لصحيفة آفاق حرة
***************
أقف في دراستي هذه، مع مجموعة أعمال الأديبة السُّوريّة الأستاذة نوَّار أحمد الشَّاطر، وأبدأ الحديث مع كتابها الأسبق: (هديل قلب)؛ الَّذي صدر في طبعته الأولى في دمشق عام2019، وهو مجموعة نصوص نُقشت على مساحة امتدَّت لـ مئة وستٍّ وأربعين صفحة.
أهدت المؤلِّفة (هديلها) إلى الشَّوق، وشكرته مِن عمق قلب، وقالت عن كلماتها في سياق الإهداء: هي كلمات تنهمر مِن عين الحنين.
وفي تقديم لهذا الكتاب، قال الأستاذ أحمد الشَّيخ علي: هذا الإصدار الواعد مزركش كثوب نيسان، مرهف كنسائمه، معطَّر كنغماته.
*لقد أسْمَعَتِ الأديبة نوَّار الشَّاطر، أسمعتْ بقلمها، وصوَّرت، وخلطت رنَّته وحبره بالأخلاق الفاضلة، ومع هذه الصِّفةِ النَّبيلة يحلو الصَّوت، وتتجمَّل الصُّورة.
والقلم الصَّادق نسيج الحياة الإنسانيَّة بألوانها المختلفة، وقصصها وحكاياتها، وهو نسيج كلمات منقوشة على بساط الذَّاكرة تضمُّ فصولاً تنمو كسنابل الزَّرع، وورد الحدائق، وتقتات منها الأفكارُ شواردَ الخواطر، وتبعث في الوجود همس الحقيقة، وهكذا قلم أديبتنا الأستاذة نوَّار الشَّاطر.
*النَّاقد حسين عوفي قال عن هذا (الهديل): مِمَّا لفت انتباهي هو السِّباق الرُّوحيّ الحقيقيّ بين الشَّكل والمضمون؛ كي تثبت الشَّاعرة قدرة النَّصِّ الحداثويّ في بناء مضمون يستحقُّ التَّأمُّل؛ وذلك باستخدام الانزياح الإضافيّ والدّلاليّ والتَّركيبيّ، مولِّدة لغةً مِن رحم اللُّغة.
في هذه المجموعة يكتشف القارئ الهديل، وقد اعتمدت الشَّاعرة على التَّرابط بين الكلمات وفق انزياحات متقنة بنظام متماسك ومتزامن مع علاقات وثيقة؛ لتبني صورها عبر لغة غير مباشرة.
ومجموعة العلاقات اللُّغويَّة والبيانيَّة والإيحائيَّة القائمة بين اللَّفظ والمعنى، هي الأدوات الفنِّيَّة الَّتي استوعبت أبعاد الصُّور الشِّعريَّة بمقتضى مميّزات متجانسة الألوان.
والصُّور الشِّعريَّة في (هديل قلب)، تنتقل تدريجيَّاً مِن الجزئيَّة إلى الكلِّية، وقد اعتمدت النُّصوص على البنية الصَّوتيَّة للحرف بطريقة لا تشبه تراتبيَّة الخليل بن أحمد، ولا القصيدة السّيّابيَّة، إنَّما بموجب خاصِّية معيّنة، وذلك بالتَّكرار المقطعيّ بنسق صوتيّ معيَّن.
ويتابع الأستاذ حسين رؤيته فيقول: الظّهور والوضوح والإفصاح هو مرتكز عِلم البيان، وغايته إظهار القصد، وهو ناتج عن ذكاء الذّهن وإحساس القلب بأعمق المشاعر، للكشف عن غاية المعنى.
الشَّاعرة نوَّار الشَّاطر تمتلك خيالاً خصباً، وترسم صوراً فنّيّة أسهمت بإضافة طابع أدبيٍّ مميَّز، واعتمدت الانزياح اللُّغويّ بشكل جميل حافظ على المعنى المقصود دون الإخلال به؛ إضافة لتمكُّنها مِن وضع لمسات بديعيَّة دون إسراف أو مبالغة؛ فنجحت بتميّز جدير بالتَّأمُّل.
* تقول الشَّاعرة نوَّار أحمد الشَّاطر في أحد نصوصها؛ مفصحة عن شغفها بالكتابة:
أكتبُ؛ لأزيل غبار الشَّوق المتراكم
في مسامات حكايا الأمس
لأنير قناديل الرُّوح بنسيم المطر
وتقول في نصِّ آخر سمَّته: (هل أتاك حديث الرَّحمة):
لو أنَّ الكلمات تسدُّ الرَّمق؛
لزرعت قمح القصيد في حقول السَّماء؛
لعلَّها تمطر خبزاً.
وتقــول:
كلَّما داهمتني الذَّاكرة
وأشعلتْ نغمات الحنين
ينفرط عقد شوقي
قصيدة.. قصيدة
هكذا تمتلئ السَّماء بالنُّجوم كلَّ ليلة.
وتتساءل في نصٍّ مغرِّد:
كيف لا يصير الزَّنبق
خفَّاقاً بالنَّغــم
عندما تغفو ملامح الورد
في بساتين العطر.
كوكب درّيّ:
في كتابها الثَّاني المعنون: (كوكب درّيّ)، الصَّادر في دمشق عام ألفين وتسعة عشر، وهو أيضاً مجموعة نصوص، تتوجَّه في نصٍّ أوَّلٍ لها متضرِّعة إلى الله عزَّ وَجلّ: لا تتركني لنفسي، وأنقذني مِن الضّياع، ليس لي ربٌّ سواك، وكلُّ عجزي يتوكَّأ على رحمتك، ينادي عفوك أن ردَّني إليك ردَّاً لطيفاً، وأفض على روحي السَّلام، وأنزل عليَّ سكينتك؛ لتخشع جوارحي كلّها لك.
وتقول في نصٍّ آخر: هناك مدينة للنُّور لا مثيل لها على وجه الأرض، تستطيع أن تعانق روحك، وتضمّ أوجاعك، تحتضنك كأمٍّ حنون، وتسندك كأب قويّ، هي عين الحياة، فيها يأتيك الفرح قبل أن يرتدَّ إليك حزنك، هي السّلوة في التَّرحال، والمستقرّ للسَّلام، وروح الأمان، إذا غادرتها يوماً دون إرادتك مثلي، ستحملها دوماً في فؤادك.
*تقف نوَّار أحمد وقفة وجدانيَّة مع رواية (ممو زين)؛ الَّتي ترجمها إلى العربيَّة الدّكتور محمَّد سعيد رمضان البوطي -رحمهُ الله، هذه الرّواية الواقعيَّة تمثِّل قصَّة حبٍّ نبت في الأرض وأينع في السَّماء، وهي تجسِّد في الفتاة (زين) الجمال والعفاف والجرأة، وتجسِّد في الفتى (مم) صورة الإنسان النَّبيل؛ الَّذي يغامر بكلِّ شيء مِن أجل الحفاظ على كرامته.
يقول الدّكتور البوطيّ في مقدَّمة الطَّبعة الثَّالثة: صاغ أحداث هذه القصَّة شِعراً، شاعر كرديّ كبير هو أحمد الخاني، وهو واحد مِن علماء الأكراد الَّذين برعوا في علوم الفقه والفلسفة والتَّزكية والأدب.. وكان مِن آثاره ديوان شِعر باللُّغة الكرديَّة دوَّن فيه أحداث القصَّة.
* في حنايا هذه الرِّواية -تقول الأديبة نوَّار: تعرَّفت لمعنى الحبِّ الإلهيّ لأوَّل مرَّة، ولامسني عمق المعنى.
وتضيف قائلة: بتُّ أؤمن أنَّ هذا القلب لا يحيا إلّا بالله وحده، وهذا هو مفهوم الحبِّ الحقيقيّ؛ الحبِّ الخالد الأزليّ، الحبِّ الإلهيّ الَّذي يحيي رميم الأحلام كلَّما ماتت داخل الإنسان كلّ الأشياء.
وعن الحبِّ الإلهيّ تقول المؤلِّفة:
رواية قلب ليس لها نهاية
السَّماء مسرحها
فصولها الشَّوق
يسطِّرها الدَّمع
بدايتها الحبّ
يشهدها الفؤاد
في محراب الرُّوح.
* وفي إحدى ترنيماتها الجميلة تقول الكاتبة نوَّار الشَّاطر:
هو القرآن فاتَّخذه خليلاً يسندك وقت الضِّيق، يحتويك عندما لا تجد أيَّ صديق، يضمِّد أوجاعك، يلتفُّ حولك ويتسرَّب إلى داخلك؛ فاحتضنه في قلبك بكلِّ حبّ؛ لتشرب نفسُك معانيه فيكون بلسم العمر، ورتِّله بخشوع لتتجلَّى أنوار آياته في داخلك، فتعانق روحُك السَّماء.
لقد تأمَّلت أديبتنا القرآن؛ فوجدته أصدق الحديث، وأعذب الحديث، وأروع الحديث.
إنَّه القرآن الكريم، حبل الله المَتِين، والنُّور الهادي إلى الحقِّ وإلى الطَّريق المستقيم، مَن تمسَّك فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومَن تعبَّد به تلاوةً وتدارساً وتدبُّراً، فقد فاز، وصدق القائل إذ يقول:
أمرٌ وَنهيٌ وَأمثـالٌ وَموعظةٌ وَحكمةٌ أودعتْ في أفصحِ الكتبِ
لطائفٌ يجتَليها كلُّ ذي بصرٍ وَروضـةٌ يَجتنيـها كلُّ ذي أدبِ
* ومع القرآن يطمئنُّ القلب، وينشرح الصَّدر، وتسكن النَّفس، ويهدأ البال، ويرتاح الخاطر، فهو النُّور الكاشف لجميع الظُّلمات القلبيَّة، والمُذهب الأكيد لسائر الجهالات النَّفسيَّة، والمبين الواضح لمجمل الحقائق والأسرار الكونيَّة.
يقول صلَّى الله عليهِ وَسلَّم: ((يقالُ لصاحبِ القرآن: اقرأ وارتقِ، ورتِّل كما كنت ترتِّل في الدُّنيا، فإنَّ منْزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)).
إنَّه كتاب الله الخالد، ومعجزة رسوله العظمى، فيه الحقُّ والنُّور والهدى، يدعو إلى الخير، ويقود البشريَّة إلى الرُّشد، ويرفعها إلى آفاق العُلا، ويمنحها فيضاً مِن النَّقاء والحبّ والجمـال.
إنَّه القرآن.. آيات مِن حول العرش منْزلة، الأرض بها سماء، وهي منها كواكب.. ألفاظ إذا اشتدَّت فأمواج البحار الزَّاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة.. معان عذبة ترويك نقاء البيان.. نور تبصر به سبيل الأمان.. كلمات ترفُّ بندى الحبِّ على ورد الضَّمير.. تبعث في ثناياها معنى الشَّذا ولون العبير.
هل بلغك شِعري؟
الكتاب الثَّالث للأديبة نوَّار أحمد الشَّاطر صدر هذا العام (2021) في مدينة دمشق تحت عنوان تساؤليّ: (هل بلغك شِعري؟)، وفي بدايته تقول: الحبُّ الحقيقيّ ليس هو الحبّ الأوَّل، الحبُّ الحقيقيّ هو الَّذي يأتيك؛ فيحيي فيك كلَّ ما ظننت أنَّه قد مات.
وتقول عن نصوص هذا الكتاب: هي أوراق متساقطة مِن شجرة الحبّ؛ رُويت بمداد القلب.
وعن هذه المجموعة يقول الدّكتور ناظم السّويداوي: يحفل الشِّعر بالكثير مِن علامات التَّمازج والتَّداخل، ويطرح رؤى للذَّات المتشظيّة داخل القصيدة، الأمر الَّذي يفتح لنا باباً واسعاً مِن دلالات وإيحاءات مبعثرة على شكل صراع لا ينتهي بين الأنا والآخر؛ إذ لا يمكن أن تهتمّ حركيَّة التَّعبير الشِّعريّ في القصيدة بمعزل عن وعي المتلقِّي، وهذا إفصاح عن التَّلاقح الرُّوحيّ بينهما، وهذه اللّازمة هي الَّتي تستدعي اللُّغة لتكثيف حضورها داخل جسد النَّصِّ الشِّعريّ؛ المكتنـز أساساً بمزايا الصُّور المتحرِّكة مِن تكثيف واستعارة وكناية، مصبوغة كلُّها بمجازيّات القول.
*وبحسب النَّاقدة فاطمه حيدر العطاالله؛ فإنَّ الصِّراع بين الأنا والآخر شغل الباحثين والدَّارسين والفلاسفة والمفكِّرين في عالم الاتِّصال, وشكَّلت هذه الثُّنائيّة ذروة انفعال الشَّاعر (الأنا) مع الموجودات (الآخر), ثمَّ إِنَّ هذه العلاقة هي علاقة تلازميَّة؛ إذ أنَّ وجود أحدهما لا يتحقَّق إلَّا بوجود الآخر, فهما قيمتان متضايفتان, وهي علاقة تتَّصل بالخصوصيّات الثَّقافيَّة لتأصيل الأنا، وبالتَّالي تشكّلها في عين “الغير”, ومن هنا يتمُّ التَّموقع في حالة الصِّدام والمواجهـة, ثمَّ إنَّ كلَّ وجود إنَّما هو حاجة ضروريَّة في عمليَّة التَّعايش الإنسانيّ؛ وبالتَّالي خلق المثاقفة الفاعلة, فالآخر والأنا قطبان مركزيّان في عمليّة التَّواصل والمقاربة الثَّقافيَّة .
* في (حنايا الحنين) تقول نوَّار:
دمشق سيّدة المدن
ملامحُ الياسمين في حنايا القلب.
وتقول في نصٍّ آخر:
أمشي على أطراف قلبي
خشية أن يستيقظ اللُّؤلؤ مِن المُزن
كي لا تبكيني أطلال مدينة النَّبضات
تلك الَّتي تشظَّت مِن مخاض الوداع.
وتكتب الشَّاعرة نوار الشَّاطر للأطفال، ومِن قصائدها الموجَّهة للطّفل:
أمِّي! يَا أجملَ أَعيادي
يَا ورداً فاحَ ببستَاني
يَا قلباً ضمَّد أَوجاعي
يَا نور الحبِّ الرَّبَّاني
يَا شمساً تشرقُ في عُمري
يَا روحاً تَسهر.. تَرعاني
مَاذا أهديكِ يَا أمِّي!
يَا نَفسي أنتِ وَوُجداني
والشِّعر –كما هو معروف: رافد مهم مِن روافد ثقافة الطِّفل, وهو في الوقت ذاته مصدر رقيّ وارتقاء, ويُعَدُّ مِن أقوى المؤثِّرات في تربية الذَّوق الفنِّيّ, والحسِّ الجمالي؛ لما يجتمع له مِن رونق الإيقاع, ورشاقة التَّعبير, وجاذبيَّة الصُّورة, وهو بذلك يؤدِّي وظيفة مهمَّة ذات أبعاد جماليَّة وشعوريَّة ووجدانيَّة وفكريَّة؛ ولهذا يستأنس الأطفال كثيراً بسماع الشِّعر وحفظه, إذا كان مناسباً لهم مِن جهة ألفاظه وأفكاره وأوزانه وصوره الفنِّـيَّة.
والقصيدة السَّابقة تتضمَّن الإيقاع، وتمتاز بالبساطة والرَّنين، وترسِّخ القيم الإنسانيَّة النَّبيلة المتمثِّلة في المشاعر الصَّادقة تجاه الأمّ..
وبعـد: في فضاءات الأديبة نوَّار الشَّاطر يتكشَّف النَّقاء أكثر نقاءً، وكلمات هذه الأديبة لا تترك لك مجالاً سوى أن تتابع تلك الكلمات، وهي لا تدعك وحدك، وإنَّما تنقلك بصحبة الهمسات الرَّاقية السَّامية نحو رونق مزيد مِن الأحلام الَّتي سرعان ما تعلن عن فلسفة للحبِّ متكاملة.
هي تكتب؛ لتجد ذاتها، وتجعل مِن كتاباتها لوحة جديدة، وتسخِّر المعطيات الرَّادفة لخدمة النَّصِّ الجميل.