جسم ناقص / بقلم: الأديب السوري نجيب كيالي

لصحيفة آفاق حرة
_______________

في قلب عفاف نهرٌ من وجع رغم أنوثتها اللافتة، وجمالها الذي لم يهرم بعد!
لقد طارت ساقاها بسبب الحرب في سورية! وفي مكانهما ركَّبتْ ساقين اصطناعيتين، لكنَّ هناك سؤالاً يؤرِّق جفنيها: ماذا حلَّ بساقيها المقطوعتين؟ لقد عاشرَتْهما ثلاثين سنة، والإنسان يسأل عن عِشرة ساعة. فكيف يمكن أن تنساهما؟!
كانت في السوق منذ بضعة أشهر عندما نزل صاروخ من السماء، تفحَّمتْ جثث، وتمزَّقتْ أخرى! أمَّا هي فاستأصلت شظيةٌ كبيرة ساقيها من عند الركبتين!
بعد أن شُفيتْ ذهبتْ إلى مكان الحادثة، كان السوق قد تمَّ إصلاحها كيفما اتفق، نظرتْ إلى الوجوه وفي عينيها سؤال: هل أحدٌ منكم رأى ساقيّ؟ لكنَّ أحداً لم يجب على سؤالها، وربما لم ينتبه إليه! ذهبتْ إلى المشتغلين بالإسعاف، وفي عينيها نفس السؤال: هل أحدٌ منكم رأى ساقيّ. هؤلاء يتغيرون، ويموت منهم الكثير أثناءَ إنقاذ الجرحى، فلم يجبها أيضاً أحد على سؤالها! الطيور، القطط، الهواء، أشعةُ الشمس، سألتْ كلَّ هؤلاء، وسؤالها لم يظفر بغير جرعةٍ من اليأس! ورغم كل شيء لم تستطع أن تقبل فكرةَ موتهما، فحين تستحمُّ تدَّخر لهما شيئاً من الماء والصابون، وحين تشتري قماشةً تحسب حسابهما، وحين تُقلِّم أظافرَ يديها تجد نفسها تنحني لتقلِّم أظافرهما!
البارحة تطوَّرت مشكلتها، فقد جاءتها الساقان في النوم، قالتا لها: يجب أن تبحثي عنا.. يجب أن يكون لنا قبر لتزورينا.
رباه.. ماذا تفعل؟ مَنْ يدلُّها على مكان ساقيها؟ ومَنْ يهتم بهما؟ لقد قُتِلَ الآلاف، واختفت أجسامٌ بكاملها! وتساقطت أسماءُ أصحابها كورق الخريف! الوطن كلُّه يُحتَضر بناسه وترابه، وقريباً سيعلِّقون نعيَهُ على الحيطان، وقد لا يجدون حائطاً لتعليق نعوته! آه من سيفكر في هذا البازار الكبير للموت بساقَيْ عفاف؟ ربما اختلطا بغيرهما من الأشلاء المقطوعة، ربما طارا جانباً، وظفرتْ بهما الحيواناتُ الشاردة، ربما تفتتا، ثم استُعمِلا مع الرمل في إعادة رصف طريق حفرته قنابل الطائرات، والناس الآن يمرون فوق ساقيها! ربما.. ربما.
أخيراً.. خطرت لها فكرةٌ غريبة هداها إليها ألمها، ذهبتْ إلى كومة تراب قريبة من السوق، وملأت كيساً منها، قالت لنفسها: ربما جمعوا هذه الكومة بعد الحادثة، ولعل شيئاً من ساقيَّ بقيَ فيها، بعد ذلك أفرغت الكيس في قبر، سمَّته: ضريحَ الساقين المقطوعتين، وها هي كلمَّا أُتيحتْ لها الفرصة ذهبتْ لتزور نصفَها الميت، وتقرأ له الفاتحة!
*

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!