نشأ أحمد رشدي في حي متواضع من أحياء تطوان، وخلال كل حياته انتظر أن يطير.
هذه أوهام تصيب عددا لا بأس به من الناس. قال له معلم القسم الرابع: تستحق أن تطير إلى القسم السادس مباشرة، وكانت تلك هي البداية على ما نعتقد.
زملاءه في ما بعد اعتبروه متكبرا، ولكنه كان مجتهدا فقط، ويقوم بإحصاء الوقت. كان يعد الدقائق والساعات بحرص شديد، ويقول لنفسه بثقة: بعد سنوات سأطير.
كبرت فكرة الطيران حتى صارت لها صورة ذهنية في رأسه. كلما أغمض عينيه على سطح بيتهم تبدى له جسده وقد نبتت له أجنحة، وعدا ذلك فيحق لنا أن نغامر بقول هذا أيضا: لقد كاد ذات مرة يدفع بجسده من الحافة.
إن هذا ليس تقليلا من قدرات أحمد المسكين، فقد كان في الحقيقة واقعيا ومجتهدا. درس بجد واستمع لدروس عن التنمية الذاتية: اعتزل ما يؤذيك، وقاده ذلك تقريبا لاعتزال كل أصدقاء المدرسة، ثم أبناء الجيران، ثم والديه.
أمه ظنت في البداية أن هذا من فعل المراهقة، أما والده فلا يمكن حتى أن نعتبره طرفا في هذه القصة، لقد كان نائما.
حسنا، إن المبالغات سيئة. عمل والد أحمد كصياد سمك على متن قارب متوسط الحجم، ولأنه كان يعود متعبا عند الظهيرة، فقد كان ينام.
طبعا، كان النهار طويلا جدا. توقظه زوجته عند العصر ليتناول طعامه ويقصد المرحاض. توجه له كلمة من هنا أو هناك: ابنك لم يعد يُحَدث أحدا.
-هذا أفضل له.
ولكنها تلحق به وتقف عند باب المرحاض.
-ولكنني سمعته يحدث نفسه.
-انتهينا إذن، لقد جن.
-أنا من ستجن بسببك.
وهذه ليست مشاجرة حتى فزوجها مسالم. يخرج من المرحاض ويقبل رأسها وقد يطلبها للفراش إذا كان الولد غائبا، أما بعدها فيحل النوم.
-إن أبي ينام كَدُب.
إن هذا هو أول خطأ قد يرتكبه الابن، أن يفضح عيوب والده.
-ينام كدب يا سيدي، ولا يتحدث أبدا.
ولكن أستاذه لا يتعاطف معه أبدا. يحس أنه يخترع معاناة ككل المراهقين، وينتبه بقرف إلى أن العالم مكرر.
-حين يستيقظ أخبره أنني أود التحدث إليه.
-لن يستيقظ.
-لن تدخل فصلي دونه.
إن الكبار يطلبون منه أشياء غريبة، وعدا ذلك فهو لم يفعل شيئا لأحد.قال لوالدته في المنزل: يريدون أن يروا والدي، فأحست بالهلع على الفور.
-ماذا فعلت؟
-لا شيء.
ولكنها لم تصدقه وبدأت بالبكاء: قلت لك ابتعد عن المشاكل. قلت لك نحن بسطاء، أبناء باب الله.
في المدرسة قالوا للرجل الذي استيقظ بمزاج معكر: أصبحنا نخاف على ولدك.
فأجاب هو شاردا: أحمد؟
رأسه يحن للسجائر الثقيلة ونوم بعد العصر، والأستاذ يبدو له مزعجا كمجموعة من الذباب.
-ما به الولد؟
-لا شيء، إنه بخير.
-إنه يحدث نفسه.
-إنه أمر يخصه.
وهذه نقطة يمكن أن ينتهي عندها الحوار، ولكن الأستاذ يستمر: الولد ذكي، ومن العار أن يضيع.
-لا أحد يُضَيعه.
-إنه مريض. أقول لك يوجه أحاديث لنفسه، ولا يلتفت لزملائه.
-لا يحبهم.
وعندها انقطع الحديث وعاد الوالد للنوم. فتح عينيه عند عودة أحمد من المدرسة ووجه له أمرا صارما: لا مزيد من الأحاديث مع نفسك.
حسنا، لنبدأ الحكاية من أولها: كان هناك ولد يدعى أحمد، وكان قد قاطع أصدقاءه، ثم جيرانه، ثم والديه، ثم نفسه. لقد اكتملت الدائرة.
لم يجد بعدها أي أستاذ شيئا ليقوله. قطع أحمد مراحله الدراسية بتفوق، أما دواخله فلا نعرف عنها شيئا، فقد كان صامتا تماما كما قلنا، لكنه ظل يحلم أن يطير.
جلس على حافة السطح دائما، وشاهد مشاجرات الحي بعينين لا تطرفان. شاهد أشياء أخرى سرية: ابنة الجيران وهي تتسلل من الشرفة نحو بيت حبيبها، وبائع أقراص المخدر مجتمعا بزبناءه. نظر للسماء أيضا في أحيان كثيرة، خاصة حين لمح رجلا غريبا يتسلل إلى منزلهم وقرر أن لا ينزل.
سمع ضحكات مكتومة وحدق بالغيوم. كان يعرف هذه الجلبة منذ صغره في الحقيقة، وكانت أمه حينها هي من تأمره أن يصعد للسطح.
عاوده حلمه عن الطيران كثيفا لحد أنه أحس بنمو الجناحين، وهذا هو التفسير الوحيد لما حصل. مشى بخطوات بطيئة إلى الوراء، ثم انطلق سريعا نحو الحافة حتى يطير.