اضاءات على الشعر التونسي :”الصباح القتيل:من عتبات العبث الى عتبات الخلاص”
فيصل السائحي
على حافة صباح قتيل ..
تزدحم أرواحهم في يدي
وأنا على عتبات الله واقفة
أحمل ظلي وحيدة
بلا محدقين..
على حافة صباح قتيل
عالقة أنا كوردة حذو قبر قديم …
عالقة أنا بين أعراس الدم
ومرتفعات الأمل الصغير
وأنا على عتبات الله واقفة
أحمل حرفي الثقيل
كي أنثره في ابتسامة الراحلين ..
وتأتي الظهيرة على مضض
بأوسمة الضجر
ومراسيم الدفن
وسماء وغيمات
وسحب على ركح مهرج كبير…
واقفة أنا في قلب الظهيرة
على عتبات عبث زخيم
أبحث عن ظلي الراحل معهم
أجمع أرواحهم في كفي
ثم أبسطها حتى يلتقطها ملاك
في قيامة للعائدين..
عالقة أنا بين الصباح والظهيرة
وغروب لا ينتهي
وأفق ملبد بغبار القتلة ..
ومن مكان بعيد في ذاكرتي
صوت طفلة تناجي ما تبقى من الوقت القاتل
“يا الله هل ستكون معهم في غدهم
أم أن الياسمين قد انتحر في قلوب
القادمين والراحلين ؟”…
الشاعرة أم الزين بن شيخة
فيصل السائحي
أستاذ فلسفة بالمعاهد الثانوية التونسية
كاتب باحث و ناقد في الشعر و الأدب
مقدمة :
**الكتابة بعد غزة: ضرورة أخلاقية وإنسانية**
حين قال ثيودور أدورنو بحرقة: “الكتابة بعد أوشفيتز بربرية”، كان يعبر عن فداحة الهولوكوست، تلك الكارثة التي تركت جرحًا عميقًا في الضمير الإنساني، وجعلت التفكير في الكتابة أو الإبداع كما كان سابقًا أمرًا مستحيلًا. أدورنو كان يرى أن هذه المأساة ستؤثر في الفن والشعر والثقافة لفترة طويلة. ومع ذلك، لم يظهر الألم ذاته عند الحديث عن تهجير الفلسطينيين من أرضهم وارتكاب المجازر في فلسطين، عندما أهدى الغرب الاستعماري أرض فلسطين إلى الصهاينة.
على النقيض من أدورنو، يمكننا القول إن الكتابة بعد غزة واجب أخلاقي وإنساني، وهي مهمة كل مثقف، أديب، وشاعر لتوثيق معاناة شعبه وتحفيز المقاومة. كيف نكتب الآن بعد هولوكوست غزة؟ عندما يتعرى القلب وتتشقّق جذوع الروح، يقف الإنسان كهيكل عظمي يقاوم الهلاك، تسري سحر الكلمة الصادقة والشعر والخيال الرمزي لينقذ الحياة ويبعث فيها إرادة حرة متوثبة. لحظة غزة هي اللحظة التي تظهر فيها الحاجة إلى سحر الشعر والكتابة لمواجهة السقوط الأخلاقي. لعلنا نجيب عن سؤال الطفلة في قصيدة “على حافة صباح قتيل”: هل هناك أمل في المستقبل؟ سحر الشعر الذي يحيي الروح، لتخضر وتزهر، متطلعًا إلى ما تبقى في الكأس، حتى وهو يقاوم طعم المرارة المتبقية فيها.
سؤال الطفلة في قصيدة أم الزين بن شيخة يجب أن يكون بداية الكتابة، كتابة جديدة تقاوم حقارة عالم يتفرج بصمت على مشهد القتل المروع. كيف يمكننا، ككتاب ومثقفين، أن نتجاهل هذه المأساة؟ وكيف يمكننا أن نستمر في الكتابة دون أن نصرخ ضد هذا الظلم الفادح؟ في خضم الظروف القاسية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، يظهر الأدب كنافذة للتعبير عن الألم والأمل. تعكس القصائد، بتجلياتها الفنية والرمزية، تلك اللحظات التي تعجز الكلمات العادية عن وصفها.
في هذا السياق، تبرز قصيدة “على حافة صباح قتيل” للشاعرة والروائية وأستاذة الجماليات بالجامعة التونسية أم الزين بن شيخة كصرخة وجع يتشابك فيها الألم مع البحث عن الخلاص. عند قراءة قصيدة “على حافة صباح قتيل”، ندرك أنها تشكل مثالًا بارزًا لهذا النوع من الأدب. رغم أنها لا تذكر غزة صراحة ولا تحيل إلى وقائع مرجعية، إلا أن ما يميزها هو شبكة معقدة من الرموز والاستعارات مشحونة بالتناقضات والانفصالات التي تغوص في عوالم خيالية عجائبية تنتشلنا من عنف الواقع المرجعي.
تحملك قصيدة أم الزين بن شيخة إلى حافة الهوة الوجودية، حيث تتداخل الرموز وتتشابك الدلالات في متاهة من الأسرار التي تُبقي القارئ في حالة من الاضطراب والتردد. قراءة نصوصها ليست مجرد تجربة أدبية؛ إنها مغامرة في عوالم مشوشة، حيث يتناثر المعنى بين الشقوق، وتتحطم الأيقونات الرمزية إلى شظايا من الغموض.
عند الغوص في عمق الأبيات، تلتقي بعبارات مشحونة وصور متناقضة، لتجد نفسك في دوامة من الحيرة. كل سطر يشكل معضلة جديدة، وكل رمزية تُبقيك على عتبات الارتباك. الصباح القتيل، العتبات الموحشة، تلك المعاني التي تتآكل في خضم التصورات المتباينة، تجعل كل خطوة نحو فهم أعمق رحلة متعبة، مرهقة، ومذهلة في آن واحد.
لكي تفك طلاسم أم الزين، عليك أن تخترق عتبات عقلها، أن تتجاوز حدود المنطق المعتاد، لتكشف عن كيفية تفكيرها ومهارة تشبيك الرموز. يجب عليك أن تغوص في أعماق رموزها، أن تتجاوز حواجز الغموض، كي تصل إلى جوهر رسالتها. ذلك ليس بالأمر السهل، بل هو تحدٍ للقدرة على التوغل في أغوار الفكر، للوصول إلى فهم حقيقي للمنطق الذي يصنع عالمها الشعري.
خصائص الرمزية الشعرية في قصيدة ” على حافة صباح قتيل”
قبل الشروع في تحليل البنية الرمزية للقصيدة، يجب التوقف عند أسلوب أم الزين بن شيخة في الشعر الرمزي وتسليط الضوء بصورة موجزة على خصائصه الأساسية:
- **التكثيف الرمزي**: استخدام رموز متعددة الدلالات تعبر عن مشاعر وأفكار معقدة، مما يتيح إمكانيات تأويل لا حصر لها.
- **الاستعارات العميقة**: توظيف استعارات متعددة الأبعاد،يفتح امكانيات لامحدودة للتاويل و القراءة.
- **التناقضات الشعرية**: التناقضات الكثيفة في نص القصيدة بين الحياة والموت، الجمال والألم، والأمل واليأس، هي ما يميز الصور الشعرية للتعبير عن تعقيد التجربة الإنسانية وتجربة الصراع مع الشرو قوى الموت.
- **الصور الشعرية الغنية**: تضفي جمالًا على الواقع المرير، مما يفتح باب التحرر من سجن الواقع عبر تجربة الشعر.
- **الأسلوب المكثف**: استخدام لغة مركزة تعبر عن مشاعر قوية بأقل عدد من الكلمات.
الصباح القتيل :من عتبات العبث الى عتبات الخلاص
تضعنا الشاعرة أمام مفارقة عميقة حول رمزية الصباح، الذي يرتبط عادةً بالبداية المتفائلة والمفعمة بالأمل. لكن في قصيدتها، يصبح رمزًا للخراب والألم، محملاً بثقل الأسى. إنه حافة بين الأمل والموت، يعكس حالة من الحيرة والمرارة، وكابوسا يحيط بوجود الإنسان.
الصباح القتيل يصور مشهدًا من المعاناة، حين يتحول كل شعاع نور إلى سهم يمزق الأحلام. هذا الفجر القاتم يعبر عن الإنسان المتألم الذي يقف على حافة بين الحياة والموت. يصبح الصباح القتيل رمزًا للوجود البشري بتناقضاته وصراعاته، فتتحول البدايات إلى نهايات، والأمل إلى سراب.
إن بشاعة الصور التي يحملها الصباح القتيل ليست إلا انعكاسًا لبشاعة ترسخت في أعماق الشاعرة، نتيجة مشاهد حرب الإبادة التي دمرت صورة الإنسان في غزة القتيلة. فالصباح الذي كان رمزًا للأمل والبدايات، أصبح في قصيدتها رمزًا للخراب والألم، تترجم بوضوح صورة الفجر الدامي والمآسي التي شهدتها المدينة.
ان قصيدة ام الزين بهذه الملامح الرمزية المشحونة بالياس و الحزن الى درجة الشعور بعدم الجدوى لا تشذ عن الاتجاه الشعري العربي المعاصرالذي تميز منذ النكبة الفلسطينية بهذا الميل الصارخ نحو الحزن الى درجة العبثية احيانا . فالجيل الذي يكتب الشعر منذ تلك الكارثة هو الجيل الذي ” ينبغي ان يسمى بجيل الهزيمة” جيل الحزن و هو ما برز مثلا في اشعار الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان التي تعبر فيها عن هذا الياس الى درجة العبثية (1)
انسان هذا العصر قاحل فقير
تاكلت جذوره تسطحت ابعاده
سدى نريد الحب ان ينمو و لا ….
اعماق و لا جذور
هذا الحزن الى درجة اليأس و الذي نجد جذوره في الهزيمة التي ترسخت في الذات العربية منذ النكبة نجده في قصيدة ام الزين من خلال كثافة رمزيات الموت و القتل و انعدام الافق و الشك في امكانات التغيير .فرمزية الصباح القتيل مشحونة باليأس الى درجة العبث و هو ما يتجلى في الابعاد التالية :
**1. البعد الوجودي: العبثية و العدم**
– يشير “الصباح القتيل” إلى عبثية الحياة وفقدان الأمل في كل بداية جديدة. الصباح الذي يُفترض أن يجلب الأمل والتجدد، يصبح في هذا السياق قتيلًا، ما يعكس انعدام المعنى في مواجهة الفوضى والدمار
– يتجلى قلق الإنسان الوجودي في فكرة “الصباح القتيل”، حيث تُسلب منه القدرة على رؤية بداية جديدة أو تجربة أمل. يصبح كل صباح تذكيرًا بالخراب والفقدان، مما يفاقم شعور الشاعرة بالقلق وعدم الاستقرار.
**2. البعد السياسي: اليأس و المرارة**
– هذا “الصباح القتيل” يعبر عن مأساة شعب يعيش تحت وطأة القصف والإبادة. الصباح، الذي كان من المفترض أن يكون رمزًا للسلام والتجدد، يتحول إلى رمز للدمار والموت. تعبر هذه الصورة عن الوضع المؤلم الذي تعاني منه غزة، حيث يتحول كل صباح إلى تذكير بواقع العنف والدمار. هذا الواقع يقتل الأمل ويغتال كل فرصة للتغيير .
هذه الصورة القاتمة للصباح القتيل حيث يمتزج الدخان بآهات الأمل المكسور،و تتردد صرخات الإنسانية في فضاء مشحون بالظلام. هناك، حيث تستلقي الأرض بين أنقاضها، وتلتف المأساة بخيوطها السوداء حول القلوب، تبحث الأرواح المذبوحة عن بصيص نور يكسر حلكة الليل. في هذا المشهد القاتم، تتجسد معاناة الحياة، كما في قصيدة “ارض اليباب ” التي تروي تفاصيل العدم والقنوط، حيث تبرز صور الدمار كرموز للقلق العميق.(2)
تبدأ قصيدة ارض اليباب او الخراب تماما مثل الصباح القتيل بمشهد مؤلم يصف فيها اليوت “الأرض التي لا تنمو فيها الحياة”، و “الشمس التي تشرق بلا دفء”، تزرع الشعور بالوحدة واليأس و تشهد على سطوة الخراب والفوضى.
في “على حافة صباح قتيل”، الصباح يتجلى كرمز للمساحات الرمادية التي تتوسط بين الحياة والموت. إنه لحظة من الانتظار المشوب بالقلق، حيث يتحدى الفجر القادم ظلاماً من العذاب المستمر. الصباح القتيل هنا لا يمثل بداية جديدة، بل استمراراً للمأساة، وتحويلاً للأمل إلى صرخات صامتة.
في “أرض الخراب”، الصباح يشير إلى محاولة جديدة في عالم غارق بالدمار. هو بداية متأخرة، تغلفها ظلال الفوضى وعدم اليقين. لا يقدم الصباح في هذا السياق الأمل، بل يضاعف الإحساس بالفشل المستمر في إحداث تغيير حقيقي.”الضوء الذي يأتي بعد الفجر هو ذات الظلام الذي كان موجودًا، تكرار لا نهاية له”
يبرز الصباح في القصيدتين كرمز مميز للمعاناة المستمرة، حيث يعكس كل منهما حالة من الألم المستمر والضياع. في “على حافة صباح قتيل”، يعكس الصباح الواقع الفلسطيني المؤلم، في حين يعبر “أرض الخراب” عن فشل الإنسانية في تجنب دمارها. كلا الصباحين يعكسان التوتر بين الأمل والمرارة، بين البداية التي لا تنتهي وبين الدوامة التي لا تنفك تتجدد. في النهاية، يظهر الصباح كرمز للألم الذي يتجاوز حدود الزمن، ويعبر عن محطات تعبيرية عن الحيرة المستمرة والبحث عن الخلاص في عالم يغمره الخراب.
العتبات والله: رحلة بين الانتظار والتجلي**
في قلب هذا الخراب، تبرز فكرة الخلاص الإلهي عند اليوت كأمل بعيد. هنا، حيث يزداد الدمار من حولنا، يبقى الإيمان بالله هو النور الذي يهدي في ظلام الأزمات. يقول الشاعر: “وفي عمق الظلام، نبحث عن نور من السماء”، ليؤكد على اللجوء إلى الله كطوق نجاة وسط المحن.
و هو المنعطف ذاته الذي نجده في قصيدة على حافة صباح قتيل : البحث عن الخلاص.
“وأنا على عتبات الله واقفة”، هي عبارة تحمل دلالة عميقة من الترقب والانتظار أمام قوة كبرى. تُجسد هذه اللحظة لحظة الوقوف على أعتاب الأمل والخلاص، منتظرة تدخلًا إلهيًا يغير الواقع.
تشير لفظة “العتبات” إلى حدود الأشياء وأطرافها، وهي نقاط تحول من حالة إلى أخرى.و هي لغويًا، الحافة التي تفصل بين الداخل والخارج، و تشكل نقطة عبور. فالعتبات ليست مجرد نقاط عبور فيزيائية، بل هي لحظات تحول نفسية ووجودية تصف الانتقال من حالة إلى أخرى. هي مواقع تحول ومرور، حيث يتلاقى النقيضان: البداية والنهاية، الوجود والعدم، الاستقرار والحركة. مساحات تُتيح للذات تجاوز حدودها والتفاعل مع التجربة بطريقة جديدة
إحدى النقاط المهمة في “الوجود والزمان” لهيدجر هي الفكرة “االتي تشير إلى لحظة الانتقال التي يتخذ فيها الإنسان قرارًا حاسمًا يغير مجرى حياته. هذه اللحظات تمثل العتبات الوجودية، حيث يتجاوز الإنسان ذاته الحالية ويستكشف إمكانيات جديدة للوجود..هنا تحديدا يمكن ان نفهم معنى ان تقف الشاعرة على عتبات الله (وأنا على عتبات الله واقفة ..احمل حرفي الثقيل)
هل بلغ اليأس من امكانية التغيير البشري للواقع الماساوي الى تسليم هذه المهمة الى قوة الهية معجزة ؟ يتحدث مارتن هايدغر في أعماله، خاصة في نهاية حياته، عن فكرة أن الله وحده يمكن أن ينقذنا. اذ يرى أن الوجود البشري في حالة من السقوط والاغتراب، وأن الخلاص الحقيقي يأتي من التدخل الإلهي. في حواره مع Der Spiegel، قال هايدغر:
> “فقط إله يمكن أن ينقذنا.” ،(3 )
هل يمكن ايضا ان نتحدث عن نزعة صوفية لدى ام الزين تبرر لها اللجوء الى الله؟ ا
ما يبرر هذا التاويل ايضا هو ما لفكرة عتبات الله من اشارات الى توجه صوفي لا نغفله في تمثل الشاعرة لفكرة الخلاص. في الأدب الصوفي، ترمز العتبات إلى المراحل الروحية التي يمر بها السالك في رحلته نحو الله، لتعبر عن الانتقال من حالة الوجود العادي إلى حالة القرب الإلهي. في كتابه “الفتوحات المكية”، يشير ابن عربي إلى هذه الفكرة “العالم العلوي هو عتبة للحقائق الإلهية” (4) يعكس هذا القول نفس المعنى الذي تتطرق إليه الشاعرة، حيث تمثل العتبات مرحلة انتظار وترقب و أمل في تدخل الهي. و في كل الحالات فان الحاجة الى انقاذ الهي ليس سوى تعبير رمزي يحيل على حالة اليأس و الاحباط من امكانية تغيير في الواقع العربي.
ليس اليأس و شعور الاحباط القاتل بالامر الجديد في الشعر العربي خاصة منه ذلك الشعر الذي افرزته النكبات العربية المتتالية و هو ما نعثر عليه مثلا في أشعار بدر شاكر السياب في قصيدته “قافلة الضياع” من ديوانه “أنشودة مطر”…
أرأيت قافلة الضّياع أما رأيت النازحين
الحاملين على الكواهل من مجاعات السنين
آثام كل الخاطئين
النازفين بلا دماء
السائرين إلى وراء
تثير اشكالية البحث عن الخلاص في القصيدة “على حافة صباح قتيل” الكثير من التساءلات التي تحتاج الى مقاربة تاويلية حول المعنى الذي تتجه اليه الشاعرة في تحديد فكرة الخلاص : فمن جهة توحي لنا القصيدة بان الخلاص قد يكون في الوقوف على عتبة الاله لينقذنا و من جهة اخرى تفاجئنا بوقوفها على عتبات العبث بحثا عن ظلها الضائع ؟ كيف يمكن فهم هذه المفارقة ؟
في عالم يكتنفه عبث زخيم، حيث يلتقي الزمان والمكان في نقطة تجمدت فيها الأحلام وتلاشت فيها المعاني، تقف الشاعرة في مواجهة صراع لا ينتهي. “قلب الظهيرة” يمثل ذروة من الجمود والركود، حيث يصبح كل حلم مشروع قد مات، و ينساب الوجود في دورة مفرغة من الفوضى. في هذا الوجود العبثي، يصبح كل جهد وكل أمل مجرد صدى ضائع في فراغ لا يرحم. هو مكان لا تكتمل فيه الأفكار، حيث تتداخل المعاني لتجعل كل محاولة للنجاة تبدو عبثية.
لكن، كيف يمكن للشاعرة أن تجد في عتبات الله ملاذا وسط هذا العبث؟ كيف يمكن للعتبات الإلهية أن تكون المنقذ من عبثية الكون؟ هنا، نجد مسعى الشاعرة في الانتقال من العتبات العبثية إلى العتبات الإلهية، وهو تناقض يعبر عن أعمق صرخات الروح البشرية. على عتبات الله، تجد الشاعرة ملاذًا يحمل في طياته الأمل والراحة التي لا يمكن العثور عليها في عالم عبثي. و على عتبات العبث ستكون مهمتها البحث عن ظلها الضائع.( على عتبات عبث زخيم … أبحث عن ظلي الراحل معهم )
**العثور على الخلاص في الإلهي:**
تُمثل عتبات الله كملاذ تجسيدًا للبحث الدائم عن معنى في قلب الفوضى. هنا، حيث تفشل جميع محاولات إضاءة الطريق في ظل العبث، يكون اللجوء إلى العتبات الإلهية بمثابة ضوء ينير الطريق في أحلك ساعات الظهيرة. هي نقطة التحول من عالم الفوضى واللا معنى إلى عالم من الأمل والإيمان. هذا التحول من العتبات العبثية إلى العتبات الإلهية يشير إلى نقلة روحية عميقة، حيث يصبح اللجوء إلى الله هو الطريق الوحيد الممكن للنجاة والتجدد.
التناقض بين العتبات العبثية وعتبات الله يظهر كصراع بين الظلام والنور، بين الفوضى والهدوء، بين اللامعنى والمعنى. في هذا الصراع، يصبح الإيمان بالله كملاذ هو الاستجابة الفطرية للبحث عن الحقيقة في عالم يبدو عديم الجدوى. هو بحث عن الضوء في نهاية النفق المظلم، حيث توفر العتبات الإلهية بديلاً حقيقياً للعبث الذي يحيط بالوجود البشري.
**الفراغ والقداسة:**
إذا كانت العتبات العبثية تعبر عن فراغ لا يتنهي، فإن عتبات الله تمثل القداسة والنقاء التي تتجاوز حدود الوجود المادي. من خلال هذا الانتقال، تعبر الشاعرة عن الإيمان بأن وراء كل عبث يمكن العثور على معنى أعمق، وبأن الإلهي يظل ملاذًا يستطيع أن يعيد ترتيب الفوضى ويجلب راحة للروح المتعبة.
** عتبات العبث بحثا عن الظل الضائع :**
يمثل وقوف الشاعرة على **عتبات العبث** نقطة تحول جوهرية في تجربتها الروحية والنفسية، حيث تلتقي مع تعقيدات الحياة المليئة بالفوضى واللامعنى. ، تجد الشاعرة نفسها في مواجهة مباشرة مع واقع يهدد القيم الإنسانية ويطحن الروح تحت عجلات اليأس.
وفقًا لألبير كامو، العبث هو التناقض بين رغبتنا في العثور على معنى للحياة وعدم قدرة الكون على تقديم هذا المعنى بوضوح ( 5 )في هذا الصراع بين القيم السامية والواقع القاسي، تشهد الشاعرة تدمير الإنسانية وتفككها، ما يعكس عمق الأزمة الوجودية التي تواجهها.
ما دلالة البحث عن الظل في عتبات العبث ؟
يستلزم البحث في دلالة الظل في القصيدة الكشف عن الخلفية النظرية التي قد تكون الهمت الشاعرة رمزية الظل في لحظة وقوفها على عتبات العبث . و هي الرمزية التي وظفها بكثافة كارل غوستاف يونغ، عالم النفس السويسري في الكثير من اعماله
في فلسفة كارل يونغ، يُمثل **الظل** الأجزاء المظلمة والمكبوتة من النفس التي نميل إلى إنكارها أو تجاهلها. هذه الجوانب غير المقبولة تنبثق بشكل مكثف في أوقات الأزمات أو الصراعات. في كتابه “ذكريات، أحلام، تأملات” يشرح يونغ رمزية الظل كاحالة على الأجزاء المكبوتة والمرفوضة من الشخصية، والتي يتم دفعها إلى اللاوعي لأنها تتعارض مع الأنا الواعي. هذه الأجزاء تبقى في الظل لأنها تتعارض مع القيم والمعايير التي يتبناها الفرد بوعي.
يؤكد يونغ أن مواجهة الظل والتعرف عليه هي خطوة حاسمة نحو تحقيق التكامل النفسي والنمو الشخصي. من خلال مواجهة الجوانب السلبية والمظلمة في شخصيتنا، يمكننا أن نصبح أكثر وعيًا بذاتنا وأكثر توازنًا. يوضح يونغ أن عملية مواجهة الظل تتطلب شجاعة وصدقا مع الذات.
يتحدث يونغ عن أهمية الظل وعملية التكامل النفسي: “كل شخص يحمل ظلاً، وكلما كان الظل أكثر كبتاً، كلما كان أكثر سواداً وكثافة. إذا كان الوعي يفتقر إلى وعي بوجود هذه الصفات السلبية، فإن الفرد قد يكون مملوكًا لهذه الظلال في لحظات غير متوقعة.”
يشير يونغ إلى أن العمل على دمج الظل في الشخصية الواعية هو عملية مستمرة وصعبة ولكنها ضرورية لتحقيق التوازن النفسي: “لا يمكن للمرء أن يصبح مستنيراً بتخيل أشكال الضوء، بل بجعل الظلام واعياً.”
فهم الظل هو جزء من عملية فردية لتحقيق الذات. من خلال التعرف على جوانب شخصيتنا التي نفضل إنكارها أو تجاهلها، يمكننا تطوير فهم أعمق لأنفسنا وتحقيق توازن نفسي أكبر. هذا لا يعني القضاء على الظل، بل التعامل معه ودمجه في شخصيتنا بشكل صحي. (6 )
حينما تقف الشاعرة على عتبات العبث، فإنها تتعامل مع هذه الأبعاد المظلمة التي تعكس تدمير القيم الإنسانية وتفككها. هذا الموقف يمثل مواجهة مع الظل الشخصي الذي يكشف عن الصراعات الداخلية التي لا يمكن تجاهلها.
بحث الشاعرة عن **ظلها** يُعتبر رحلة نفسية عميقة للتصالح مع الأجزاء المخفية من ذاتها. في هذا البحث، تسعى لإعادة اكتشاف معنى فردي وشخصي وسط عالم يبدو مغمورًا بالعبث. عملية التصالح مع الظل تتطلب مواجهة الجوانب التي قمنا بإخفائها أو إنكارها، وهي عملية تصفية داخلية للوصول إلى الذات الحقيقية .
بهذا التاويل الذي نراه لرمزية الظل نخلص الى النتائج التالية :
- تُظهر رحلة الشاعرة البُعد المأساوي للصراع بين الأمل واليأس. هي مواجهة مستمرة بين القيم التي كانت تسعى لتحقيقها والواقع الذي يشكل تهديدًا لها. هذا الصراع يعكس الصعوبة في العثور على معنى في عالم يبدو خاليًا من المعنى، مما يجعل رحلة الشاعرة رحلة مأساوية في سعيها لإيجاد الإنسانية والأمل في عالم يغرق في اللامعنى
- ان العلاقة بين الوقوف على عتبات الله و الوقوف على عتبات العبث ليست علاقة تناقض : فاللجوء الى الله هو استدعاء لقوة خفية تنقذ الانسانية من نفسها و البحث عن الظل على عتبات العبث هو دعوة الى مواجهة الذات و التصالح معها كشرط امكان كل بحث عن المعنى . هذا المعنى نصنعه نحن في عالم بلا معنى.
- تحمل هذه المقاربة موقفا محددا من الذات العربية المهزومة : ان الخلاص يكمن في مصالحة حقيقية مع التاريخ العربي و مع الجذور الروحانية الايجابية الملهمة فيه( عتبات الله) و في مصالحة مع الذات و التحرر من العوائق التي تعوق الذات العربية عن الانجاز و الفعل(عتبات العبث بحثا عن الظل).
سؤال الطفلة : صرخة من اجل المستقبل
ان الوقوف على عتبات الإله والبحث عن الظل للتصالح مع الذات هو الذي يفسر كثافة الثنائيات الرمزية في القصيدة، حيث تتداخل الأرواح والظلال، والظهيرة وأوسمة الضجر، والظل والقيامة، والغروب والأفق الملبد، والوردة والقبر القديم، وأعراس الدم ومرتفعات الأمل. هذه الثنائيات تعكس الصراع الداخلي للشاعرة وهي تسعى لإيجاد توازن بين القيم الإنسانية المفقودة والواقع القاسي الذي يحاصرها. لذلك يأتي سؤال الطفلة كصرخة جيل الجديد يتطلع الى التغيير: “يا الله، هل ستكون معهم في غدهم، أم أن الياسمين قد انتحر؟” هذا السؤال يحمل رغبة في التحرر من قسوة الواقع وإيجاد بصيص أمل في مستقبل يبدو ملبداً بالظلام. عبر رمزية الياسمين كرمز للسلام والجمال والغد المشرق، تتجلى الرغبة العميقة في تجاوز المعاناة والوصول إلى معنى حقيقي وسط العبث، و هو ما يعكس الصراع الأبدي بين الأمل واليأس في قلوب الأجيال القادمة.
سؤال الطفلة ينبعث كانين حزين يعبر عن ألم عميق وحنين إلى أمل يكاد يتلاشى. تتأمل الطفلة في مصير الأحباء وتتساءل عن وجود بصيص أمل في مستقبل مغلف بالظلام، سؤالها مشحون بالقلق والشعور بالعجز أمام الزمن القاتل. يتجاوز حدود البراءة، ليصبح رمزًا لتساؤلات وجودية تتعلق بمصير الإنسان ومعنى الحياة في مواجهة الفقدان و تساؤلات عن امكانات التحرر من التوحش الذي يحرق كل معالم الحياة في وطن جريح..
**سؤال الطفلة: براءة تتحدى القسوة**
في القصيدة، يتألق سؤال الطفلة كقطرة ندى على ورقة غارقة في العتمة، ليبث شعاعًا من النور في عالم مظلم. السؤال البريء للطفلة، كنبضة حياة ترفض الاستسلام لموتٍ بارد، يتسلل بفطرته النقية ليعبر عن فضول لا يُقهر. هو ليس مجرد تساؤل عابر، بل هو نداء ملح، صرخة روح صغيرة تبحث عن إجابة تشفي جراحًا قديمة.
كيف يمكن فهم رمزية سؤال الطفلة في علاقتها بشبكة الرموز في القصيدة ؟
**سؤال الطفلة: “صرخة الطفولة في وجه الموت”
يتحول الصباح، الذي يجب أن يكون رمزًا للبداية الجديدة والنور، في هذه القصيدة إلى “صباح قتيل”، لحظة مشحونة بالألم واليأس. كأن النور تم اغتياله قبل أن يولد، تاركًا خلفه عتمة ثقيلة وأملًا مقتولًا. الصباح القتيل يعكس تلك اللحظة التي تتطلع فيها الروح إلى بداية جديدة، لكنها تجد نفسها مقيدة بأغلال الماضي والموت.
تتجسد العلاقة بين سؤال الطفلة والصباح القتيل في تلك المسافة القصيرة التي تفصل بين الأمل واليأس. الطفلة، بسؤالها البريء، تسعى لفهم هذا العالم القاسي، وتبحث عن بصيص من النور في قلب العتمة. سؤالها هو تمرد على الصباح القتيل، تحدٍّ للموت الذي حاول وأد الأمل. وكأنها تقول: “حتى في أقسى لحظات الموت، يمكن للبراءة أن تعيد الحياة”.
يمكننا أن نجد في أشعار محمود درويش صدى لهذا الصراع بين الأمل واليأس، البراءة والموت. في قصيدته “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، يقول درويش:
علَى هَذِهِ الأَرْض مَا يَسْتَحِقُّ الحَياةْ: تَرَدُّدُ إبريلَ, رَائِحَةُ الخُبْزِ فِي
الفجْرِ، آراءُ امْرأَةٍ فِي الرِّجالِ، كِتَابَاتُ أَسْخِيْلِيوس، أوَّلُ الحُبِّ، عشبٌ
عَلَى حجرٍ، أُمَّهاتٌ تَقِفْنَ عَلَى خَيْطِ نايٍ, وخوفُ الغُزَاةِ مِنَ الذِّكْرياتْ.
تتردد هذه الكلمات كصدى لسؤال الطفلة، التي تبحث في عالمها الصغير عن معنى الحياة في ظل موت الصباح. الطفلة بسؤالها تعيد تذكيرنا بما يستحق الحياة، حتى في أقسى الظروف. كما يعبر درويش عن تلك التفاصيل الصغيرة التي تمنح الحياة قيمتها، نجد في سؤال الطفلة تذكيرًا بأن البراءة والأمل يمكن أن يتحديا قسوة الواقع.
سؤال الطفلة هو كبحث عن الظل المفقود، عن النور الذي يتسلل من بين ظلال الموت. هي ترفض الاستسلام لليل الأبدي، وتنادي على الصباح الجديد ليولد من بين رماد الصباح القتيل. هذا الصراع بين البراءة والموت، بين الأمل واليأس، يتردد في كل كلمة من كلماتها، كما يتردد في كل سطر من سطور درويش.
1- **النداء إلى الله:**
توجه الطفلة ندائها إلى الله، بحثا عن “ظلها الراحل مع الأرواح” و”القيامة للعائدين”، بما يعزز الأمل في البعث والعودة للحياة. يعبر هذا النداء عن البحث عن طمأنينة روحية وسلام داخلي وسط الفوضى والاضطراب، فوحده “ظلها الراحل مع الأرواح”، يعيد اليها الذكريات الجميلة و ذلك الماضي المقترن بالسلام المفقود .هذا ما نجده مثلا في :” تأملات في الخلود من الطفولة المبكرة” للشاعر وليم ووردزورث William Wordsworth أحد أشهر شعراء الإنجليز عندما يقول :
ولادتنا ليست سوى نوم ونسيان:
فالنفس التي تبزغ معنا وتنهض، هي نجمُ حياتنا،
موطنها غير هذه الأرض،
تأتي إلى هنا من ركن قـَصيّ
غير ناسية بالمرة لما كانت وما هي عليه،
ولا تأتي مجرّدة تماماً من كل شيء.
فالنفوس تأتي (إلى هذا العالم) كسحب مَجيدة متهادية
منبثقة عن الله الذي هو دارنا وقرارنا:
نعيم السماء يمتد من حولنا في طور الطفولة المبكرة! (7)
في نظرة ووردزورث، تُعتبر ولادتنا نوعاً من فقدان أصلنا السماوي، وهو مفهوم يتناغم مع سعي الطفلة في النداء الإلهي للبحث عن معنى وسط الفوضى. كما يرى الشاعر الطفولة كمرحلة من البراءة والاتصال الإلهي، وهو ما يعكس بحث الطفلة عن السلام الداخلي بعد الألم. هذا البحث عن استعادة الذات يتناغم مع فكرة ووردزورث عن العودة إلى مصدر الروحانية والنقاء، مشكلاً محاولة للتصالح مع الفقدان والعثور على السلام الداخلي.
تبحث الطفلة عن إجابة ودعم إلهي في مواجهة الفوضى والعنف. و هو ما ينسجم مع “البحث عن الظل والقيامة”، ليعكس محاولة الشاعرة لاستعادة جزء مفقود من ذاتها أو من ماضيها. البحث عن الظل والقيامة يعكس الأمل في العودة إلى الحياة بعد الفقدان، والبحث عن السلام الداخلي بعد الألم. فالنداء الالهي محاولة للتصالح مع الفقدان والعثور على معنى وسط الفوضى. و هي الفكرة التي تقوم عليها القصيدة .
2 – **الياسمين المنتحر:**
يرمز الياسمين في القصيدة السلام والجمال، وتعبر رمزية انتحاره عن فقدان الأمل وانهيار الجمال في قلوب الناس. توحي الشاعرة بوجود تماهي او التقاء بين رمزية انتحار الياسمين و رمزية “الوردة حذو قبر قديم”، لتجسد ذلك التناقض بين الحياة والموت، بين الجمال والألم. ففي حين يعبر انتحار الياسمين عن انهيار القيم الجميلة وفقدان الأمل في المستقبل. تعكس الوردة جمالاً يذوي بجانب الموت، بما يعكس تناقض الحياة والموت في واقع مليء بالعنف والفقدان.
3 – رمزية الوقت القاتل في القصيدة:
يعبر الزمن القاتل عن اللحظات المأساوية المستمرة، بينما تعبر رموز أخرى مثل “أعراس الدم ومرتفعات الأمل الصغير” عن الأمل الذي ينبعث من الألم، مما يعكس الصراع الدائم بين الأمل واليأس. الزمن هنا هو عدو يسرق اللحظات الجميلة ويحول المستقبل إلى كابوس مستمر. هذا التناقض يعزز فهمنا للقصيدة كمزيج من الصراع بين قوى الأمل واليأس.
ليس الزمن في هذه القصيدة مجرد مرور لحظات، بل هو سيف مسلط يسرق منا الأحباء ليتركنا وجها لوجه مع الفراغ. يتلاقى الزمن القاتل مع رموز أخرى مثل “غروب لا ينتهي” و”أفق ملبد بغبار القتلة”، ليعبر عن العنف المستمر والانتظار الدائم لنهاية مأساوية. تتحدث إليزابيث كوبلر روس عن شعور الزمن المتوقف في وجه الألم والفقدان، ما يعزز فهمنا للزمن في هذا السياق كشريك في المعاناة والمأساة.(8)
ويتحول الوقت إلى قوة طاغية تُثقل الروح باليأس. كما يتجلى في كلمات كافكا في *”المحاكمة”(9)، حين يمر “الوقت بطيئاً في ظل قسوةٍ لا تطاق، ولا مفر من قبضته القاتلة”
يتحول الوقت كشلالات الزمن المتساقطة، إلى رمزٍ للتحولات التي تؤدي إلى فقدان الأمل. كما عبر عن ذلك وليم بليك “الزمن يمر كحلم، ويجرف معه كل الأمل والجمال، ليخلف وراءه بقايا متآكلة من النقاء”(10). تصرخ الطفلة في قصيدتنا في وجه هذا التدمير الذي يطال الجمال،و ينزع عبق الياسمين من قلوب الناس.
ليس الزمن القاتل هنا في صرخة الطفلة قدرا حتميا يلغي كل امكانية لتحقيق المستقبل. ان صرخة الطفلة ليست الا تشبثا بالامل في مستقبل اكثر اشراقا يصنعه جيل يأبى الا ان يتمرد لينقذ الياسمين من الموت, لينقذه من “الموت الشرقي ” الذي ينفي كل امكانية للمستقبل و هو ما وصف بشاعته فتحي المسكيني حين عرض النهاية الماساوية للطفل ايلان الكردي (إنّ الزّمن هي أكذوبة الشّرقيين. إنّ أعمارهم تعابير مجازيّة. تظلّ قلوبهم تنتظر يوم الرّحيل نحو جهة مّا لا يعرفونها بالضرورة……. لم يعد ثمّة ما ينتمي إليه الأطفال في المستقبل. إنّ حاضرنا قاعة انتظار رهيبة لما لا يحدث أبدا: المستقبل” (11)
ترفض طفلة ام الزين بنشيخة رغم قسوة الزمن و بشاعة التوحش المصير المرعب لايلان الكردي .
تتغير المعادلة هنا بين طفلة القصيدة و الطفل ايلان: ان الموت الذي تقاومه الطفلة هو “الموت الغربي” :
في زاوية مظلمة من تاريخ البشرية، يتجلى وجه الغرب الاستعماري المتوحش في مشاهد دمار غزة. حيث يتناثر ركام المنازل التي كانت تأوي العائلات، ويختنق الهواء بروائح العفن والدماء. هنا، في شوارع غزة المدمرة، تتبدد الأحلام وتتحطم الأماني تحت وطأة القتل والتدمير الذي يمارسه الكيان الصهيوني بوحشية لا تعرف الرحمة.
بينما ترتفع صرخات الأطفال وتئن النساء تحت الأنقاض، يتجسد الموت الغربي في كل زاوية. مشاهد الجثث الممزقة تروي قصص الألم والفقد، تفضح الوجه الحقيقي للإرهاب الذي يُمارَس بدم بارد. في ظل هذه الفظائع، يبرز الجيل المقاوم(جيل طفلة القصيدة)، ممسكاً بخيوط الأمل وسط الرماد. يتمسك بالصمود والتصدي، متحدياً آلات الدمار الغربية، مصراً على أن تكون غزة رمزاً للحياة رغم كل شيء.
هذه اللوحة السوداوية، تفضح العالم أمام وحشية الاستعمار، وتضع الإنسانية جمعاء أمام مسؤولية أخلاقية للتصدي لهذا الطغيان. فغزة، رغم الجراح، تظل صامدة، تحكي بصمودها قصة شعب لا يعرف الاستسلام، شعب يتمسك بالأمل وسط الدمار، ويرفع راية الحياة فوق أنقاض الموت: يرفض الموت الشرقي و يقاوم مصير “الموت الغربي”
لذلك و على ضوء ما اشرنا اليه يمكننا اعادة كل الشبكة الرمزية للقصيدة الى سؤال مركزي تطرحه الطفلة في نهاية القصيدة و هو السؤال الذي رغم قتامته و ماساويته يحيلنا على نفس تفاؤلي نؤكده من خلال تحليل موجز لاهم رموز القصيدة
**الأرواح والظلال: ثقل الماضي والعزلة**
سؤال الطفلة هنا يصبح كصرخة تنتفض من بين الأرواح والظلال، يملأ الأجواء بتساؤلات بريئة عن مصير الأرواح التي فقدت. تساؤل الطفلة يتغلغل في ظلال الماضي، يحاول إيجاد مكان له بين الحاضر المظلم والمستقبل المجهول. في مواجهة الوحدة والعزلة التي تشعر بها الشاعرة، يأتي صوت الطفلة كصوت الأمل الضائع بين الأرواح، كأنها تبحث عن إجابة لشفاء الروح المتعبة، ولتخفيف الثقل الذي تحمله الأرواح المفقودة.
**الوردة والقبر: جمال وألم متلازمان**
كما تقف الوردة بجانب القبر تعبيرًا عن التناقض بين الحياة والموت، الجمال والألم، يأتي سؤال الطفلة ليكشف عن تلك المشاعر المختلطة. الطفلة بسؤالها تعبر عن تلك اللحظة المعلقة بين البهاء والألم، تسعى بفطرتها لفهم ما وراء هذه الصور المتناقضة. سؤالها يشبه الوردة التي تظل عالقة بجانب القبر، تبحث عن معنى للجمال في خضم الألم، عن الحياة في ظلال الموت.
**أعراس الدم ومرتفعات الأمل: الصراع الداخلي**
سؤال الطفلة هنا يتحول إلى رمز للتحدي الداخلي بين العنف والأمل. تساؤلها يمثل صوتًا يعارض أعراس الدم، ويسعى للارتقاء بمرتفات الأمل الصغير. الطفلة، بأسئلتها، تعبر عن رغبة في الهروب من دائرة العنف، والبحث عن بصيص أمل وسط الظلام. صوتها يصبح كأغنية للأمل في مواجهة صوت الحرب والدمار، كنداء للصمود والبحث عن الجمال رغم كل شيء.
**الظهيرة وأوسمة الضجر: وضوح لا يأتي بالراحة**
في زمن الوضوح والظهيرة، يبرز سؤال الطفلة كعلامة على عدم الراحة والتساؤل المستمر. الطفلة في وضح النهار تطرح أسئلة لا تجد لها إجابة، تعبر عن حالة نفسية حيث الوضوح لا يجلب السكينة، و لا يثمر يقينا بل يزيد من الحيرة والضجر. أسئلتها تملأ الأجواء بنوع من الاضطراب الهادئ، الذي يعكس حالة اللايقين وعدم الرضا حتى في أوقات السطوع.
**البحث عن الظل والقيامة: الأمل في البعث**
تتجلى رمزية سؤال الطفلة في بحثها عن الظل الراحل، محاولة إيجاد مكان له بين الأرواح، تواقه إلى قيامة جديدة للعائدين. الطفلة بسؤالها تزرع بذور الأمل في البعث. هي تطرح سؤالاً يعبر عن الرغبة في النهوض من بين الرماد، عن البحث عن نور يعيد الحياة للأماكن المظلمة. صوتها هو صوت الأمل الذي لا يموت، يبحث عن إجابة تعيد الحياة للقلوب المتعبة.
**الغروب والأفق الملبد: النهاية التي لا تأتي**
في ظل الغروب الذي لا ينتهي، يأتي سؤال الطفلة كضوء يسطع في نهاية النفق المظلم. الطفلة تسأل لتكسر حلقة الانتظار الدائم، تسعى بفطرتها البريئة لإيجاد نهاية لهذا الغروب المستمر. سؤالها يعبر عن الرغبة في تجاوز الأفق الملبد بمشاهد الموت ..، والبحث عن سماء صافية تتسع لأحلامها الصغيرة… ، تسعى لإيجاد طريق إلى النور في ظل نهاية لا تأتي…ما دام الافق ملبدا بالوحوش القتلة..كيف لأمل ان ينبت في غزة المسكونة بالوحوش البشرية المغتصبة؟ .
في النهاية، تتجلى رمزية سؤال الطفلة كنداء للأمل والبراءة في مواجهة قسوة الواقع. سؤالها يعبر عن رغبة عميقة في الفهم والشفاء، في البحث عن الخلاص وسط العنف والظلام. هي تجسد الأمل البسيط والصافي الذي يتحدى كل التناقضات، ويسعى لإيجاد نور في أحلك اللحظات. من خلال ربط سؤال الطفلة بالرموز الأخرى في القصيدة، نرى كيف يتداخل الأمل واليأس، البراءة والعنف، ليشكلوا صورة شعرية تعبر عن معاناة الإنسان وسعيه الدؤوب للخلاص.
الخاتمة
رغم أن أم الزين بن شيخة قد غمرت قصيدتها بعمق الرمزية وكثافة الاستعارة، فإن كل رمز وكل صورة تعكس جرح غزة والوحشية التي تُرتكب فيها. رموزها ليست مجرد زخارف لغوية، بل هي تجسيد لمشاعر غضب شديد لا يمكن إخفاؤه.
في نصوصها، تتحول الرمزية إلى صرخات مكبوتة تعبر عن قهرها تجاه التوحش الذي يشهدونه في غزة. الاستعارات التي تستخدمها ليست سوى وسيلة لإبراز حجم الألم والقهر الذي يعتمل في أعماقها. كل رمز في قصيدتها يضج بآثار الغضب، وكل صورة تروي قصة الجرح الذي يسببه التوحش في الأراضي الفلسطينية.
إن الرمزية في أعمال أم الزين ليست مجرد لعبة أدبية، بل هي تعبير صادق عن مشاعر الغضب والاحتجاج تجاه الظلم والوحشية. ففي كل سطر، تحمل الرموز أوزار الواقع المؤلم، وتتحول إلى صرخات احتجاجية تُبرز معاناة غزة وتفضح التوحش الذي يعيشه الناس هناك.
فيصل السائحي
أستاذ فلسفة بالمعاهد الثانوية التونسية
كاتب باحث و ناقد في الشعر و الأدب
الهوامش
1 – الياس وخيبة الامل في قصائد فدوى طوقان و سيمين بهبهاني لنسرين برزوبي مجلة الكلية الاسلامية الجامعة العدد 57
2 – أرض اليباب” ل ت .س. اليوت الشاعر الانجليزي ترجمة فاضل السلطاني دار المدى 2021
3 – مجلة دير شبيغل حوار مع هيدجر نشر بتاريخ 31 ماي 1976 ترجمة حمودة اسماعيلي نشر بمجلة انفاس من اجل الثقافة و الانسان في 6 مارس 2015
4 – (ابن عربي، الفتوحات المكية، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1999، ص. 150
5 – (كامو، *أسطورة سيزيف*،ترجمة انيس زكي حسن –منشورات دار مكتبة الحياة بيروت.
6 – في “ذكريات، أحلام، تأملات”، كارل غوستاف يونغ ترجمة الدكتور نجيب الحصادي، دار الشروق القاهرة .2015
7- ارهاصات الخلود للشاعر الانجليزي وليم ووردزورث . ترجمة: محمود عباس مسعود . ملتقي المثقفين العرب موقع منابر 20/9/ 2011 مستوحاة من ذكريات الطفولة المبكرة –
8 – كتاب “عن الموت والاحتضار” لإليزابيث كوبلر روس، ترجمة عبد المقصود عبد الكريم دار صفحة 7 السعودية للنشر
9 – (كافكا، *المحاكمة*، ترجمة نبيل حفارالناشر: منشورات تكوين – الكويت / دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع – دمشق / دار الرافدين – بيروت ; الطبعة: الأولى 2018.
10- *”أغاني البراءة والخبرة”*:سلسلة افاق عالمية مجلة تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة ترجمة حاتم الجوهري طبعة اولى
11 – أيلان الكردي… أو الهجرة إلى الإنسانية – مجلة الأوان فتحي المسكيني 10 سبتمبر 2015.