كيف ينظر الناقد والشاعر المتلقي لأيّ قصيدة معاصرة من خلال قوة مطلعها (المدخل)، الذي يؤول عليها بصفته عتبة الولوج، وماذا يمثل له المحتوى من صور ركيكة، لا تليق بالخطاب الشعري، وكذلك المفردات لم تكن ذات أبعاد فنية في المعاني، ويقوم الناقد بتفكيك النص بنيوياً ليبين الضعف اللغوي ويكتشف هشاشة المحصلة اللغوية عند الشاعر؟.
نظرة عامة:
الصياغة المتحركة بين الضعف والهشاشة التي يعتمدها الشاعر في مدخل قصيدته تزيح الستار عن عيوب قادمة لا محالة في متن أو روح النص، فالاستهلال ينبئ دائماً عن حدس العمق.
إنّ مطلع القصيدة هو أول بيت فيها، فإذا كان المدخل قوياً شَعَر الناقد بارتياح شديد وعرف مدى قوة الشاعر وقدرته اللغوية وأبعاده الفنية ومدى توظيف خبرته في عالم الشعر وعبر قوة لغوية متماسكة المعنى والمبنى.
إنّ الجماليات والصفات الإيقاعية من صور لها دلالاتها في نهج المطلع الكلاسيكي، حيث تكشف عن قاموساً لغوياً يعكس بيان ولغة الشاعر ذاته؛ فالمفردات لها دلائل ورنين تجذب السامع فوراً، وتملك لبّه للإنصات لكلّ أجزاء القصيدة من المطلع حتى الخاتمة، ويكون المتلقي مشدوداً في الإيقاع والمقياس والمعاني، وكلما كانت اللغة ذات جماليات وأبعاد عميقة، انجذب المتلقي للمتابعة وهو يستمع للقصيدة، حيث يتابع أفكار الشاعر بشغف، وخياله في تسلسل خيالي وعبر جماليات الطرح والأسلوب الكلاسيكي في مطلع القصائد.
هذا الجانب لا يبيح للشاعر صاحب القصيدة أن يهمل التشكيل وترك الهمزة وأيضاً ترك النقطتين في حرف الياء فتتحول الياء إلى ألف مقصورة، وكذلك التفريق بين الهاء في آخر المفردة والتاء المربوطة، فهذه الأمور تعطي انطباعاً أو فكرة بأنّ الشاعر ترك أو أهمل المراجعة والتدقيق اللغوي، ولم يولِها اهتماماً، وهنا يرى الناقد مكامن الضعف؛ لأنه لا يشكل ولا يدقق إلّا الشعر.
إذ يدرك الناقد بعين البصيرة للمفردات المستخدمة ويفرق بين العامية والمستهلكة والمتروكة، وتتبيّن المقدرة اللغوية هنا لتكشف علاقة الشاعر بالمعجم اللغوي مباشرة.
كما يدقق الناقد في روح النص، كذلك القارئ إذا كان شاعراً في جانب آخر يدقق في عمق القصيدة المطروحة، والشعراء يعرفون بعضهم بعضاً من خلال التدقيق في قصائد بعضهم، ولهذا فالناقد له عدة تفاسير، ويقوم بتحليل الكلام بنيوياً ويفكك اللغة المطروحة ويستشف مكامن الضعف من القوة.
وكثير من النقاد يتلقون صدمة عنيفة في مطلع القصيدة فيحجم عن إكمال القراءة، وهذا ينطبق على الشعراء حين يقومون بتقييم النص المطروح، وسوف نسوق بعض الأمثلة كي يتبيّن لنا أنّ تلك المطالع – الدلالة – لا تنبئ بمحتوى رائع من العمق أو من روح القصيدة.
ولا بُدّ من التأكيد على: (مصطلح المطلع) لاختلافه عن: (مطلح المقدّمة)؛ لأنّ مصطلح المقدّمة قد يكون طويل نسبياً، ولهذا فالمطلع في المقدّمة له أهمية كبرى، فهو الذي يبين الحرص لدى الشاعر ومدى قوة الجودة والتمييز، وفي الوقت ذاته هو تثبيت الأمر في الأذهان، حيث تُعدّ الافكار الأولى.
المثال الأول:
يقول الشاعر في مطلع قصيدته (1):
نار على حجر النبي
وشهقة من سورة الإسراء
في بال المدينة
وابتهال التين والزيتون.
إنّ هذا المدخل الشعري للقصيدة لا يشعر الناقد بالارتياح من خلال التصوير، فليس لكلّ نبي حجر، ولا حتى الإنسان العادي له حجر، وليس على ذلك الحجر أية شعلة من النار!!
ونتبيّن في ملاحظة أخرى:
أنّ لسور القرآن الكريم شهقات!!؟؟ ولا شك أنه لا يوجد شهقات لسور القرآن المجيد، بينما ابتهال الفاكهة المذكورة قد تكون مقبولة نوعاً ما وقد لا تكون مقبولة، بحيث إنه لو قال: تسبيح التين والزيتون، بذريعة أنّ كلّ شيء يسبح بحمد الله لكان مقبولاً؛ ولكنّ الابتهال هو دعاء أو تراتيل دينية، ولا أعتقد أنّ المسألة هي مسألة رمز صوفي؛ لأنّ الرمز هو التسبيح ويشير إلى الدلالة بوضوح تام.
المثال الثاني:
يقول الشاعر في مطلع قصيدته:
إنّها ليست قصة صاخبة
وعلى أيّ حال فلمن يمكن أن تحكى
الشخص المعني في هذه القصة
يستيقظ في يوم من الأيام
فلا يعود يعلم أين هو
ولا من هو.
إنّ هذا المطلع هو سرد باهت بعيد كلّ البعد عن الشاعرية ولا حتى ينتمي إلى: (الشعر القصصي)، أو النثر الشعري أو السرد الشعري، أو تحت أيّ مسمّى أو نسق معيّن، فليس فيه أية لغة شاعرية يمكن الارتكاز عليها، و: (وعلى أيّ حال) كلام شعبي محض، والأديب يترفع عن التلفّظ به؛ لأنه لا يرقى إلى مستوى رفيع من الأدب، فلا نقول: على أيّة حال، أو: على كلّ طريقة أو بأية طريقة، ودارسو الأدب الإنجليزي أخذوا دروساً في أدب التحدث، وهذه الجملة ليست من اللغة الكلاسيكية.
إنّ النص آنف الذكر لا يرقى إلى أدب معاصر مع احترامي الشديد للشاعر كاتب النص الذي كنت أتوقع منه نصًّا شاعرياً يجعلني أستمتع في الإبحار في أعماقه وأردّد قراءته مرات عديدة.
ولهذا في مثل هذه المطلع يجعل الناقد والمتلقي يحجم عن إكمال قراءة النص ويضع أكثر من علامة استفهام حول الشاعر نفسه!.
إنّ النص يجب ألّا يتماهى فيه الشاعر بطريقة مشابهة لسلق البيض؛ لأنّ النص حين يخرج للملأ فسوف يحاسب الشاعر على كلّ مفردة.
المثال الثالث:
يقول الشاعر في مطلع قصيدته:
كم تحتاج لتنتزع نفسك من الأسى
أو من صورة حيوان يمضي أمامك.
أين المسألة الشعرية من طرح السؤال: (كم تحتاج)، هذا السؤال سبّب له صداعاً وجعلني لا أتحمّل إتمام القراءة.
وكيف للشاعر أن يطرح هذا الهذيان في مطلع قصيدته بتوجيه مثل هذا السؤال!!
والكلام/ السؤال (لم يكن متساوياً) ولا يعطي حقيقة أو جملة مفيدة كما يقال!.
إنّ الهذيان الذي لا يحمل صورة شعرية بين ثناياه يجعل الناقد في صدمة حين يوجه الشاعر سؤالاً وكأنه في اختبار مدرسي، ومن ثم يدرك سوء الطرح بهذه النوعية من النصوص التي تحتاج إلى تقويم قبل نشرها.
المثال الرابع:
يقول الشاعر في المطلع:
ماذا لو ظللنا صغارا
وظلّت أحلامنا بريئة
نحتفي بحداء جديد
وحقيبة مدرسية خضراء.
ونرى في: (ماذا لو) علامات تعجب كثيرة، وكيف سمح للشاعر أن يتخاطب بهذه الطريقة وكأنه يتحدّث مع صديقه في الشارع!!؟؟
والأحلام التي يتحدّث عنها لم تتحاوز حذاءً وحقيبة، وهنا يقف أيّ قارئ من هذا الانغماس بتعحّب لغياب الصورة الشعرية، أما الناقد فأحسبه أنه سوف يرمي بالمطبوعة جانباً ولن يعود إليها ثانية!.
واضح أنّ النص ليس به لوثة وإنما بخس الشاعر بآلية وقيمة الشعر ونزل إلى مستوى غير متوقع من الرؤية الشاعرية، فهو لم يوظف الخيال ولم يختر المفردات ذات المعاني الجوهرية.
المثال الخامس:
يقول الشاعر في مطلع قصيدته:
انزلوا أشدّ أنواع العقوبات
على الذي لم يرتكب في حياته خطيئة قطّ
لأنه في زماننا هذا قد ارتكب خطأً فاحشاً
ولا تأخذنكم رحمة بالذي لم يسئ إلى أحد
لأنه في زماننا هذا يسيء إلى نفسه!!!
يا للهول من هذه التعليمات الدكتاتورية!!، إنّها: “وصية لهذا الزمان” كما يقول شاعرها، وتصور حجم الجرم والدموية في القسوة فيها، وفي هذا النص، والمشكلة ليست هنا بل المشكلة بأنّ الشاعر محاضر جامعي ورئيس لقسم الفلسفة في إحدى الجامعات.
إنّ حجم القسوة غير المتوقع من الدكتاتورية في مطلع القصيدة الذي ينذر بتطاير الشرر من تلك التعليمات العسكرية، ولستُ أدري ماذا يمكنني أن أسمي هذا المطلع، وأيّ قصيدة تناسب ماهية الشعر، فلا أعرف هل أنّ الشعر بالكلمات الرقيقة أم بالمفردات الملطخة بالدم وذات الوحشية والبعيدة كلّ البعد عن الإنسانية.
ولعلّي أول مرة أقرأ بياناً عسكرياً من شاعر وظّف القسوة الدموية في شعره بهذه الطريقة غير المعهودة في المسرحيات والقصص والأنساق الثقافية الأخرى، ولعلّها موجودة في أفلام الرعب.
تلك الأمثلة التي طرحناها تجعل المتذوق يحجم عن حبّ الشعر، والناقد يتخلّى عن أدواته. أمّا الشاعر إذا استمرّ على هذا النهج، فإنه سوف يتمادى ويتغطرس في نصوص أخرى أكثر عنفاً أو أقسى انحداراً من هذا المستوى.
إنّ غياب الشاعرية وحلول صور كلامية ضعيفة هو الموقف الذي يجعل التراجع في الإقبال على الشعر وعوالمه.