لآفاق حرة
إضاءة على رواية
“الدم الأسود” د. عواد جاسم الجدي
بقلم. محمد فتحي المقداد
“الدم الأسود” العمل الروائي الثاني، بعد الأول “صداع برأس الزمن” الذي قرأته للروائي “د. عواد جاسم الجدي”، الذي جاء امتداداً طبيعيًا لعمله الروائي الأول، بكافة تمحوراته حول الثورة السورية، بمآلاتها ومرجعيّاتها مداراتها الظّاهرة والخفيّة. والعملين بمجملهما هما رؤية من على شرفات الذاكرة التي استقرت، بعدما اتضحت الرؤية، وانكشف من الخفيّ والمستور أقله.
وبرؤية شاهد عيان كتب “عواد الجدي” ابن محافظة “دير الزور” درّة الجزيرة السورية الغنية بمواردها الزراعية والامتدادات الواسعة لأراضيها، وكذلك لا يخفى أن ثروة سوريا البترولية منبعها الأساسي هذه المنطقة الشرقية من سوريا، والجزيرة هي الأراضي المحاطة بمياه دجلة والفرات أثناء مرورهما عبر سوريا باتجاه العراق.
وبتأمل بسيط لغلاف الرواية، لوحظ مجسم لحفارة أبار النفط، وفي مقدمتها رأس آدمي بلون رمادي، وملثم بكوفية ذات خطوط بيضاء سوداء، ولها رمزية المقاومة، وبعيون بيضاء وبلا أحداق، وهي الرمز الدلالي المقصود المتراوح بين العنوان “دم أسود” ومضمون سردية الرواية، وهذا الشكل هو المؤشر الأول لطبيعة العنوان المكون من كلمتين، كونتا جملة اسمية والكلمة الأولى “دم” هو ضرورة حياة البشر، بينما صفته جاءت “أسود”، والدم أساسًا بلونه الطبيعي الأحمر، ولكن العنوان الذكي بانزياحيّته الفارقة، ليشكل صدمة للقارئ. كيف يكون الدم أسودا؟. وهذا المنحى هو المعبر عن روح الرواية، وللدلالة على الثروة البترولية، والتي عادة ما يطلق عليها “الذهب الأسود” وعلى القطن أيضًا “الذهب الأبيض”، وبالتأمل قليلًا بدلالة كلمة الدم، إنما هي للتعبير عن الموت والقتل والدمار، وهل كانت الثروة البترولية وبالًا على الحزيرة السورية، بما استجرت من استغلالها ليس لمصلحة وخير سوريا، إنما استغلها شخص واحد فقط لحسابه الشخصي، وتم ذلك تحت غطاء الحراب والخوف من القتل والاعتقال، ولم يكن للجزيرة أي نصيب تنموي، بل عانت من الإهمال والتهميش والنهب على كافة الصعد والمستويات.
وكذلك أصبحت الجزيرة السورية مسرحًا للاستعمار الخارجي المتعدد الجنسيات وللجماعات الإرهابية المتسترة تحت غطاء الإسلام، والمشكلة الداخلية التي لم يستطع النظام معالجتها وفق الضوابط الوطنية “مشكلة الأكراد”. وبذلك تكون لعنة البترول حلّت على الجزيرة وأهلها. وبذلك يكون الدم أسودا وليس أحمرا. وفي اقتباس مفيد من الرواية، يحكي هذه المأساة الإنسانيّة: ” يصور المقطع الآتي من الرواية شيئا من هذه المأساة: “عندما يسحبُ طفل ثيابهُ التي لا تغطي بالكاد ركبتيه ويرتعد مرتجفاً من شدةِ البردِ، بغيابِ والده الذي يحرس أنابيب النفط والغاز وهو يرتدي معطفاً زيتياً ويصغي لتعليمات (المعلم) أن يضاعف انتباهه ويقظته”. وكم سمعنا عن حكاية: “أموال وعائدات البترول في أيدي أمينة”.
وتأتي الرواية على قضية أخرى مهمة هي، الدكتاتورية والفساد والإفساد على مستوى الجمهورية، واحتكار السلطة واختصارها بشخص الرّئيس وحاشيته فقط، ومن يعتاشون على بقايا فُتات موائدهم، وما تطاله أياديهم.
وتنبع أهمية رواية “دم أسود” كوثيقة تاريخية واجتماعية شاهدة على حقبة من تاريخ سوريا القريب، وبمحاولة إسقاط التاريخ القديم والمُشرّف للمنطقة برمّتها.
كما أنها عالجت قضايا اجتماعية كالفقر الذي يحيق بالمجتمع الريف الزراعي، وبلاد المياه والناس عطاشى، وبلاد الثروات وأهلها فقراء. وباستمرار السرد بتناوباته وصولًا إلى مرحلة الثورة السوريّة 2011وما تبع ذلك من سقوط سافر لجميع الأيقونات والنغمات التي سطرها نظام الرعب والخوف تحت التهديد، وتعرية كل منظومات الدجل السياسي والحزبي المقيت.
كذلك اشتغلت السردية الروائية على تنميط الواقع بتكريساته السابقة واللاحقة، كما سلطت الضوء على ممارسات ماكينة تفريخ الفساد على مدار خمسة عقود صعبة وقاتمة من تاريخ سوريا، وبذلك ستكون هذه جزءًا إلى جانب أكثر من خمسمئة عمل روائي متمحور حول فكرة الثورة السورية منذ2011 بتباينات ورؤى مختلفة، والدم الأسود سيبقى نزيفًا متجددًا.