده زوجًا أو حبيبًا والحقيقة أنها تريد حنانه وأن تبقى قريبة منه, لأن ذلك يشعرها بالأمان, وأن هناك من يهتم بها في هذا العالم, مع جدها الذي رافقها للطبيب لتصحيح نظرها, وجدتها التي كانت إيجابيّة الوصايا.
وتطرقت الرّواية إلى أهميّة الثقة بالنّفس, فبناء على نصيحة السّيّدة انصاف بأن لا تبحث بيداء عن كبير لتتكئ عليه, وتكون هي الكبير الذي يجمع الأسرة, عملت بالنّصيحة وحاولت جمع اسرتها, رغم أن محمد يكبرها سنًّا, وطيش اختها فاطمة وغموض عامر, إلا أنها جمعتهم على مائدة الافطار لأوّل مرة, فجهزوا الافطار وأكلوا بنهم والأم نائمة لا تكترث إلا بنفسها وحين حان وقت الصلاة أرسلت محمد وعامر لصلاة الجمعة, وكان الفرج بزيارة جدهم واصطحابهم لبيته حيث تفاجأوا بوجود أبيهم الذي خرج وأحضر لهم طعام الغداء وأطعمهم بيده, إلا أن بيداء شعرت بثقل يده حين وضعها على كتفها مما يدل على فقدانها للشعور بحنان الأبوّة الحقيقي, ورافقهم إلى البيت وتصالح مع زوجته بعد اسبوعين, ومكث شهرًا, ما يشير أن التغيير ممكن لكنه يحتاج إلى عزيمة من الطرفين فما لبث أن عاد وسافر, وعاد الوضع كما كان.
وناقشت الرّواية كذلك مسألة تعثر حالات الزواج, وأن الواقع قد يعجز عن خلق مدينة الأحلام التي تريدها معظم الفتيات, فهذه تترك خطيبها الذي أحبها وأحبته وذاك يترك أمر زواجه لأخته وتلك تنفصل عن زوجها, وما ذلك إلا لعدم ارتكاز حالات الزّواج على أسس صحيحة وعدم أهليّة الأزواج لبناء أسرة ولا يخفى على أي منا ما أحدثة الانفجار التكنولوجي من تغيرات في مجتمعاتنا.
امتازت الرّواية بطريقة السرد المتسلسل الدقيق المريح, وفي القدرة على توظيف المفردات والتفاصيل, وتداخل الأمل بالألم, وقد عمدت في فصلها الأول على استخدام الرموز الموحية بدلالات مفيدة لفهم نفسيّة النص, فوصفت صورة ابيها التي على الحائط والتي عثرت عليها مرميّة في أحد الصناديق, أنها بالأبيض والأسود في إشارة منها إلى قدمها, وكأنها تود القول أن العلاقة بين ابيها وأمها حتى بين أبيها وأبنائه تمتاز بالجمود وعدم التجدد, ووصفت عقارب السّاعة بالمتوقفة, لتقول أن الزمن جامد وأن انتظار التغيير صعب, إلا أنها أبقت الباب مواربًا ليدخل الأمل مع الفجر وأشعّة الشمس التي كانت تدخل المنزل, وعبرت عن اندفاعها نحو العمل في المعهد ومقابلة استاذها الذي أحبت, بأنها ذهبت إلى هناك هرولة, بعد أن كانت قد نسيت أن تغسل وجهها, وما طرق باب إدارة المعهد بنعومة إلا نتيجة التردّد والخوف من المجهول, وقالت أنها في طريق العودة كانت تحصي خطواتها لأنها لا تريد العودة إلى بيتها. وقد استطاعت أن تضعنا في المشهد هن طريق التفاصيل الدقيقة فوصفت خالتها خديجة بأنها كتاب أصفر, في محاولة للتشكيك بصدقها ودقتها, ووصفت أخاها محمد بأنه يطيل الوقوف أمام المرآة ويأخذ تقودًا ويخرج, أي أنه كان عاطلًا عن العمل وغير ناضج ولا يهتمّ إلا لأصدقائه.
من الناحية الفنّيّة, جاءت الرواية مفقرة وصفحاتها مرقمة وحملت علامات الترقيم اللازمة, واستحضرت الكاتبة المفردات الدقيقة التي لا تحتمل اللبس والخالية من الأخطاء النحويّة والإملائية, رواية تشكل إضافة نوعيّة للمكتبة العربيّة وتستحق الوقت الذي يصرف لقراءتها, لكني تمنيت لو استمرت الرّواية بالسّرد لتوضح لنا كيف كانت نهايات بطلتها وشخوصها,
والرواية التي نجحت في وضعنا أمام مشاهد حياتية, جعلت المتلقي يستنتج أن زمانها هو الواقع الحالي نظرًا لاستخدام التلفون والدراسة والتخرج ووجود معهد للتدريس والحدائق والأراجيح والصّور الملوّنة. وقد تمكنت الكاتبة من انتزاع هذه المشاهد من الواقع لتشجع المتلقي على بناء مواقف محددة تجاه الاحداث.