لصحيفة آفاق حرة-
______________
قراءة في رواية: غريب النهر.
للروائي : جمال ناجي.
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون.
ط ١، ورقية، ٢٠١٢م.
بقلم. أحمد العربي. سوريا
جمال ناجي روائي أردني مخضرم يكتب منذ عقود، له العديد من الروايات والمجموعات القصصية. هذه الرواية الاولى التي أقرأها له.
غريب النهر، رواية تعتمد السرد على لسان راوي، يرصد اشخاص الرواية ويتابع حكايتهم تباعا. لا ضابط مكاني او زماني للسرد الا ما يتطلبه السياق الروائي، يتابع الراوي حبك روايته كما يتابع معماري خلق البناء وتفصيله وتحويله من مخطط في الذهن الى سكن كامل.
تبدأ رواية غريب النهر من شخصيتها المحورية عمي اسماعين (اسماعيل)، ذاك الفلسطيني الستيني المستقر في بيارته (مزرعته) على ضفة نهر الأردن المحاذي لفلسطين التاريخية، كان قد استقر في هذه الأرض بعد شرّد الصهاينة الشعب الفلسطيني من بلداتهم ومدنهم في فلسطين إثر النكبة في عام ١٩٤٨م، حيث كان إسماعيل أبو حلة من بلدة العباسية المجاورة لمدينة يافا. لجأ الى حيث هو الان على ضفة نهر الأردن، وحيث غامر واشترى قطعة كبيرة من الأرض مقايضة صاحبها ببطاقة دعم اللاجئين الفلسطينيين وما يقدم عبرها من مأكل وملبس ومستلزمات، واستعان بما حملته أمه عائشة وزوجته فخرية من مصاغ ومجوهرات، باعها واشترى مقابلها الأشجار لزراعة الأرض وبنى بيتا للعائلة، يسكنه هو وأمه وزوجته وولده الأول في ذلك الوقت، اسماه البيارة على ذات تسمية أرضه التي تركها في فلسطين قبل لجوئه. اسماعيل وصل الى عمر الستين بعد ان انجب ثلاثة اولاد ذكور شعبان ومجاهد وعبد الرزاق، كما أنه بعد مضي وقت طويل تزوج ثانية من ارملة ابن اخته نجود التي أنجبت له ابنته خلود، له كثير من الاخوة، كان اللجوء قد بعثرهم في بلاد الله الواسعة، الأردن ولبنان وسورية والعراق ومصر وغيرها، العائلة التي توسعت وامتدت حيث يتواجد الفلسطينيين الذين شردوا من ديارهم. لقد مضى على ذلك التاريخ عقود من الزمن، حصل حرب ١٩٦٧م مع الصهاينة مجددا وخسر الفلسطينيين مزيدا من أرضهم، الضفة الغربية، ولم تعدل حرب ١٩٧٣م أي من واقع حياتهم في غربتهم وحياتهم البديلة. استقر اسماعيل في بيارته، التي أصبحت تدر عليه من كل الخيرات. كبر الأولاد وبدؤوا بالعمل والتزاوج وبناء حياتهم الخاصة، شعبان تزوج واستقر في مخيم اليرموك في سورية، أما جهاد فقد التحق بصفوف الثورة الفلسطينية هو وزوجته واستقر في لبنان، أما عبد الرزاق الابن الثالث فقد بقي دون زواج وبقيت حياته غامضة، حتى تبين انه يعمل هو وخالته سفر مع منظمة التحرير الفلسطينية ومن الدائرة المقربة من أبو عمار ياسر عرفات الزعيم الفلسطيني، وانه يدير لهم الكثير من المشاريع الاقتصادية في كثير من بلدان العالم. كل يعيش حياته، واسماعيل يحس انه قد اكمل رسالته وأنه قد اقتربت نهايته، لكن مستجدات حصلت معه جعل حياته تتجدد وتصنع حيوية فياضة. لقد جاء إلى زيارته في بيارته شخص غريب اسمه شوكت، جاء من إسطنبول يسأله عن كثير من الاحداث والاشخاص الذين غابوا عن الخاطر لبعد زمنهم وحكاياهم. لقد سأله عن أخيه الأكبر مصطفى الذي كان قد شارك مع الجيش العثماني وحارب في حرب السفر برلك وذهب ولم يعد، واعتبر شهيدا. لكن القادم الجديد من اسطنبول يؤكد أن مصطفى الأخ الأكبر لم يمت في سيناء أيام السفر برلك، وأنه انسحب مع الجيش العثماني امام الانكليز، وغادر معهم الى اسطنبول، حيث تبناه أحد قادته في الجيش العثماني، وأخذه الى بيته، ومن ثم زوجه من اخته، وانجب منها ابنين توأمين، شوكت هذا ويلماز أخاه هناك في اسطنبول. تأخر اسماعيل باستيعاب هذه المعلومات وفي تقبلها، لكنه استمر يتساءل ومع ذلك لماذا يأتي ابن أخي لي بعد ستين عاما ليقول لي ان انه ابن اخي، لا ارث يمكن السؤال عنه، الديار كلها اخذها الصهاينة وملكه من تعبه وعرق جبينه. وعندما سأل ابن أخيه عن سبب مجيئه إليه، كان جوابه مفاجئا وغريبا. ان جاء ليبحث عن كنوز كان أباه والجنود العثمانيين قد دفنوها في الأراضي عند انسحابهم، وان لديه خريطة وعليهم أن يبحثوا معه عن كنز ينفعهم جميعا. انشغل الكل بذلك وبسرية كبيرة عملوا على البحث وفق الخارطة ووجدوا بعض اللقى الاثرية التي بيعت في اسطنبول وتوازعوا حصصهم منها، ووجدوا في اللقية خارطة أخرى وبحثوا ووجدوا ما زاد عن اللقيا الأولى واستفادوا، ووجدوا خريطة ثالثة في اللقيا الجديدة لكن مكانها كان بلدة العباسية التي دمرها الصهاينة وبنوا عليها مدينة جديدة وجزء من مطار بن غوريون، واجّلوا البحث إلى وقت آخر. وسرعان ما عرف اسماعيل والعائلة ان اخاهم مصفى حي وأنه مقعد وقد تجاوز عمره المائة سنة، ومن ثم توفي وطالب في وصيته أن يدفن في مدينته التي أخذها الصهاينة ودمروها وبنوا بلدا غيرها. عمل الجميع على تلبية رغبة مصطفى في الدفن في أرض العباسية بلده أو جوارها، وكان الحل أن دفنوه على جوار نهر الأردن قريبا من بيارة اسماعيل، يطل من قبره على بلدته المدمرة.
تنتهي الرواية واسماعيل يعود الى انتظاره موته وأنه عاش حياته الممتلئة وكان راضيا عن نفسه. كما يعود كل الى عمله ودوره في رحلة الحياة وفي الحضور الفلسطيني الذي صنع حياة جديدة متكاملة عبر عقود من مغادرة فلسطين، كما كانوا يعملون في فلسطين عبر آلاف السنين.
في تحليل الرواية نقول:
نحن أمام رواية جديدة ترصد الحالة الفلسطينية منذ اللجوء حتى الآن، من زاوية جديدة لتؤكد على عدة معان؛ أهمها أن الفلسطينيين لم يستكينوا لواقع اللجوء والضعف والذل، بل بنوا حياة كاملة ممتلئة بجهودهم وبحياة أفضل حاربوا الطبيعة والدنيا لتحقيقها. بنوا المزارع وتعلموا، صنعوا العمل الفدائي، قاتلوا ليستردوا فلسطين، صنعوا شهداء وقادة ورموز وطنية أصبحت نجوما في التاريخ الفلسطيني والعربي.
أعادت الرواية تخليق التاريخ لكي لا ينمحي من الذاكرة ويحافظ على حياته وحيويته ليستمر منبعا للانتماء لفلسطين وحق تحريرها وحق العودة لها.
عبر النموذج مصطفى الأخ الذي غادر بلدته منذ أكثر من ثمانين عاما معبرا عن حنينه لها والعودة ولو على شكل جثة تدفن في ترابها.
الرواية تكاد تكون دراسة مجتمعية عن العادات والبنى العائلية والتزاوج وحضور المرأة في كل المجالات وهيمنتها في الأسرة، تعدد الزوجات قديما وشرعيته، وتنوع حالات حضور الرجال والشباب، بدء من العمل في الأرض الى العمل الفدائي، هذا غير الحضور الفلسطيني في كل بلاد العالم وخاصة البلدان العربية المجاورة لفلسطين.
أخيرا نحن امام تثبيت الحكاية الفلسطينية للزمن.
وبالقياس فإننا نحن السوريين نعيش هذه الأيام اقتلاعا ولجوء وقهرا وظلما يذكرنا بما فعل الصهاينة مع أهلنا الفلسطينيين. واننا نحن ضحايا ظلم النظام الاستبدادي المجرم. واننا نحتاج من يؤرخ روائيا وأدبيا وتوثيقا لما نعيشه، في الداخل السوري وفي بلاد الاغتراب. وهذا ما باشر به الكثير من المفكرين والأدباء، ونحتاج المزيد.
ما أقرب الجرح السوري للجرح الفلسطيني.
بل الجرح العربي واحد.
ولو إلى حين.؟!!.
…… النهاية