بقلم:عائشة النعيمي
مع نهاية عام 2022, يودع القراء بالمملكة المتحدة أكبر وأقدم متجر للكتب العربية في البلاد بسبب التحديات الاقتصادية، حيث أعلنت مكتبة الساقي عن إغلاق باب متجرها للزبائن للمرة الأخيرة والذي يقع بعنوان 26 ويستبورن جروف، العاصمة لندن.
بعد مسيرة امتدت 44 عاماً، بدأت بسنة 1979, سعت فيها الساقي إلى أن تكون بيتاً يجمع الشتات العربي في الغربة،وأن تغدو جسراً بين الثقافتين الغربية والعربية، لتشجيع الحوار بينهما، والتعريف بالثقافة العربية، وتقديمها للقارئ الغربي، والإضاءة على قضايا تهمّ المجتمع العربي. فتنوعت رفوفها وكتبها العربية بشتى المواضيع والتي امتدت من السياسة والتاريخ حتى والروايات وقصص الأطفال والشعر إلى كتب الطبخ وغيرها بجانب إيجاد قسم باللغة الإنجليزية غني بالترجمات لكُتاب عرب وكتب تتكلم عن الشرق الأوسط، بهدف إثراء المحتوى الإنجليزي عن المنطقة. تميزت المكتبة أيضاً بتوفيرها الكتب المحظورة بالدول العربية والتي لأجلها يزور السياح العرب المكتبة للحصول عليها، فكانت داعمة لحرية التعبير التي غابت عن رفوف المكتبات في الوطن العربي.
في رسالة الساقي المُعلِنة عن الإغلاق كُتِب “ضوء رائد ليس فقط للمغتربين في الشرق الأوسط، ولكن للزوار من جميع أنحاء المنطقة الحريصين على الحصول على الأعمال المحظورة في بلدانهم، وللقراء المحليين الذين يبحثون عن أفضل المعارف المختارة عن المنطقة.”
وقد أسس المكتبة الصديقان اللاجئان من الحرب الأهلية في لبنان أندريه جاسبارد ومي غصوب، بعدما تركا لبنان بسبب الحرب، كانت مي مصابة بعينها وتتلقى العلاج في فرنسا، بعدها انتقلت للاستقرار في بريطانيا، بينما كان أندريه يتنقل في أمريكا اللاتينية. تواصلت مي مع أندريه واقترحت فتح مكتبة عربية في لندن إذ لم يكن هُنالك أيّ مكتبات عربية بينما كان هناك تزايد في أعداد العرب الفارين من الصراع والأنظمة السياسية القمعية.وافق أندريه على الفكرة وانتقل إلى لندن وافتُتِحت المكتبة عام 1979 حيث اتخذت قاعة ويستبورن Westbourne)) مقراً لها, والتي بنيت عام 1861 بطراز شكسبيري كقاعة موسيقى وترفيه, مع تعليق لافته فوق باب المتجر تُظهِر صورة رجل مع حقيبة جلدية على ظهره ينحني لطفلين والتي تشرح معناها السيدة سلوى زوجة المؤسس أندريه والمديرة الحالية للمكتبة: “تعني كلمة الساقي في اللغة العربية بائع الماء. إذا كنت تعرف شعارنا من مكتبتنا، فسترى هذا. إنه الماء، الحياة، المعرفة. هذا هو المعنى الكامل للساقي “.
وكان المبنى الذي تتواجد به القاعة مملوكاً من قِبل الدكتور محمد مكية، وهو مهندس معماري عراقي مرموق أنشأ معرض الكوفة المجاور والذي أُقِيمت فيه فعاليات ترويجية حية للساقي، إذ أصبحا معاً، مركزًا ثقافيًا للشرق الأوسط، فكان العرب، الذين كان العديد منهم في المنفى، يتجمعون ويتشاركون أفكارهم. من المعارضة العراقية إلى المثقفين الراسخين والصاعدين، كانت مساحة يمكن التعبير فيها دون خوف. فبهذا كانت الساقي أول مكتبة عربية في المملكة المتحدة.
في البداية كان البيع مقتصراً على الكتب العربية، وبعد عدة سنوات أُضيفت الكتب الإنجليزية، وفي عام 1983 قررا أندريه ومي فتح دار الساقي للنشر حتى ينشروا كتب إنجليزية بأقلام مفكرين ومثقفين عرب وإثراء المحتوى الإنجليزي عن الشرق الأوسط وفي نهاية التسعينات بعد نهاية الحرب، تم فتح دار للساقي في بيروت لتكون دار نشر لإصدار الكتب العربية بعد شقيقتها الكبرى والإنجليزية في لندن، وفي عام 2012، افتتحت الدار فرعاً جديداً يُعنى بأدب الطفل واليافعين “الساقي للأطفال والشبّان”. واليوم يُعتبر دار الساقي في لبنان من أكبر دور النشر العربية.
مع هذا التوسع والتنوع حصدت الدارين والمكتبة العديد من الجوائز، منها:
-جائزة الشيخ زايد للتقنيات الثقافية والنشر 2016
-الجائزة البريطانية لصناعة الكتاب 2009 و2013
-جائزة الشارقة لدور النشر 2011
– تكريم الساقي من وزارة الثقافة اللبنانية في Kensington Town Hall، وحضره 600 شخص.
-جائزة الشيخ زايد لأدب الأطفال 2008 عن كتاب “رحلة الطيور إلى جبل قاف” للكاتبة هدى الشوا قدّومي.
-جائزة أفضل الكتب إخراجاً في معرض بيروت الدولي للكتاب 2007
-جائزة الأدب اللبناني 2009 عن فئة أدب الأطفال لكتاب “فرح… شعر وأقاصيص شعرية للفتيان والناشئة” للشاعر حسن عبد الله.
-جائزة أفضل كتاب للأطفال إخراجاً في معرض بيروت الدولي للكتاب 2013 عن كتاب “أخواي مميّزان” للكاتبة فاطمة شرف الدينوالرسامة ريم الجندي.
-اختيار كتاب “ليلى والحمار” للكاتبة فاطمة شرف الدين والرسامة تينا مخلوف ضمن لائحة الشرف العالمية 2016 للهيئة اللبنانية لكتب الأطفال عن فئة التأليف والنص.
-جائزة المركز العربي البريطاني لنشر الثقافة العربية في الغرب 2008.
ورغم السِجِل الحافل بالإنجازات والمسيرة الفكرية الغنية، إلا أن المكتبة والدوّر واجهت تحديات عقبات على مر السنين، تبدأ من حملات الرقابة، وتحطيم نوافذ المتجر بسبب الاحتجاجات على محتويات بعض الكتب، إلى قصف المستودع والحصار البحري خلال حرب لبنان عام 2006. وأخيراً في يوليو 2021، غمرت المياه الطابق السفلي للمتجر، ودمرت مئات الكتب.فجمعت حملة تمويل جماعي أكثر من 15000 جنيه إسترليني في غضون 48 ساعة.
إلا أن المكتبة هذه المرة لم تتمكن من الصمود أمام التحديات والصعوبات الاقتصادية الأخيرة، حيث إن التحديات تنوعت من الزيادات الحادة في أسعار الكتب العربية، حتى الإغلاق في فترة الجائحة وخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي كما تصف المديرة سلوى:” «لقد أثرت الإغلاقات المتتالية، وما لحقها من انهيار، ومشكلات سلاسل التوريد، سلباً على كثير من الشركات المستقلة مثل شركتنا. ولكن بصفتنا بائعي كتب متخصصين في العالم العربي، فإننا نستورد كتبنا من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكان علينا أيضاً مواجهة الزيادات الحادة في أسعار الكتب باللغة العربية، ورسوم الشحن، وأسعار الصرف». ويرجع السبب في زيادة أسعار الكتب العربية إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية في عدد من الدول العربية.
وعن خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي وتأثيره تقول سلوى: “هناك أيضًا انخفاض في المبيعات، ويرجع ذلك جزئيًا إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فقد اعتدنا على بيع العديد من الكتب إلى الاتحاد الأوروبي، وهو أمر لم يعد ممكنًا بسبب أن الضرائب أصبحت باهظة الثمن بالنسبة لأوروبا، كما أن رسوم الشحن أعلى بكثير في كل مكان “.
يضاف إلى لذلك ارتفاع أسعار الطاقة في بريطانيا بشكل مضاعف وتكاليف تشغيل المكتبة التي أصبح من الصعب مواكبتها، وهذه المشكلة ليست مقتصرة على مكتبة الساقي فقط، بل على صناعة النشر والكتب بشكل عام في بريطانيا ككل والتي تعاني بسبب ارتفاع تكاليف الورق والطاقة والتشغيل.
عقبة أخرى هي انخفاض الزوار العرب للندن، عقب الجائحة، حيث تعلق سلوى: “فقدنا جزءًا كبيرًا من قاعدة عملائنا لأن الزوار العرب من الخارج لا يزورون بنفس الأعداد. هناك أيضًا مشكلة تتعلق بالأجيال: الشباب لا يتوقفون عند مرورهم كما كان يفعل آباؤهم “.
تحكي لين ابنة سلوى وأندريه، أنه بالرغم من طفولتها التي قضتها على أرض المتجر، لم تكن تنوي أبدًا أن تكون لها وظيفة في شركة العائلة. وبدلاً من ذلك، أرادت العمل في مجال التنمية الدولية من أجل “تغيير العالم”. لكن في مرحلة ما، دخل الحبر إلى دمها. ” لقد وقعت في حب الساقي. أحببت ما كنا نمثله، أحببت الناس، أحببت ما كانوا يفعلونه. وأدركت أنني أشعر براحة أكبر مع هذا النوع من التأثير لأنني أعتقد أنه يمكن أن يكون لك تأثير مهم على مجتمعك والثقافة الأوسع من خلال الكتب. “وتضيف في وداع المكتبة: “ستكون هذه أخبارًا حزينة للكثيرين في مجتمعنا لأن المكتبة كانت موطنًا للشتات العربي. بالنسبة لي، فإن الساقي أكثر بكثير من مجرد مكتبة. لقد نشأت في الساقي، قضيت أنا وأختي ساعات نلعب بين الكتب. لقد كان شرفاً العمل لمكتبة الساقي جنبًا إلى جنب مع والدي. سنفتقد العمل في المكتبة، لكننا نتطلع إلى الفصل التالي في تاريخ الساقي من مقر دار نشرنا الجديد غرب لندن. يتشارك متجر الساقي ودار الساقي العديد من القراء المخلصين مع المكتبة، ونحن متحمسون لإمكانية جلب أفضل ما في الكتابة الجديدة والكلاسيكية من العالم العربي إلى الجماهير في المملكة المتحدة وخارجها لسنوات قادمة “.
عائشة النعيمي
معلمة لغة عربية لغير الناطقين بها
وطالبة دراسات تربوية