بقلم: عبّاس داخل حسن – مركز التنور الثقافي
فَقَدَ العراق (5-12-2023) اثنين من صنّاع الجمال المتفرّد فيه، ألا وهما الفنّان الدّمث الأخلاق والطّيّب الصّحبة (علي جودة) الذي انتشرتْ أغانيه وترنيماته الجنوبيّة العديدة، وردّدّتْها حناجر معظم العراقيين بوصفها حكماً وأمثالاً على امتداد عقود خلتْ حتى يومنا هذا، وستبقى ما بقي حزن كامنٌ فينا ينبض بين خوافقنا “لو أصاحب خوش صاحب لو أظلّ من غير صاحب، وحتى أنت، ولعيونك الحلوات” .
أمّا الفقد الثّاني، فهو فَقْدُ (اعتقال الطّائيّ) فاتنة الشّاشة الجميلة بثقافتها واتّزانها التي سمرتنا أمام شاشات التّلفاز أيّام زمان في متابعة برنامجها الشّهير (السّينما والنّاس) الذي لم يستطيع أحدٌ أن يكرّره، أو أن يماثله، أو أن يتجاوزه، وهو من البرامج التي أثّرت في الذّائقة السّينمائيّة العراقيّة للنّخب، كما أثّرتْ في المشاهدين من شرائح المجتمع كلّها .
(اعتقال الطّائيّ) مثقّفة يساريّة ونحّاتة، كما هي كاتبة لها بصمتها الخاصّة، وهي بصمة لا تستوعبها الأنظمة السّياسيّة المتخلّفة والظّلاميّة، شأنها في ذلك شأن المثقّفين الحقيقيين جميعهم الذين يدافعون عن القضايا الإنسانيّة الكبرى، فما بالكم بفنّانة مرهفة الحسّ وكاتبة ومترجمة مثل (اعتقال الطّائيّ) التي دافعتْ عن العدالة والمهنيّة بصلابة وقوّة؟ فكانتْ ضحيّة لزبانيّة النّظام العراقيّ السّابق، فاختارت المنفى والهروب بجلدها حفاظاً على مبادئها وشرفها المهنيّ.
بعد إزاحة النّظام العراقيّ السّابق جاء حكم أعداء الكلمة والفنّ؛ فلم تمنح (اعتقال الطّائيّ) فرصة أو وظيفة تليق بها، وتليق بإبداعها لخدمة العراق وشعبه التّواق للجمال والمدنيةّ والفنّ، ولا غرابة بذلك؛ فهذا الشّعب يعيش بين ظهراني سلالات ما قبل التّاريخ، فورثها، وتنفّسها؛ إذ هي أوّل بؤرة مدنيّة، وأولى الأديان، وهو أوّل شعب عرف كلمة الحريّة، كما أنّه -شأنه شعوب الشّرق كلّها- توارث سلوكه اليوميّ والعمليّ والتّذوقيّ على الرّغم ممّا طرأ على الوجود الإنسانيّ من حداثة واكتشافات وتكنولوجيا جعلتْ من العالم قرية صغيرة.
لأنّني أعرف (اعتقال الطّائيّ) عبر شاشة التّلفاز وعبر كتاباتها، فلا يحقّ لي أن أتحدّث عنها أكثر من ذلك، وأترك لأصدقائها ومحبّيها أن يدلوا بدلائهم في هذا الأمر لإنارة مساحات إنسانيّة وإبداعيّة أخرى.
الرّحمة والخلود لـ(اعتقال الطّائيّ)، وأدعو أن تتبنّى الفضائيّات إنتاج أكثر من برنامج عن الفقيدة وعن مسيرتها المائزة، وأن تسلّط الضّوء على مسيرتها الحافلة بالإبداع والمواقف الصّعبة من خلال من عاصرها من المقرّبين من زملاء وأصدقاء، وإعادة طبع أعمالها من خلال اتّحاد الأدباء أو عبر وزارة الثّقافة العراقيّة، وإنْ كنتُ –للأسف- على يقين أن لا حياة لمن تنادي، لكن يبقى الأمر مجرّد تذكير، أو محاولة؛ لعلّنا نعطي هذه القامة الإبداعيّة الكبيرة حقّها قبل أن يأكلها النّسيان، وقبل أن يضيع على الأجيال فرصة التّعرّف على إبداعها؛ فهي إيقونة إبداعيّة بحقّ.
عودة على بدء، نرجع إلى فقيدنا الأوّل الثّمين الفنان (علي جودة) الذي أعرفه منذ ١٩٧٩ بوصفه ابن بارّ لمدينة النّاصريّة التي تتنفّس الإبداع والشّعر والغناء على الرّغم من المآسي والإهمال وحقد الحاقدين.
الفنّان (علي جودة) من أبناء جيلي الزّاخر بأسماء إبداعية كبيرة في المجالات والاختصاصات جميعها. لقد بزغ نجم الفنّان (علي جودة) مع أسماء لامعة بداية الثّمانينات، مثل: أحمد نعمة وكاظم السّاهر وآخرين، وتفوّق على نفسه، ووضع بصمته الخاصّة بهدوء على الرّغم من احتدام المنافسة.
الفنّان (علي جودة) امتدادٌ لأصوات مدينة النّاصريّة الخلاّبة التي ساهمتْ في رسوخ الأغنية العراقيّة بحلّة جديدة على أيدي أمهر الملّحنين إضافة إلى اغترافها من خزين الغناء الرّيفيّ لمطربي النّاصريّة وأعمدته، وأبرزهم: خضير حسن مفطورة، وداخل حسن، وحضيري أبو عزيز، وناصر حكيم، وجبار ونيسه.
يعيد الفنّان (علي جودة) الحنين لأصوات السّبعينات الذّهبيّة من مطربي النّاصريّة، مثل: حسين نعمة، وكمال محمد، وستّار جبار، وقيس حاضر وصباح السّهل، لقد بقي (علي جودة) وفيّاّ لحبه الكبير لمدينته النّاصريّة إلى يوم رحيله إلى جوار ربّه، ربما لا يضاهيه ،أو يفوقه بهذا الحبّ والوفاء إلّا الفنّان حسين نعمة صاحب الصّوت الحريريّ (أطال الله بعمره) الذي خسر فرصاً تضعه في مصاف الشّهرة على مستوى الوطن العربي وأكثر؛ بسبب تعلّقه بمدينته النّاصريّة التي لا تملك الإمكانيّات الموجودة في المركز (بغداد)، وهذا موضوع له مقام آخر، لقد ضحّى الفنّان حسين نعمة بفرصٍ يحلم بها عشرات الفنّانين سابقاً ولاحقاً حبّاً بالنّاصريّة، ووفاء لها، وهي التي لا تفارقه، ولا يفارقها أينما حلّ وارتحل.
إنّ الفنّان (علي جودة) لم يغنِّ للحرب، لكنّه غنّى للعيون الحلوة والصّحبة والأيام الجميلة بحسّ مرهف للغاية، وما أكثر أصحاب (علي جودة) في العراق والنّاصريّة وشأنه في ذلك شأن المبدعين الأصلاء والشّرفاء جميعهم.
(علي جودة) يضع الكرامة قبل الشّهرة والمال والنّجوميّة، ويمتلك تواضعاً وصدقاً قلّ نظيره، ولم ينلْ شيئاً من المؤسّسات ذات العلاقة بالفن التي يتربع فوقها شريحةٌ انتهازيّة فاسدة تتعاطى الكتابة والفنّ غيلة.
بقي (علي جودة) أسير عالمه الذي اختاره بالتّصالح مع الذّات ومحبّة أبناء جيله وأبناء مدينته، وعمل الخير دون مجاهرة أو ادّعاء، دون رياء.
(علي جودة) توّاق للثّقافة والإبداع والنّاس البسطاء، فتجده في (ملتقى المحبّة) على ضفاف نهر الفرات في المناسبات جميعها، وهو أحد مؤسّسيه وداعميه بقوّة إلى أن خذله المرض اللّعين.
لـ(علي جودة) أفواج من المعجبين والمحبين من طبقات المجتمع كلّها، حتى فقراء ومجانين النّاصريّة يحنو عليهم بعطف ودعابة، ويمدّ لهم يد العون، كما يمدّ يد العون للمبدعين جميعهم من شتّى ضروب الفنّ والإبداع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وعلى الرّغم منذ ذلك لم ينبرِ أحدٌ للدّعوة أو الكتابة عن منجز هذا الطّائر المغرّد الجميل الذي حلّق بنا عالياً بترانيم الشجن السّومريّ القابع في دواخلنا.
لم أجدْ برنامجاً أو فضائيّة أو صحيفة أفردتْ مساحة للفقيدين المذكورين آنفاً على الرّغم من أهمّيتهما الفنيّة والثّقافيّة بوصفهما أيقونتين متميّزتين كلّ في مجاله. أليس هذا جحود وظلم ما بعده ظلم للفنّ والإبداع؟!
إنّ الغوبلزيين الجدد (نسبة إلى بول غوبليز وزير إعلام هتلر) هم مَنْ يسيطرون على المشهد الثّقافيّ والإعلاميّ، فلا يروق لهم المثقّف الفاعل والملتصق بهموم شعبه ووجدان النّاس.
إنّ الغوبلزيين الجدد اتّخذوا من الكذب والخداع سلماً للتّسلق والاستحواذ على مؤسّسات الثّقافة مدعومين من الحكّام الجدد في سبيل خدمة أجندات مشحونة بالكراهية وخدمة الطّائفيّة والأحزاب والعرقيّات الشّيفونيّة في ظلّ أنّ التّاريخ حافل بطمس انجازات مبدعين كبار، بعضهم يمثّل حالة إنسانيّة وإبداعيّة قلّ نظيرها، وفي مناسبات عديدة كرّرتْ ذكر أسماء بعينها دون غيرها، الأمر الذي يُعدّ ظلماً فاضحاً يجانب العدل والإنصاف.
لكن ربما أذكر أسماء أشخاص مرّوا في حياتي، وكوّنوا ذائقتي الثّقافيّة بوصفي متلقٍ شغوف بالفنّ والأدب من خلال الرّصد والاستماع والقراءة، أو من خلال معرفتهم عن قرب في مناسبات عديدة جداً.
بالنّتيجة النّهائية: كلّنا ذاهبون إلى العالم الآخر اللامرئيّ في نهاية المطاف، لكن ما يمكث، ويبقى خالداً، هو الكلمة الطّيّبة والجمال المتمثّل في الإبداع سواء كان نصّاً أم أغنية أم لوحة أم مقطوعة موسيقيّة ، هو الجمال الذي نحارب من أجله، أو نحارب به القبح والتّوحّش والظّلم.
هذه مناسبة تذكير وعتاب لمدينة النّاصريّة التي ليس فيها وفاء لأبنائها كما يجب، وهنا لا أقصد أن أعتب على المؤسّسات الرّسميّة، بل أنا أعتبُ على المهتمّين بالشّأن الثّقافيّ والفنّيّ للحفاظ على منجز أجيال أعطت ثقافةً وإبداعاً في ظروف قاسية لا يتخيّلها عقل، وعاشها العراقيّون كلّهم، وما زالتْ آثارها تفتك بالمجتمع العراقيّ، وبقيتْ ندوبها بائنة لم يمحها الزّمن.
للنّاصريّة حصّة الأسد من المعاناة والسّحق والخسارات لسبب أو لآخر؛ ففي آخر عقدين غيّب الموت كوكبة من المبدعين لا يمكن تعويضها، منهم: الرّوائيّ محسن الخفاجيّ واخيه الفنّان التّشكيليّ كمال خريش الذي تُوفّي في منفاه (هولندا)، والمسرحيّ والأديب زيدان حمود، والكاتب والمترجم شيخ أدباء النّاصريّة أحمد الباقريّ، وأسماء كثيرة لها وقعها ومكانتها المرموقة جدّاً، وجرد طويل من الأسماء الأدبيّة والفنيّة المعروفة التي لم تحظَ بأيّ تكريم أو ذكرى تليق بهم، بل أحياناً يستخدمهم البعض لمآرب أخرى، أو لاستغلال مكانتهم الإبداعيّة، أو للمتاجرة بمنجزهم.
على سبيل المثال: أنا أعرف الشّاعر عقيل علي منذ زمن بعيد، قبل أن يشتهر شعريّاً، وقبل أن تبتلعه العاصمة بغداد، ويموت فيها وحيداً على رصيف بارد من أرصفتها، مثلما انتهى قبله الشّاعر الغنائيّ الفذّ جبّار الغزّيّ بالطّريقة نفسها، وهو مَنْ كتب أعذب الأغاني وأصدقها، وهي التي ستبقى خالدة، ولحّنها عظماء الملحّنين الذين تركوا بصمات لا تتكرّر.
لقد سحقت الصّعلكة الكثيرين من مبدعي العراق، وهي سلاح ذو حدين لرفض الواقع والسّلطة، كما هي طريقة للتّعبير عن الثّورة والتّمردّ والانحطاط السّائد.
الصّعلكة قتلت البعض، ونجا منها آخرون، وعقيل علي صديقٌ قديم لي، لكن الحروب فرّقت العراقيين جميعهم، كما فرّقتني عنه، لكن شاءت الأقدار أن ألتقي به في العاصمة الأردنيّة عمّان في عام 1992 بعد فراق لسنوات، إذ كان يعيش فيها في غرفة إذا قلتُ إنّها بائسة، فهذا أقلّ توصيف لها؛ فهي ليستْ غرفة، بل زريبة في منطقة سقف السّيل مقابل سوق الخضار.
لقد حاولتُ أن أقدّم له ما استطيع من العون، وأنا الآخر –حينئذٍ- مشرّد دون أوراق رسميّة، أو جواز سفر، وافترقنا، وبقي ينتظر حقوق نشر ديوانيه (جنائن آدم، و طائر آخر يتوارى) اللّذين طُبعا في دار نشر في باريس وفق ما أخبرني وقتها.
سافرتُ إلى بلاد الصّقيع والعزلة، وانقطعتْ أخبار عقيل علي عنّي بطبيعة الحال لعدم وجود (الانترنت) أو الهاتف المحمول آنذاك، وظلّ عقيل علي يعيش الشّعر، ويتنفّسه، ولا يهتمّ بأيّ شيء آخر دون ذلك حوله. لعلّ كلّ مَنْ عرف عقيل علي يوافقني الرّأي.
عند زيارتي للعراق بعد ٢٥ عام من الغياب عنه في عام ٢٠١٣ حدّثني أصدقاء مشتركين عن عقيل علي، وعن نهايته المأساويّة، وعمّا كان يحمل في من ودّ واحترام، من هؤلاء الأصدقاء الفنّان نبيل حميد العزّوايّ، والأستاذ رزّاق داخل الذي كان يلتقي به في بغداد بشكل شبه دائم أثناء دراسته في كليّة الآداب- الجامعة المستنصريّة.
هذه الأسماء آنفة الذّكر كلّها، فضلاً عن عدد من المبدعين يلزموننا أنّ نحافظ على منجزهم بالوسائل الإبداعيّة كلّها، أو عبر إطلاق أسمائهم على قاعات الدّروس في شتّى الجامعات أو معاهد الفنون، وطباعة أعمالهم، لا سيما أنّ الكثير منهم قد ترك مخطوطات وأعمال إبداعيّة لم ترَ النّور بعد للأسف، وهي مهدّدة بالضّياع مع مرور الأيام.
على سبيل المثال، لقد ترجم الأديب والمترجم أحمد الباقريّ (ملك الذّباب) لوليم غولدن، وحدّثني عن هذه الترجمة بحضور الأستاذ إياد شاكر، ولم ترَ النّور، وعلى حدّ علمي بعثها إلى دار نشر خليجيّة، وذات لقاء -في بزيارة أخرى لي لمدينة النّاصريّة- حدّثني الأديب والمسرحيّ زيدان حمود عن مخطوطة رواية جديدة له وعن نصوص مسرحيّة جاهزة للطّبع، وطلب منّي رقم تلفون صديق ناشر مشترك أملاً في نشرها، لكن هذه الأعمال الإبداعيّة لم ترَ النّور، بعد أنّ مرّ على هذا اللّقاء عقد وأكثر من السّنين.
كذلك هناك مخطوطات للقاصّ والرّوائيّ محسن الخفاجيّ التي لم ترَ النّور، كذلك الإرث الفنّيّ للفنّان التّشكيليّ كمال خريش لم يتمّ حفظه، وهذه خسارة جديدة تُضاف إلى الكثير من الأعمال الضّائعة أو المهدورة أو المهملة.
على النّخب والمعنيين بالثّقافة تشكيل لجانٍ في المحافظات كلّها من خلال الجامعات واتّحاد الكتّاب والأدباء للمساهمة في الحفاظ على أعمال من غيّبهم الموت في الاختصاصات جميعها، وهذه الأعمال تمثّل الثّقافة والذّاكرة الإبداعيّة للعراق بعدما ما خسرنا الذّاكرة العراقيّة على يد المحتلّ الأمريكيّ، كما خسرنا –كذلك- جزءاً مهمّاً من مكتبة المخطوطات الزّاخرة التي نهبها ضعفاء النّفوس واللّصوص دون أدنى معرفة بقيمتها المعرفيّة والتّاريخيّة .
هل سنستطيع إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ وهذا أضعف الإيمان مع مراعاة الحفاظ على حقوق الملكيّة الفكريّة للورثة.
ملاحظة: البرنامج الوحيد الذي أفرد مساحة يستحقّها الفنّان (علي جودة)، وسلّط الضّوء بحرفيّة فائقة على الفنّان (علي جودة) هو برنامج بروفايل للرّائع والمقتدر الفنّان والموسيقي المخضرم وليد حبوش من على قناة الرّابعة.
شكر خاصّ لجهوده التي أرّختْ لأجمل الألحان والقصائد، وحفظتْ لنا ثروة موسيقيّة وفنيّة بالغة الأهميّة؛ إذ جمع الحبوش -باحترافيّة في برامجه- المعرفة والمتعة والطّرفة من خلال مسح واستقصاء تاريخ الأغنية والموسيقى العراقيّة والعربيّة، وهذا جهد ليس بسيط أو سهل البتّة، ممّا يجعله يتربّع على قمّة المتابعة والمشاهدة من جمهور عريض من المستمعين والمختصّين.