قراءة وجودية في نص: ( …وقال لي: “…”) شعر علي عبد الدايم


بقلم: منال الشربيني

و قال لي :
لـ “جيم” جنة نويت ليس من “جيم” جحود
أريد أن أعود
الوقت ضيفٌ وأنا غير مقيم
و منزلي . .
ليس بهذا البرج أو تلك السفينة
أريد أن أعود
( و كان في الحي فتى . .
يعلم الأولاد
قال لهم ما قال عن براءة الحروف
عن بضاعة الكلام
فما الذي
دس بأقمار الفتى
بين عقارب المدينة ؟ ! )

و قال لي :
” ما أكثر البيوت !
غير أنني
رأيتها بيوت عنكبوت
رأيتها أظافرا مسنونة !
أريد أن أعود
أطير نحو بيتي البعيد
. . حيثما
يا صاحبي الوحيد لا وقوف للبكاء
فالربع سلام
و الشجر البري في حديقة البيت سلام
و القبح هجر الديار للمدينة !”

. . وقال :

” أريد أن أغافل الوقت . .
فربما
أنام في سكينة
لكي تتم رحلتي
تحت سماء الله لا سما
الغشم و الضغينة
أريد أن أعود”

 

 

 

 

 

يبدأ الشاعر قصيدته بتعريفين لـ حرف الجيم، قالهما له صاحبه، روحه، ربما، هكذا يوحي لنا النص بعد إتمام قراءته، وقبل الشروع في تحليل الأبيات، إذ قال له، فيما مضى، لدلالة الفعل ” نَوَيْتُ” في حالة الماضي، ونوَى الأمرَ/ نوَى على الأمر: اعتزم فعله وتوجه إليه بعزيمة وهدف. والمصدر من جُحود: (اسم) من الفعل جحَدَ/ جحَدَ بـ، ويعني إنكار الشيء مع العلم بحقيقته. يُقال: “جحد فلان حقه” أي أنكر اعترافه بذلك الحق رغم معرفته به.).
وفي الشطرة التي تليه يقول:
” أريد أن أعود
فـ الوقت ضيفٌ وأنا غير مقيم”
… وكأنما جاء من ” يوتوبيا”، يرفض الوجود من حوله بما فيه من نوايا وإنكار، وبما فيه من جنة وشقاء، ليخبرنا برغبته في العودة، إذ نراه في إطار فلسفي يتماهى في التأمل في ماهية كل من الزمن، والحياة، تلح عليه رغبة الرجوع، والخلاص، حيث السلام والطمأنينة مدفوعًا بالهروب من زئير الأماكن إلى مسكن الروح الأبدي.
وإمعانًا في تأكيد ما تصبو إليه روحه من خلاص، يقول: “الوقت ضيف وأنا غير مقيم”. حيث يتضح هنا صراع بين الرغبة في الهروب من الوقت/ الواقع الحاضر، والرغبة في الخلاص في الماوراء.
في لغة رمزية متأملة، ينقلنا الشاعر معه عن طريق لفظة “العودة” إلى التحليق في الرحب الأوسع للروح، ينشد الخلاص، ولقد تجلت هذه الفكرة في قوله: “لـ “جيم” جنة نوَيْتُ ليس من “جيم” جحود”؛ حيث يفصل بين الجيم الأولى التي ترمز للجنة (الراحة والنعيم) والجيم الثانية التي ترمز للجحود (الكفر بالنِّعَم).
تجلت في النص الشعري أيضًا ثنائية المدينة والبيت، إذ يتضح جليًا مدى الانفصام بين المدينة/ الزيف، والفوضى، والسطحية، و البيت/ السكن، والسلام. فرمزية لفظة” البيت” في النص تشير إلى حالة نفسية، ووجودية تتوق إليها روح الشاعر بعيدًا عن زيف الحياة في المدينة، بصخبها، وبشاعة ساكنيها، وهشاشة بنيانها، إذ يقول: “البيوت بيوت عنكبوت” و”أظافرَ مسنونة”، يشير في مقابل الاستقرار الروحي الذي يجده في بيته البعيد/ المنشود.
ولمَّا يزل الشاعر يعكس صراعًا داخليًا بين الوجود المادى والروحي لكل ما يحيط به، في بوحٍ دؤوب للهروب والفكاك من كل ما يسلب منه سلامه الروحي، ويظهر ذلك في قوله “أريد أن أغافل الوقت… فربما أنام في سكينة”. لكن لفظة “أنام” تنقلنا إلى دلالة الموت، النوم/ موت أصغر، أما الرمزية في عبارة “أنام في سكينة” فهي، دو شك، تشير إلى رغبة الشاعر في الذهاب إلى الضفة الأخرى من النهر، لعله يجد على الماء سُكْنى، وخلاصًا، وانفلاتًا لروحه من فُوضى الزمان والمكان.
يقول الشاعر:
( و كان في الحي فتًى . .
يعلم الأولاد
قال لهم ما قال عن براءة الحروف
عن بضاعة الكلام
فما الذي
دس بأقمار الفتى
بين عقارب المدينة ؟
أما رمزية “الفتى” الذي “يُعلِّم الأولاد” فذات دلالة على قمة البراءة، والنقاء التي كان عليهما قبل أن تعيث المدينة/التلوث المادي والمعنوي، فُوضًى، وضجيجًا في زوايا الوقت والمكان. ويتضح هذا جليًا حين يتساءل الشاعر وهو يتحسَّر :
فما الذي
دس بأقمار الفتى
بين عقارب المدينة ؟
هنا كانت لفظة” الأقمار” معادلًا موضوعيًا للبراءة، و” عقارب المدينة” معادلًا موضوعيًا للفُوضى والضجيج و اللَّا سكينة.
للثنائيات في النص دلالات عالية الرمزية تحمل التناقض بين الهوية/ البيت/ السكن/ السكينة، الخلاص، والمكان/ المدينة/ الفُوضى، الضجة، والتشويه حيث يأتي الشاعر بعبارة “البيت البعيد” رمزًا ليعبر عن الحنين إلى الهوية الأصل، فهل يمكن لنا أن نؤول توقه للبيت البعيد فنذهب به إلى ” بيت التراب” حيث يرتاح الماضى، ويزيح عن كاهله غبار الحياة بصخبها وبيوت العناكب والعقارب؟!!!
اعتمد الشاعر الرمزية والتكرار في مشهدية اللوحة التي رسمها باللغة والصورة حيث نجد تكراراً لجملة “أريد أن أعود”، ما يعكس الحيرة والرغبة العميقة في العودة إلى حالة أولية من الصفاء. بينما تعكس تشبيهات مثل “بيوت عنكبوت” و” أظافرَ مسنونة”، مدى هشاشة. و شراسة الحياة المتمدنة وشدة وطأتها على الروح.
كما جاءت الثنائيات المتضادة كما في المدينة، الضغينة. الحقد. الجحود، والتعقيد مقابل القرية. الهدوء والسكينة والسلام، الوقت، ضيف غير مرحب به،/اللا زمن، الخلاص، والفكاك، والانفلات.
أما على صعيد السرد واسترجاع الأحداث والذكريات، نرى الشاعر يشير إلى شخصية “الفتى” الذي يعلم الأولاد براءة الحروف، تصوير للذاكرة والتعلم في مرحلة الطفولة، حيث لا مكان لشيء عدا البراءة. وفجأة تبرز أنياب المدينة كعنصر فاسد يغير تلك البراءة. يمكن النظر إلى النص من منظور التحليل النفسي، حيث يُظهر النص رغبة اللاوعي في العودة إلى حالة الطفولة أو الصفاء الروحي، ما يمثل محاولة للهروب من الحاضر المليء بالضغوط والقلق.
مجمل القول إن النص يعبر عن تجربة وجودية عميقة تنشد الخلاص بالروح، وتبحث عن السكن، والسكنى والسكينة، وتتبرأ من فُوضى الأماكن، و مادية الزمن. فـ البيت عند الشاعر ملاذه من الدنيا، لكن يبتعد به عن حالته المادية؛ هو ليس ذلك البناء الصخري، في المدينة أو المقابر، بل هو ركن الخلاص الأبدي. هن، يمكن القول إن روح الشاعر تدرك أن الموت في الموت حياة، لذلك نراه في نصه يغازله طوال الوقت

 

المصادر والمراجع:

1- Derrida, J. (1976). Of Grammatology. Johns Hopkins University Press.
2- Freud, S. (1965). The Interpretation of Dreams. Avon Books.
3- Turner, V. (1967). The Forest of Symbols: Aspects of Ndembu Ritual. Cornell University Press.

About محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!