واصلنا المسيرَ نريدُ مكَّة،
لكنْ توقَّفنا في مكانٍ
له من التأريخ شأنٌ، فنَزلنا عنده،
إنَّه موقعُ بدر.
عند مدخَلهِ، رأيتُ نُصْبًا،
وقد خُطَّتْ عليه أسماءُ الشُّهداءْ،
إنهم شهداءُ الغزوةِ الكُبرى.
ثم عرَّجْنا على أرضِ المعركة،
وقد أُحيطتْ كما رأيناها بسور.
في ذلك الميدان،
لاحظتُ بقعةً منخفِضة،
فقيل لي: إنَّها القُلَيْبُ (كما يُظَنُّ)،
مدفنُ قتلى المشركين.
لقد شعرتُ بالرَّهبةِ وانا أحَدِّقُ
في تضاريسِ هذا الميدان،
مُسْترْجِعًا بعضَ الذي كان.
قلتُ في نفسي:
انا الآنَ في بدرٍ؟
إذن انا في حضرةِ الرِّجالْ
إنَّهُ الواقعُ، فعلًا لا خَيالْ؟
في لحظةٍ رحتُ بعيدًا،
فتذكَّرْتُ اجْتِماعًا للرسولْ.
يجمعُ الصحبَ في أمْرِ مَشورَة،
عندما فكَّرَ في أمرِ التَّعَرُّضْ:
هيَ قافلةٌ لقريشٍ عائدةْ،
من بلادِ الشّام، ماذا ترتأون؟
هو ذا أبو بكرٍ يباركْ
ثم يتلوهُ عُمَرْ،
يصدحُ المقدادْ:
يا رسولَ اللهِ إنّا عن يمينِكَ،
عن شِمالِكَ، لا نرْتَدُّ لا نتردَّدْ.
وانْبرى سعدٌ يقولْ،
بعد ان سمعَ الرسولْ،
قالها ثانية: هيّا اشيروا…
يا رسولَ الله!……
ها نحن هنا معشرَ الأنصارِ جندُكْ!
ليس فينا أحدٌّ إلّا وأكَّدْ.
حانت ساعةُ التنفيذْ ….
ها هو (الحُباب) يعطي رأيَهُ
يشيرُ والقائدُ يسمعُ ثم يأخذْ!
هكذا كانوا وكانْ،
هكذا اختاروا المكانْ.
وكأني بالعَريشْ
نعم تذكرتُ العَريشْ
ذاك مركزُ القائدِ، سعدٌ* خطَّهُ،
حبَّذا الأنصارُ يحمونَ الرسولْ،
كي تحيا الرسالةُ، كي تعيشْ
ساءلْتُ إذن أين عُبَيْدَة؟
أين حمزةُ بل أين عليّْ؟
هَبّوا لِفرسانِ قريشٍ بارَزوهم؛
ثم أرْدَوْهم تِباعا!
هنا عُبَيْدَةُ يُجْرَحُ ثم يُحْمَلْ
ها انا الآن أُحدِّقُ في عُمَيْرٍ
اين تمراتُ عُمَيْر؟
بخٍ بخٍ يرمي بهنْ،
لا وقتَ لهُ
يا لهُ نالَ مرادَهْ
أوَّلُ الأنصارِ يسعى للشهادةْ.
تركْنا بعدها موقعَ بدرٍ نحوَ مكة.
وتوقَّفْنا قليلًا عند قبر العامرية،
ميمونةٍ، آخرَ زوجاتِ الرسولْ.
قبرُها كان مهيبًا،
غيرَ أنَّه كان بسيطا،
هو المنزلُ ذاته
حينما زُفَّتْ إليه!
بعد ذلك عرَّجنا
إلى قبر عبد الله بنِ عُمَرْ،
محدِّثٌ فقيهٌ زاهدٌ يؤخذ منه،
رافق النبيَّ في الخندق،
في مؤتةَ، ثم في فتحِهِ مكة.
وبعد وفاته،
شاركَ في فتوحاتٍ كثيرة.
دخلنا مكةَ، فلاحَ من بعيدٍ
برجُها الشاهق.
كان الوقت ليلًا وانا مع أهل مكة،
ويا لَهُم من أهلٍ لم يكونوا
أدرى بشعابِها حسب،
بل كانوا أدرى بشعابِ شعابِها،
وأبنيتِها بأسماءِها القديمةِ.
لم يجِدا صعوبةً في الوصول
إلى الفندق الذي كنت قد حجزت فيه،
وأنا في المدينة.
ودَّعْتُهما واتَّفقْنا على موعدٍ للقاءٍ قادم،
نستطيع فيه زيارة الأماكن المأثورةِ في مكةَ،
بعد ان أُنهي عمرتي الأولى.
جزى الله عني خيرًا أبا المحامِدِ وصاحبَه
على كلِّ لحظةٍ قضيناها معًا،
فلم ألحظْ ايَّ علامةٍ للضجرِ منهما،
رغم خروجِهما في وقتٍ مبكرٍ
من جَدَّةَ الى المدينة،
ثم العودة من المدينة الى مكة،
ورجوعُهما الى جَدَّة.
كلُّ ذلك لأنهم اسيادٌ لا ريبَ،
ومن خدمَ ساد.
* الصحابي الجليل سعد بن معاذ.